بسمة الشوّالي - حلم.. قصة قصيرة

تبسّم النّهار خجلا لمّا فاجأته الشّمس ممدّدا في حجر اللّيل يغمغم حُلما.
نسائم تتلوّى من حرّ في الفضاء. المدينة تنهض من نومها على صفير القطار كسلى منتفخة الجفون ومنبّهات السّيّارات تنوب عن أصحابها في إضرام العراك الصّباحيّ بعد نَوْم أرِق.
تضوّعت ذاكرة المنزل، في غفلة من دلاء الماء وشراسة المكانس، روائحَها القديمة العطنة، وتنهّدت أركانه أسفا على شعب من الحشرات والقوارض الصّغيرة والزّواحف والطّيور الدّاجنة كان يعْمُرُه موفور الأمن والغذاء.
إثر ليلة عمل مُضْن، كان الجوّ يعبق بعطور المبيدات الحشريّة وسوائل التّنظيف، والجدرانُ المفعمة بللا تلتمع ويتأوّد منها بخار أمْيَسُ استثارته لمسات الشّمس.

وحده تراب الحديقة فَقَدَ بهذه العطور بهجة رائحته وبقي وجهُه بعد المكانس الوحشيّة مغضّنا بجراح متقاطعة.
غضضتُ الأسف عن أب أراه طيفا يهيم في منزله كدِرا غضبان، عاريا إلاّ من وسخ كثيف يلبسه، أخفج متهدّما، راكضا خلف عربة نقل الأوساخ ليسترجع "ثروته"، طاردا الرّياح السّامّة لينقذ "شعبه المختار" من الإبادة ، ولمّا أعجزه ذلك، مرّ بي غير راض وجلس على طفلة نخلة تقوّس ظهرها يوليني إهمالا منكرا..
عذرا أبي ورحمة توسّع عليك قبرك. هذه مدينة متكبّرة لا تحفل بمجنون يعيش عقله في مكان واحد. وجوده المروَّع بحقائق وحده يعرفها يبلبل هدوءها، وتلوّث الأوساخ التي كانت تُخْصِبُ وحدته المتعالية على البشر صورتها في عيون المدن الأخرى. الجيران من حولك أبي، كانوا يخجلون بك فيقفلون ظهورهم على منزلك، ويتآمرون عليك في غفلتك مع مكانس البلديّة. كانوا على نظافة فاحشة وثراء متجبّر وكنتَ الشّامة السّوداء التي تلطّخ وجه الحيّ الجميل الرّاقي.

تنفّستُ عطر النّظافة بزهو نسائيّ منتش وأنا أشيّع رائحة القتل الشهيّة إلى شرفات المباني المتطاولة حول المنزل وأبشّرها بالفتح.
صاح ديك ففزعتُ: "من أين عاد هذا إلى هنا؟" طار رشيقا أحمر فحرّك جناحاه الهواءَ صافعيْن وجهيْنا المتقابليْن نفورا وريبة : اِمرأة ذبلت زينتها تفترش جذع شجرة وتجلس على مرمى هواجس وأسئلة من رجل يغطس في سُهوم عميق وينكُش الأرض بعقب ناي.
كان الحنق يتوهّج فيّ كلّما ابيضّ النّهار.
- يا لَقِطعة الصّقيع.. !يجلس على قاب فتنة منّي ويزورّ نظره عن مغازلتي.. أهو سلام المُتّقين وبصرهم المغضوض يا نجاة ؟
- بل هي طاقيّة العفاف يتخفّى بها الخبيث حتى لا أطرده من المنزل ككلّ مرّة.
- أليس تفطّن للشّيب يغتسل من أصباغه عند غدران العين؟
- لا.. لا تجزع يا وجهي فتنفضح. هيّا اثبتْ. تجمّل بالضّحك وقرّ خديعة. تبرّجتُ بما يكفي لأضلّل كلّ فضول.
لم أكن لأطرده المرّة. شعور غريب تواطأ معه. ربّما كان فيه حقّا شيء من ذهول أبي وحضوره المفعم بالشّرود.
لم أنس أجوبته الغريبة ذلك اليوم. كانت أكثر توْها منه. غمرني وقعها حتى نهاني عن الفهم شوق عتيق لأب فصّل حياته على مقاس كيس كبير للقمامة.

- من أنتَ؟ سألتُ بخوف أبله.
- عابر عراء، جاء يستتر من السّقوف المزركشة بالأبواب النّخرة.
- بل لصّ وقح يقتحم المنازل جهرا وبلا قفازات. سأُبْلغ عنك الشّرطة إن لم تغادر تاركا ما سرقت.
- كان هناك لصّ صغير كلّما أنهى رسم خطة للثّراء تهافت النّاس على حلمه، دخل يوما يسرق سرّ مكان عافه جميع النّاس فسطا عليه المكان ثمّ طرحه ثريّا لكن.. دون ذلك البريق الذي يلمع أكثر إذا تداعى عليه الحاسدون..
إنّ للمكان أيادٍ خفيّة تهب وتمنع، تأسر وتعتق.. ألا تعتقدين في ذلك سيّدتي؟
- آنسة.
- لِمَ عدتِ إذن إلى منزل أب وسخ هجرتِه حفاظا على اسمكِ نظيفا منه ؟ هيّا.. لنوقدْ سيّدتي شموعا لكلّ مكان يسرقنا ولْنُدِم الدّعاء لتلك الأيادي المباركة.
آنسة.. آنسة.. معتوه فضّ بليد النّظر. أتراني ترهّلْتُ كسيّدة مشقيّة ؟
أنا لا أعتقد في ذلك. لكلّ عُمُرٍ يا هذا مكان يُغنيه. اليوم، لا يسرقني غير مكان يشكو كثرة العيال.
صمتَ.
رأيتُ الأذى يترقرق أحمر في عينيه الزّائغتين وصفرة وجهه ترتعش على شفتيه. تضاءلتُ خوفا واستكنت لخدعة الفهم والتّعقّل لكلّ ما يقول. أحرّك رأسي موافقة وأبحث بعينيّ عن شئ ما أدفع به الشرّ عن نفسي إذا هاجمني . ولكنّي لم أترك شيئا في الحديقة يُنْجدني..
غبيّة أنا، أبعد خيبات ماطرة آمن لرجل ..؟ لا تجْبُنْ يا صوتي عند الصّراخ.
كأنّما كان يصغي إليّ ..
اِستأنف:
- لا تقولي كم بيتا نزلتُ وقولي كم منها أثِمَ فيّ، كم منها تطهّر بي.. من الأماكن ما ندخل إليها فتغنى نفوسنا أو تفتقر، ومنها ما نفقد فيها بعض أثاثنا الدّاخليّ ولا نفطن لفعل السّرقة حتى ندخل مكانا سواه.. لا أحد يقاصص مكانا بفعل السّرقة، فنحن لا نرفع الشكوى إلاّ حنينا لتلك الأماكن السّارقة..

طوبى للمجانين.. يعيثون فينا قولا وفعلا ولا يُسألون. يأخذنا بهم الهزء ونشفق منهم وتحسدهم سرائرنا على حريّة نَجْبُن دونها. من ذا يسألني لو أصرخ الآن بملء عقلي المخذول:
"أيّها النّاس أريد أن أنجب طفلا قبل اليأس"

طلع النّهار لاهثا كأنّه يجري مطاردا بهجمة الشّمس، تدحرج بسرعة من ذروة النّسيم اللّيليّ إلى أطراف ظهيرة حامية رعت خضرة الصّباح وتركته شائك الملمس كأرض قيظٍ.
الشّمس تتّجه صوْبي ومجلسي يحْمَى بين جنبيّ. كان عَلِيّ ٌ يجلس بُعيْد غيظ منّي مُدَلّى الرّأس . يدٌ تتأرجح على إحدى ركبتيْه والأخرى تحفر التّراب اليابس بِنايِ أبي . "أيعزف النّاي مثله ؟"
تأمّلت شروده الجميل، يُهْملني فيأسرني. أحبّ رجلا لا يتهافت عَلَيَّ وأكرهه إذا انصرف عنّي تقيّا. رَعَتْ عيناي سواد كلإ يغزُر على ذراعيه حتى نهاهما كمّ القميص. تسلّقتا جانبا من صدره إلى رأس منكّس، سيكون هذا الرّأس بحجم كفّيّ لو تهاوى تعبا.. كان وجهه يستظلّ بأجمة دكناء من شعر يسرح على جانبيْه ثمّ ينسدل على الكتفين لامعا لاويا أطرافه فيفتن الأصابع بيديّ . كتفاه المعقودان كانا.. نهض مضطرب الملامح منفعل الحركات. لقد شبّت فيه شهوات جامحة .. نهضتُ. رعش فرح في قلبي وهمستُ:
" مازلتُ امرأة تولم للفتنة في قلب الرّجل.."
رأيت ذهولا بديعا يخيّم على وجهه ويستر عنّي تفاصيله. اِنسحق التّراب تحت قدميه وملأتْ قامتُه المعتدلةُ وجه السّماء. ركد نسيم ثقيل كان يخبّ بيننا. الزّرقة في أوج الصّفاء. وأحلامي تنسج فساتينها من بياض ناعم منتوف يتكدّس في الأعلى. النّوافذ العالية مغلقة بَعْدُ.
أنفختِ الشّمس في قطعة الصّقيع نارا واشتعل بها الحبّ نهِما؟ لا.. بل جنّ فيه الجنون.. إنّه يتأهّب شرسا لينقضّ عَلَيَّ.. هيّا افتحن النّوافذ والشّرفات أيّتها النّساء، لا تسترقن إلينا النّظر من خلال السّتائر لتؤثّثن بسيرتنا أمسياتكنّ. اُمْدُدْن لي أصواتكنّ عَوْنا إذا نزل بي بلاء..
تحرّك نحوي. في العقد الثّالث من العمر ولن يزيد عليه إلا نيفا من السّنين. يصغرك سنّا يا نجاة، يصغرك كثيرا.. أيّ مخبولة أنت؟ إنّه فتى معتوه.. لقد أصابك العَنسُ بالخَرَفِ قبل الأوان. اِقترب منّي.. لا صوت لي فأصرخ، لا أقدام فأفرّ. أنا قطعة الصّقيع.. محض جمود.. الحديقة شاسعة وبابها الخارجيّ بعيد عنّي. سيلحق بي سريعا.. يقترب منّي.. أنكفئ على نفسي كدودة مذعورة.. أراني أسيل ضعفا بين ذراعيه تارة وأراني تارة أخرى أتضرّج بجراحي ووجهي مكدوم.. يدنو.. يلامسني..
بل يكاد.. يمرّ بي مُعْرضا ويخرج.. كان الباب خلف ظهري مباشرة..

******
ما الذي جاء بي ؟
ليس الحنين حتما لمنزل أعافه وأخاف ذاكرته، ولا شوقا لأب كانت حياته الغريبة سببا وجيها في عَنسي.
ما الذي جاء بي حقّا ؟

منذ خيبة وأنا أكنّس ذاكرة النّسيان لنسيان جديد وأنجّد فناءها بالمواعظ والعبر إعدادا للخطوة الأولى ما بعد الأربعين فشلا.
قمت ذات ضجر عن قعودي الباكي فخلعت عنّي لباس أحلام رثّ بالتكرار وارتديت وقار العمر. بدوْت أعلى من السّقوط بغصّة وأنا أنتعل حزنا عاليَ الكعب. اِبتسم شحوب وجهي عندما شهقت قامتي ارتفاعا عن مرآة ضوْؤها خبيث يتكسّر على شعري ملمّعا حُبَيْباتِ الشّيب فيه .
نزلتُ ضحى من القطار فألقى بي صفيره إلى أدغال العمر حيث يسكن صخب طفولتي البائدة. دمع قلبي ورفّ حنينا لحضن أبي..
كان العالم في عيوني المغرورقة يسبح في بركة شاسعة من السّراب وأنا أسير فيه سير خبطٍ يُرْعِشُه الحذر خوف أن تزلّ قدمي ثانية في هوّة وَهْم أحسبها حقيقة.
هو ذا منزل والدي. ما زال بابه خشبيّا متصدّعا يتساقط ضجيجا لكلّ دفعة. كان دائما بابا مواربا يرفع عن المقتحم إثم الخلع وعن الفضول تهمة التلصّص. ومازال البحر على مسافة شاطئ منه، يُولِيهِ وجها مسطّحا لا قفا له ، في صمته جزم وفي وضوحه كسْر لكلّ الاحتمالات الرّصينة والأفعال الهادئة: هذا هلاك مُغر يتشظّى على صخوره وهذا حنان زلِق ينبسط مَشْفى لِحُمّى العاشقين.
أزّ باب المنزل الدّاخليّ يزجّ بي في رطوبة تعتّقت بالرّكود وصار لها رائحة حضن عَرِق يلتفّ حول الأنفاس بشدّة الشّوق ووجع البعاد. الجدران تقشّر لحافها وبرزت عظامها. النّوافذ رَمَدَتْ لأجيال الذّباب المتعاقبة عليها. الأثاث نزير بَلِيَتْ نقوشه وبهتت ألوانه، يلتفع برداء من الوسخ أسود كعنكبوت عجوز تجلس على طرف الفخاخ وتستذكر الفرائس التي مرّت من هنا.. اِلتفّتْ حول عنقي رائحة المكان ضاغطة فامتلأتُ دموعا وقيئا.. مرّ بين قدميّ فأر.. خارتْ مفاصلي، تميّزتُ رعبا.. الغرفة تعجّ بالفئران والقضم عند أطرافي يجري حثيثا. العناكب تسير نحوي متلمظة وشباكها غليظة تتهاوى عليّ وتشلّ حركتي بسائل لزج كالغراء. القطط تكشّر عن الشرّ في مخالبها. الدّجاجات مصوّتات ينهشنني بمناقيرهنّ. الزّواحف تلوّح بالسّموم على أطراف ألسنتها.. هبّ الهلاك من كلّ فرد وحدب وتآخت عليّ القبائل المتعادية.. تشبّثتُ بفردة الحذاء الباقية وهرعت إلى الحديقة. عَرِقَة اللُّهَاث كنت، مرتعشة النّبض، تلتصق خصلات شعري بجبيني وتشعث تسريحته، أتساقط على الأرض الوسخة خائرة الدّم غير مبالية بفستاني الجميل. لم أهدأ إلا بكاء. كانت ذكرى أبي الذي أهملتُه سنواتِ مرضه قد خنست في نفسي وسواسا.
كان النّدم يصهل داخلي ويركل جنبيّ كفرس جموح منذ أن غَرِق كعب لفردة من حذائي الدّقيق بين الحجارة المحاذية لسكّة القطار. تركت الكعب في المحطّة وسِرْت إلى المنزل بأناقة عرجاء.
لم أكن لأسير دون حذاء على حفا مستقيم في مدينة مترفة البريق موصدة الأبواب، تستقبلك بإهمال يريحك وتنصرف عن شأنك ريثما تعتاد، ولكنّك ستدهش لمّا تجد أنّها تعرف كلّ تفاصيلك الدّاخليّة.
قاسٍ هذا النّدم كضمير تحيّن وعكة الذّنوب لينهال عليّ حسابا حاميا. ماكر، ينظر إليّ إشفاقا يضمر شماتة. أراه يلبس ثوب رأفة تقيّة ويعتلي منبرا أعلى ضعفي تجريحا. يخطب في هزائمي بصوت خفيض مغرضة رقته: " لم الرّجوع يا نجاة؟ لمن الرّجوع ؟ ما كلّ عود بمحمود ولا كلّ من أكل التّراب نعاله متقدّم في سيره.. تريّثي، مازال في قدميك بعض حرارة للتّراجع ومازالت الشقّة التي ورثتها عن أمّك قيد إعلان البيع بَعْدُ. لا تعجلي، بعض الخطى كبعض القرارات، تجزمين بها ذات عنفوان طائش فتجزم كثيرا من أفراحك المقبلة، كبُقَع البَهاق ستظلّ هي، كلّما غضضتِ عنها التذكّّر نبَقَت لك في مكان آخر من النّظر.. لِمَ نجاة كلّ هذا الفشل؟ "
"لأنّ العمر يا ندم لا يحفل بحرارة الطّريق ولا بعنفوان السّير، وهذه الأربعون تُغير على قوافل الخصب فتسلب الوجه نَضْرته والجسد خضرته و تفشي في أرضه البوار.
الجراد المطمئنّ لا يغادر أرضا حتى تكون حصيدا. "
وأطأطئ غروري إذّاك فترفع فتنتي المذلولة بالكِبَر أعذارها في وجه النّدم الشّامت، ويَقْدِمُ وجهي من تحت المساحيق نظيفا كالعاري، متلعثما كالخجِل، متخفّيا كمن تلاحقه شائعة قبح، فتبدو كلماته دون قِرمِز يضيئها رطبة عتيقة العبارات: " لا عليك يا نجاة. كلّ من يسقط في حضرة العيون يحتجّ بالتدحرج فيضحك مع الضّاحكين ليرفع عن الوجه حرج الحمرة ويغصّ القلب مستترا بجراحه.. غياب خطيبك لم يكن مجرّد هجر . على حافّة العمر تركك.. بوسع القلب أن يهاجر خلف الدّفء كالطّيور لكنّه لا يحمل مثلها وطنه على جناحيه.. لا يقطع أنفاس القلب غير الرّكض حلما من أجل عشّ واحد موفور الأمن.. لا.. لا تحفلي بكِبْري يا نجاة وانظري إليّ.. تأمّليني.. كم تكبرين عندما يرفع عنك تيْنِك النّظرتين الهائمتين ، تشردين خلفهما ولا تعودين حتى تسْبَيْ.. كم تجزعين كطفلة مغلقة دونها الأحضان لمّا يعلق جنونه على مشجب التعقّل ويطفئ طيشه بصمت وقور.. يجلس قبالتك فتتذرّعين بالذّهول، أتخشين أن يسترق انتباها للذّبول يعتري زهور العمر؟
- .. وأخشى على ذلك الطّفل ألاّ يعود لصدري بعد الفطام..
- قد تهدّمت به طريق الرّجوع إلينا يا نجاة فلا تُعَبِّدي مزيدا من مسالك الوهم..

اِصطفق باب المنزل الخارجيّ فانخلعتْ أواصري وانكمشتْ ذاكرتي المنفوشة. أهذا عَلِيّ؟
كان قد رحل ولم يرجع منذ ذلك اليوم. تقول إنّك وَأَدْتَ الحلم المحرّم وتُبْتَ عن الوهم؟ كذبتَ يا قلب. إنّك تحبّ من جديد وتهتزّ مرّة أخرى نشوة لمقدم رجل.
اِنتظرتُ عودته أحلاما مكرّرة وفي غفلة من الترقّب جاء. جميل رجوعه بعد غيبة تكفي لتفاجئه. ستدهشه ثورة المنزل وحديقته. الباب الخارجيّ هو الوحيد الباقي على قِدَمِه. خشيتُ أن يزدجره قفل بباب.
تذرّعتُ بعدم الاهتمام أكتم الأغاني التي انفجرت فيّ وأواري عنه فرحا شبّ ينفخ في انطفاء عينيّ. عجّلت أرتّب هيئتي وأحسن التبرّج. عدت فمحوت زينة وجهي إلا ما خفّ منها. لا تنفضحي بالشّوق أمامه يا نجاة. ولكنه عاد إلينا.. هيّا يا قلب قم عن الشّكوى واستبدل فشلا بعرس.. يجرجر خطاه ويمشي كجريح. لهفي عليه.. متعب شديدا. له وجْهُ عاطلٍ بائسٍ ويأسُ شريدٍ. فارّ من شقاء مسطور على جبينه.. إلى أين؟ هذه مدينة راكضة لا تحفل بالعُرْج والبُتر والحالمين.. تعال عَلِيّ. تعال إليّ يا صغيري.. حَسَنٌ أن عُدْت. اُدن منّي.. لك حضن بكر لم تمْسَسْه غمغمة، غالب السّقوط أربعين سنة وسقط مهزوما بلا طفل ينهب دفأه أو زوج يقدح شوقه ثمّ يعود متأخّرا بصبر عسير.. كُنْ طفلي الذي أباهي به العمر الأجدب. لمن كلّ ما فيّ من لهفة وحنان وتفجّع؟ تعال.. أنا المَنجى.. الحبّ مأوى والأمل قوت. سنقتسم الحياة شظفا ونعيما ونُغنِي فقر الوقت بضحك العيال. هل تحبّ الأطفال يا عَلِيّ ؟
اِلَتحَفْتُ بالظّلام السّابت مستترة وقلبي مُنتبه يسترق السّمع ويعدّ أنفاس خطاه الثّقيلة تذرع الحديقة جيئة وذهولا.. قمر يتمشّى على مقربة من نافذتي ويبارك فرحي، ونجوم تتهافت على حُسْنِه غير عابئة بالهلاك . القطط خلف المنزل تتقاتل من أجل بقيّةِ دَسَمٍ بعظام ألقيتها بعد العشاء. الدّيك يصيح في أحلامه. الجنادب تطنّ في الحديقة. بغيضة هذه الحشرات. سأستبدل تربتها الصّاخبة بصمت الرّخام النّاعم. بأيّ شعور كان أبي يعيش وسط كلّ ذلك العفن؟
أتناوَمُ ولا أعبأ بوجوده. التّمنّع يجمّل المرأة يا نجاة والرّجل يحبّ أن يُصدّ ليزهو بفعل المبادرة. اِستثيري ثقته أوّلا..
دنت خطواته من باب الغرفة. تحفّزت أذناي لفعل الطّرق. لم يطرق. لم يكن الباب مقفلا. ضغط على زرّ الكهرباء فاستضاءت في وجهه الكارثة..
من أين لي أن أعرف أنّ الجمال كارثيّ إلى ذلك الحدّ؟ السّتائر مخمل ينسدل أغنج. الزّهور ألوان ترفرف. البُسُطُ حدائق فيْحاء. الأثاث زخارف نابضة. التُّحَف ذوق ترِف. الجدران الدّاخليّة بعضها زهر يلتهب وبعضها بياض يترقرق على حواشي الغروب وغرفة النّوم.. كالبحر الغائب كثيرا يُقبل شوقا وَلِهًا على شاطئ طال به الانتظار..
أنفقتُ أكثر ميراث أمّي لأُنْسِيَ المكان أوساخ أبي فأعود طفلة جذلى كما كنت، وأكبر في المنزل امرأة أخرى لا تحمل جينة جنون وراثيّ ولا شبهة وسَخ لا يُقشَّر بماء.. عفوك أبي.. لتسكنْ في رحمة الله. كنتُ بك امرأة يخشى النّاس العطرون أن يلتاثوا بنسبها..

*******
فتحتُ عينيّ .
جسمي بَرْدٌ مُلقى كأن لا حياة لي فأنهض، ومفاصلي شتّى. الصّراخ أصداء تطنّ بأذنيّ. أنظر الآن إلى ما قبل هذا الوَهَن بوَعْي، أسمعُني أصيح بفزع العمر الذي انقضى فتعصف رمضاء في هذا الحديد المُلقى ويتهيّأ ليمتلئ بدم جديد.
الغرفة طمأنينة تتهادى. هفهف حولي دفء مخمليّ الألوان هامس الرّفيف واستفزّني عطر لذيذ المذاق. أنفاس لاهثة مازالت تهمهم تحت الملايا. بخورٌ يخالط رائحة البسباس المغلّى. اِمرأة شابّة تنحني لهفة على طفل وليد وترضعه.. الإبر اللاّهبة تخز صدري والغيرة الباكية الحاقدة شديدا تداهمني: البغيضة تلبس فستانا منزليّا شفّافا على مقاس أحلامي الخائبة وتجلس أمامي ببراءة شامتة.. سألتُ بحسد قاتم :
- أين أنا؟
- سلامتك سيّدتي..
- آنسة.. آنسة.. آنسة.. أتريْنني أتوكّأ على عصا؟ أنا لا أكبرك إلا بحظّ سيّء.
- آسفة. لم أقصد غير التّوقير..

(منافقة، خبيثة ، ماكرة . قصدتِ إهانتي )
- أنت يا آنسة على مقربة من منزل والدك. عَرَتك فوضى واضطربتْ مشاعرك فصرتِ تنطقين كلاما كالهذيان وتأتين أفعالا منفلتة كالجنون ثمّ تهاويْتِ إغماء فأصعدتُك إلى هنا حتّى تستردّي هدوءك.
- من أنت ؟
- علياء..
علياء!
الخَدَر هو الذي عقلني، أذلّني. دائما كلّما لزم الدّفاع عن وقوفي أفقد ركبي وأسيح في مبركي كقطعة سكّر بين الشّفاه. فقدتُ أمامها قامتي تماما كنشوة متوارية باغتها الضّوء فصارت حلما خرِفا لا طعم لها، لا رائحة، لا إثبات.. تشقّقْتُ كطينة جافّة لم تعمّد بنا.. أنا هنا إذن، في الطّابق الثّالث من البناية التي على أيمن منزل والدي، حيث تقيم حبيبة عَلِيّ.
طفلة وديعة هذه المرأة ورقّة ميساء. صِبًا يزداد بالطّمأنينة فتوّة . وجه يَنْضُرُ بالقبل يوما بيوم. طفل بين ذراعيها .. لا شكّ أنّي الآن وجه تضحك فيه التّجاعيد بملء انكماشها في غيبة المساحيق وأنّها على ثقة تماما بهزيمتي في قلبه.. أكره صِباهنّ هذا، أمقته. يجعلني في أربعينيّتي على قارعة الشّهوات، يمرّ بي الغزل متعة عابرة وينلن هنّ الزّوج المطيع وينجبن الأطفال بمواقيت يخترْنها كما يُرِدْن.. وهو؟ أين هو؟ كيف صعدتُ إلى مذبح القلب هذا..؟ أهو الذي حملني بين ذراعيه حتّى.. هنا؟
الدّمع على شفتيها يُبْرِقُ ونظراتها ترتعش ويروّعها الحنين كلّما أوغلت في أعطاف ذاكرة لم تخْبُ يوما. تغيب عنّي لاهثة خلف طيفه المنسحب من عينيها وتترك لي كلاما لا يعنيني بفهم ولا يفعل إلاّ أن يرتّب أحلامي أثافي لعُمر يحترق شيبا وجرَدا..
قالت:
- كنتُ أُطِلّ عليه دائما من خلال السّتائر. كان بدء مجيئه إلى هنا بعد موت صاحب المنزل، منذ بضعة شهور. أراه يهيم في الفراغ الواطئ على مسافة نافذة متعالية من الذّكريات. يشتمّ عطري ولا يبالي بي.. كان رجلا موحّدا في الحبّ يموت فيه شهيدا ولا يُلحد وكنت من المشركين، امرأة تحبّ بحسبان..
تلك اللّيلة كانت ذكرى زواجي الأولى وتمام الأربعين يوما من عمر ابني. أسْمَيْته عَلِيّا. رأيتك تعدّين المنزل فاخرا بهيجا كليلة حبّ أولى فخشيت عليك غارة وعْي يَمْخَض فيه نصّ أشْوَهُ حانت ولادته ولن يقبَله غير ذلك الخضمّ المتوحّش. كان يُعِدّ مقتل الفشل في مسرحيّة هو بطلها المتعدّد .

مذ دخل وهو أهْوَجُ. أضاء الحديقة. أشعث الرّأس والوجه. فتح قميصه. بان صدرٌ وحدي أعرف سِِعَته. وقف القمر فوق رأسه مباشرة يوزّع الضّوء على الأشياء بمقدار. تكاثفت الظّلال وتراقصت حواليه كأنّ مصباح الكهرباء قد انخرط في لعبة الإخراج. اللّيل المأخوذ بسكونه المائج يتحاشى الاصطدام به، ينشر الصّمت بين الأحياء وينعش فوضى المكان.. جرى مقوّسا محرّكا ذراعيه كجناحين وقفز أعلى جذع الشّجرة المبتور وصاح جهيرا:

- كوكوريكو.. كوكوريكو..أنا الدّيك بلال .. طلع اللّيل يا مطمئنّين حيّ على الفزع حيّ على الخطر.. كوكوريكو.. أقيموا اللّيل عِزّة يا أذلاّء النّهار..

ونفخ في النّاي حتى سمع النّداءَ شعبُ الهوامّ وأهل الذِلّة بالنّهار فتنادوا مُغسقين من كلّ جُحْر عميق وشقّ سحيق وفجوة في جدار رتيم يتزاحمون بالمناكب والذّيول والمناقير.. غصّت باحة الاجتماع طنينا وغطيطا وفحيحا وقوْقا وخشخشة مخالب وطقطقة أسنان..
خرس النّاي وصفّق بلال بجناحيه فتفرّق اللّغط وأصاخ المجتمعون للدّيك يشمخ عُرْفه إماما وتقدح عيناه حبّتان من قلق ..
قال بلال :
-اِسمعوا شعبَ الهوامّ وعُوا ما أنتم سامعون.. قد كنتم في اطمئنانكم تعمهون: تكسلون وتتخمون وتحشون الجلود شحوما ولا تسألون عمّا قد يُبْدَى لكم فتستاؤون. اِختلف اليوم عن الأمس. عند الباب تتضافر المكانس والمجارف وخراطيم الماء تأهّبا لغزو أرضكم وتبديد وطنكم بحضارة لمّاعة عطرها السّمُوم وبريقها الموت الزّؤام فانظروا اللّيلة ما أنتم غدا فاعلون.. قد رضي لكم صاحب الدّارِ الدّارَ حِمىً آمنا مُتِمّا عليكم فضل الوطن راحلا عنكم قريرا. فمن شاء منكم لحق به إلى المقبرة ومن شاء خلع حريّته وصبغ وجهه ملتحقا بإخوانه في الدّور ومن شاء فليضرب في هذه الأرض بحثا عن القوت ولْيحْم موطنه هذا من كلّ بشر نظيف يستظلّ بالحديد ويفترش الرّخام ويتعطّر برائحة القتل..

لم يكد بلال ينهي خطبة الدّجى حتى انقضّ عليه جرذ ضخم فنهش العباءة التي على كتفيه وهمّ ينتف ريشه صائحا فيه زاجرا:
- أكلّما غاب صاحب الأرض هرعتَ إلى عباءتك واعظا خطيبا تلوك الكلمات ذاتها وتشيع الفتنة في الغافلين، ألا تفلح في غير الصّياح يحرّضنا على الموت من أجل أثاث نخِر لا قوت فيه غير كِسَر خاوية إلاّ من نثار؟

اِنقلب المشهد عراكا لمّا لحقت بالجرذ القطط تتسابق لأكله وهبّت له ذوات الأجنحة تدافع عن سلالتها.
طار الدّيك عاليا وحطّ على السّطح. اِلْتوَت الأعناق صَوْب فأر آخر صغير رصين الهزء يسنّ أسنانه بلحاء شجرة جافّ ويقول :
- السّيّد الدّيك يا أخي يحمي ترَفه هذا ومجلسه ذاك بدمائنا يضخّها في الشّوارع فتتلهّى فيها المكانس حتى يحْقِب هو وذووه أمتعة الهرب إلى منزل آمن بالرّيف ثمّ..
- بل الحقّ ما يقول - قالت كبيرة الخمّ – لقد اعتدنا على هذه الأرض الآمنة ومددنا فيها نسلنا وأنشأنا عليها مساكننا ولسنا نغادرها لجصّ يحتلّ شقوقها أو عطور تدنّس تربتها أو نباتات مائعة الرّائحة تفسد هواءها أو قطط رخوة وكلاب منزوعة النّباح تفسد فيها..
- تسقط النّظافة تعلو أرضنا..
- الدّور.. الدّور يا فئران..
تناسل الخلاف فكلّ يردّد شعارا يهواه..
لم أدْر حتى اللّحظة كيف تسنّى لعَلِيّ أن يقفز بتلك الخفّة حتى الأعلى. ظلّ مَحْنِيّ الظّهر، مطبقا ذراعيه محرّكا رأسه يمنة ويسرة في جزع وتوتّر..
التّناحر في أسفل يَحْمَى. ذهب الأمن. هجم القويّ على الضّعيف: قتلى وجرحى وفارّون.. كأنّ النّظافة الواقفة على بابهم قد فتحت حواسّهم على العداء الطبيعيّ الذي يسكنهم. تساءلتُ حينها: ما الذي كان يؤلّف بين طباعهم المفترسة فيتآخون فيما بينهم سلاما آمنين ويشرسون مع الغرباء؟ أهو الغذاء يؤمّنه لهم صاحب المنزل بعطف أبويّ أم تلك الأوساخ التي كان يجمّعها في منزله بحسب ما يهوون؟ كان هذا الرّجل كريها لدى الجميع. اُعذريني يا آنسة. كان رجلا لا يطاق كمنزله. أنت إحدى قريباته أم ابنته؟
- أنا.. "أغْبُوِيمْبا".. يا سيّدة جنونه..
فغرتْ دهشتها فيّ وسهمتْ هنيهة ثقيلة من المفاجأة. اِبتسمتُ هُزوا مستعيدة قامتي، ملمّعة كبريائي. أربكتُ غرورها. اِقتحمت خلوتها بعَلِيّ في منعطف قصيّ للذّاكرة.. أنا أعرف أسرارها وأعرف كيف تخلّت عنه للتّشرد واستبدلت نفسه القلقة بسقف مستقرّ.. وأعرف أيضا بأيّ الأسماء ألتحِف تعاليا على نساء أخريات ينافسنني عليه.
لم تكن لتعود للسّرد لو لم أحثّها:
- ثمّ ماذا يا سيّدة علياء؟
تعتعتْ جملا جافّة قبل أن يتزوّد حلقها بالرّواء الكافي:
- اِنطفأت الأنوار وأضاء النّاي نغما كسيرا على مرتفع من الحرب الدّائرة في وطن شعب الهوامّ. كانت النّظافة قد دخلت شرسة ناهبة . تقشّر وتجرف وتغسل وتطلي الجدران وتهدم الخِمَمَة وتردم الجحور والحفر وتبيد وترشّ الموت من قوارير أنيقة فائحة وتحرق ما تطال من الجسوم أحياء، فتفرّق النّاجون منهم متشرّدين مغتربين في الشّوارع النّظيفة المضاءة كامل اللّيل تنوشهم القطط المنحرفة، وتسطوا عليهم الكلاب السّائبة، وتدهسهم العجلات المسرعة ، ومن استجار بالدّور الأنيقة ابتلعته المكانس الكهربائيّة..
وخلت أرض الهوامّ من الهوامّ إلاّ الأجِنّة في بطونها..
تصاعد النّاي أنغاما باكية تسرد سيرة الحزن الشعبي وتؤثّث الصّمت بين الفصول. كان عَلِيّ يرتدي حينئذ هيئة أرض ثكلى: ثوب مبقّع بالدّماء وشعر حصدته الحرائق ووجه مجروف بوحشيّة. جلست الأرض تحت بقعة ضوء طافية على يمّ الظّلام تنفخ أوجاعها وتبكي موتاها فتُبكيني. تجهش وتنوح فيتنفّس دمعها الصّعداء وأبتلع غُصَصي مختنقة خشية أن يستيقظ زوجي.. ثمّ انطفأ القمر وأسدل اللّيل السّتار على الفصل الأوّل..
أزعجتكِ ثرثرتي بين المشاهد يا آنسة..
- أغْبُوِيمْبا.. لم تكبري بَعْدُ لتعرفي هذه الأسماء ..
لفظتُ الاسم بانكسار لم يَخفَ عليها فانصرفتْ عن ألمي إلى سرد أحداث تبتدع أكثرها لتمدّد زمن الحديث عنه دون شبهة خيانة:
- معذرة آنستي. سأسرد عليك ملخّصا للفصل الثاني من المسرحيّة وعندما تستعيدين عافيتك تماما أعيده عليك مفصّل المشاهد إن شئت:
اِبتدأ الفصل الثاني مع طلوع الفجر. كان الدّيك بلال أحد النّاجين القلائل في تلك الحرب النّظيفة وأوّل المتسلّلين إلى أرضه.
كان منتوف الرّيش، مشروخ المنقار، يعرج على ساق واحدة. لم يجد في موطنه مئذنة لإعلان الصّلاة غير جذع شجرة خفيض لا يُسْمِع من به سَهْوٌ ولا يوقظ غافلا، فجاهد قفزا أعرج إلى سطح المنزل متخفّيا عن أهله الجُدُد وجال بأركانه الأربعة يكرّر الآذان مرّات ويستجمع المشرّدين فاتحا لهم في الحنين دهاليز سريّة تعيدهم إلى أرض الوطن و..
- سأزجّ به في السّجن هذا المخبول ليُنهيَ مهزلته هناك، أمّا أنتِ فاخجلي أن تتلصّصي على رجل غريب من غرفة نومك وزوجك غافل.. كيف سوّلتْ له نفسه أن يُفْرغ في بيتي أقفاصا من الفئران والسّحالي والطّيور المتوحّشة ؟ سيُعيد الحبس رشده ويُنسيك ذكرَه وتموتان كمدا..

كان سمعي قد عيل فانتفضتُ غضبا ونقمة. لملمتُ مفاصلي الواهنة واستقمتُ خروجا وبي فرح شامت أن قذفتها بهزيمتها في حياته. بتنا متساويتيْن الآن: مهزومتان في رجل واحد يتّقي الفشل بالجنون ويضغث في يقظته متذرّعا بمسرحيّة لم أفهم مشهدا واحدا منها.
أوصلني السّرد إلى تمام الوعي فتذكّرت ما كان.. لم يعد ذلك المجنون شوقا إليّ. كان يؤلّف وطنا جديدا من الهوامّ والقوارض ألقاها في منزلي فأباد الجمال الذي أبدعتُ وبعثر المال الذي أنفقتُ ليقيم نصّا بلا عقل.

*******
صفّر القطار يوقظ الهجوع ويستثير غضب الصّمت ولعناته. النّهار يتنفّس بحرج. الشّرفات تروّح عن مفارشها اللّيليّة وملابسها الدّاخليّة على مرأى الصّفير كنساء ينزعن حياءهنّ قطعة فقطعة على ملإ الأرصفة ليرفعن عنهنّ شبهة البداوة .
إنّه نفس القطار الذي جاء بي إلى منزل الطفولة محمّلة حقائب وفشلا وآمالا جديدة وقد مرّ اليوم في نفس الموعد ليعيدني من حيث أتيتُ دون حقائب..
عندما غادرتُ شقّتها أمس، استقبلني غروب يافع يشهد على يوم ثقيل قضيته عندها فكان لزاما أن أقيم على خِيفة جزوع ليلة أخرى في منزل والدي.
يا لسهولة الدّمار! المكان استعاد ذاكرته بأسرع من جبل يتصدّع خشية: ما كان من نسيج فهو مزق تتدلّى، وما كان من صلب فهو شِقف تتبعثر أو غبار يترسّب.. العناكب تسترخي في الزّوايا تفتل أراجيحها. الدّجاجات ينجّدن خِمَمَة جديدة بقشّ وثير وأغصان يانعة. الفئران تتقاسم أفياء التّرف المهجور. القطط تفترش فساتيني الجديدة.. الصّمت ثقيل يتهاوى على فوضى المكان، يتنصّت لهمهمات المشاهدين وعبارات الثّناء التي لم يلفظوا وارتعاشة الأكُفّ التي لم تصفّق بما يكفي لينام الممثّل بعد عسر ملء عرقه السّكوب.
خرجتُ فرارا. نقمتُ عليه وعليها، طأطأت الرّأس للنّدم المنتصر كما سيذلّ الحيّ الجميل التّرِف غدا أمام الوسخ الكاسح يختال في قلبه ثانية عندما تنفتح الشّرفات على وطن الأوساخ يزدهر ويصطخب من جديد..
اِستجرتُ بالبحر المستلقي في دوْح ليليّ ناعم قبالة المنزل وعلى أعطافه مجلس أبي المسائيّ وهو يعزف نايه للرّمل والأسماك..
أيّها البحر إنّي امرأة هلوع أجرني.. ولكن كيف تجير امرأة يا بحر وليس لها في قلبك ما للرّجال من عرائس الحور..؟
كم ظالم وشهيّ أنت يا بحر، تمنحهم هَوًى خُلّبا يُغريهم بلذّات الحتف وتخلّف للنّساء قوارب الانتظار على ثكل أو ترمّل أو عنس..
أعدتُ حقّا حنينا لوطن الطّفولة أم جئتُ أقتنص رجلا يتردّد على منزل والدي؟
أحببته بائسا لأطعمه وشريدا لأدفئه فكان رجلا عسير اللّفظ ، غيرَ بائس ولا شريد، غريبَ النّفس، أعوجَ الطّبع ، خلع عنه مدينته التي تجاور هذه بذخا وبريقا وركن إلى منزل ينحرف طقسُه عن سواء الأحداث الأليفة .

كلّما أوْغل القطار نأيا عن رائحة البحر نشفتْ ذاكرتي من الدّموع وبقي نثار كلماته الأبيض ملتصقا بقاعها..
جلس إليّ ليلا عند مدّ البحر وقال :
- لا ترحلي يا نجاة.. رجاء لا ترحلي.. سامحيني عمّا اقترفتُ.. اِقبليني زوجا.. عرفتكِ قبل أن تريني وأحببتك قبل أن تجيئي.. كان دائم الحديث عنك..

نبض رحمي . نسيت كلّ ما فعل.. يطلبني للزّواج.. يحبّني .. سأنجب طفلا وأصبح أمّا وزوجة في سنة واحدة ..؟ هل أبادر فأضمّه ؟
- وهي ؟
- وَحْيُ الكلِم ومَدَدُه .
- وأنا ؟
- مُعتقل الجنون وجميلة الحياة اليوميّة..
- الوسخة ؟
- تطهّرتُ من الحبر . مازلتُ صغيرا.. أردتُ أن أتشبّه بجنونه فقذف بعضي بعضي بالفشل.
عندما يطوّق المرء نفسه بحلم واحد يجهز عليها لحظة يتحقّق .. غدا سأستأنف عملي. أعِدُك أن أعيد إصلاح ما أفسدتُ وأعدك بالفرح ما استطعت له احتمالا..
هل تصدّقين أنّ والدك كان مجنونا يا نجاة ؟ كلاّ ، لم يكن كذلك . كان رجلا يعيش وعْيَه بحريّة لا يتقنها سواه. وكانت المدينة تبغضه لأنّه يعرض على مشاهد العيون صورها المخبوءة ويفتح الأسئلة على غرفها الدّاخليّة فتخجل كلّما مرّت من أمامه أن تتبجّح ببريقها. الصّدق مشقّة لا يركبها إلاّ الكبار..
تزوّجيني ولْننجب للصّدق حفيدا.. اِتّخذني أبوك ولدا له في سنته الأخيرة فعَقَقْتُ الحياة اليوميّة لأجله. تعيسة روح تفطن لأَنِيسِها يوم الفراق وأتعس منها من لا تعرفه مطلقا ..
إذا قبلتني زوجا أصبحتُ على رَحِم به..

وقفتُ .
مازال رجلا مُبهما يقول ما لا أفهم ويوقفني بين حدّيْ الفرح والقلق..
ولكنّه يَخْطبني على مشهد من البحر ويعدني بطفل . يسعى إليّ بالأسف عمّا اقترف ويُشهد على صدقه الدّمع. صدره هذا الذي تعرف سِعَتَه تلك المرأة هديّته لي .. ماذا بعد ..؟
تريّثي يا نجاة.. أبقيه منتظرا على شوق يصْلى وادّعي التّفكير مليّا. لا تستعجلي الرّدّ . لم يبق في عمرك متّسع لتتكرّر العزّة مرّة أخرى ..

أكلّما تغيّرتْ وجهة الرّحيل تركتُ بعضي على قارعة الانتظار ملفوفا في ورق الأمل الشّفّاف وعليه خدعة منّي بالرّجوع ؟ لكأنّني أختزن سربا من اللّقالق توحّدها طريق السّفر وتفرّقها الأعشاش فبعضي ينأى عن بعضي ولكلّ حاجات مختلفة .
عند فجر لم يبزغ أجمل منه قبلا حزمتُ الرّدّ.
كان لا بدّ من إغماءة يوم واحد لأكتشف أنّ الفشل حَمْل عسير ينجب الأشْوَهَ والسّليم، الحيّ والميّت ومن به صمم أو غير بصير.. وأنّي خلق جديد لم تتميّز حالته بعد.
كم أحبّك الآن يا رجلا هجرتني على أعتاب اليأس من أجل طفلة في منتصف عمري وتركتني أتسوّل زوجا وطفلا لا تلحقه لعنة الجنون . ما كنت لأعرف أنّ لي والدا يُعتزّ بنسبه لو لم تكن خسيسا. ما كنت لأحبّ عَلِيّا هوى جمّا..

أقبلتُ على عَلِيّ فجرا رائقا وكان يفترش الرّمل ويتوسّد ذراعيه. اِستفاق لحفيف خطاي واستقام وديعا يستعجلني الرّدّ. نفضتُ حبّات الرّمل عن ظهره وشعره ذي الخصلات الملتوية المنسدل على كتفيه. تزوّدتُ بوجهه مليّا والفرح يُرْجفُ جفنيّ.. أجمل من الطّفل الذي سأنجبه هذا الطّفل. خفّ ثانية يطلب ردّي.. رعش الجواب على شفتيّ وتبعثرت الكلمات التي أعددتها له..
يستعجلني مجدّدا.. ماذا أقول له؟ كيف أستر الفرح الغامر الذي يذهب بكبريائي. لا يليق مثل هذا الارتباك المُخجل بامرأة ذات أربعين شتاء..

اِستجمعت شتات قوّتي ووهبته منزل والدي عن جذل جنونيّ بعرضه الزّواج منّي.. واعتذرتُ عن القبول به زوجا..
من الخطإ أن أسكن جانب حبّ أوّل ما زال ينزف حنينا وفي منزل يتشبّث شديدا بذاكرته.. ومن القسوة أن يموت هذا الصّغير صغيرا جوار امرأة أولى تحبّ بحسبان وفي حضن ثانية لا تعتنق مذهبه في الصّدق.

كان القطار يمتلئ بالبشر في كلّ محطة فتتلاطم الأجسام وتتنوّع ألوان الملابس وأشكالها، ويختلط الكسْوُ بالعُرْي وتتزاوج العطور المختلفة اختلاف المعاني المرسلة في العيون الضّاحكة، لكنّ روائح الأحذية العفنة والأبطاء العَرِقة والأجسام المتّسخة كانت تزكو وتتطاول مع اشتداد الحرّ داخل العربات. وكنتُ أقف منزوية عن نفسي، غريبة عنها، بوجه فقير القسمات لا ألوان تزيّنه وشعر مشدود إلى الخلف، أتمايل وأهتزّ على حذاء واطئ الكعب أنتعله لأوّل مرّة منذ غادرت الطّفولة.
كان يَدْفقُ بين جوانحي طرب جامح يُرقص دمي كما لو كنت طفلة جذلى تمشي على كومة من القطن المنفوش، وسؤال لَجُوج يَطِنّ في ذهني..
ترى هل أدرك شقّة أمّي قبل أن تباع ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى