تجلس السكرتيرة على مكتبها الصغير وهي تحدق بشاشة الحاسوب. باقي المكاتب خالية. تتلقى اتصالا على هاتفها.
- أهلا..
يأتها صوت خطيبها:
- كيف حالك؟
ترد ببرود وهي تحدق بالشاشة مركزة على لعبة الكوتشينة:
- بخير...
يصمت الخطيب ثم يقول:
- أين أنت الآن؟
ترد بذات البرود:
- في المكتب..
يصمت الخطيب مرة أخرى ويبدو عالقا في شرك ، ثم يقول:
- حسن.. المكتب صامت جدا..
ترد:
- هذا لأنه لم يحضر أحد..
- آآآ.. رغم أن الساعة الثانية ظهرا..
تصمت قليلا وتقول:
-جميع المحامين في المحاكم..هذا موعد حضورهم...
تقول:
- دقيقة .. كن معي على الخط..
تذهب إلى الحمام وتتبول ثم تغتسل وتتمخط وتخرج منعطفة نحو مطبخ صغير فتسكب من سخان مائي بعض الماء على كوب وتضع عليه قهوة ثم تكر عائدة إلى مكتبها وتجلس متابعة اللعب على الحاسوب:
- ألو..
تقول ببرود فيرد هو ببرود أيضا:
- ألو..
تسأله:
- لماذا أنت صامت؟
يجيبها:
- أعتقد أنك مشغولة بشيء.
- لا .. لا شيء عملي سيبدأ بدخول أول محام للمكتب..
يقول:
- حسن.. سأحاول لقاءك غدا في المنزل...
- حسن.. سلام..
تظل السكرتيرة تلعب حتى يدخل أحد المحامين ومعه محامية.
المحامي:
- لماذا لم تسأليه عن ذلك؟
المحامية:
- قلت لك أنني لم أتذكر في تلك اللحظة..
بدا الغضب على المحامي:
- هذه نقطة جوهرية يا أستاذة فكيف يفوت عليك ذلك؟
تجيبه بتوتر:
- أنت نفسك تنسى بعض الأسئلة وهذا طبيعي فنحن بشر ولسنا آلهة...
يوجه المحامي حديثه للسكرتيرة:
- مدينة..هل طبعت لي مذكرة الدفاع؟
تجيبه ببرود وهي لا تزال تلعب:
- نعم .. هل تريد نسخها الثلاثة..
- نعم أرجوك.. وضعي عليها الدمغات..
تفتح السكرتيرة درجها وتخرج الدمغات ثم تعطي أمرا للحاسب لكي يطبع النسخ. حينها يدخل المحاميان إلى المكتب.
يعود المحامي ويقول:
- أين الولد؟
تجيبه ببرودها المعهود:
- لم يأت...
يتجه نحو المطبخ:
- سأصنع قهوتي بنفسي فلن استطيع تحمل الانتظار أكثر من ذلك..
تصمت السكرتيرة ولا تجيب.
ينفتح باب المكتب وتدخل محامية نحيلة وهي تصيح:
- قرف منذ الصباح الباكر .. كلهم مهملون...
تلتفت نحو السكرتيرة وتقول بصلف:
- صباح الخير..
ولا تنتظر ردا بل تدلف إلى مكتب آخر فتغمغم السكرتيرة:
- صباح النور في الساعة الثانية ظهرا...
تصدر ضجة في الخارج فتعتدل السكرتيرة في جلستها وهي تغمغم:
- لقد وصل..
يدلف محام طويل القامة وضخم الجثة ؛ يرتدي بدلة وربطة عنق ويحييها وهو يعبرها فتقول بسرعة:
- لقد وصل حكم الاستئناف..
يتوقف ويسألها:
- أين هو؟..
تفتح الدرج وتخرج ورقتين مدبستين فيأخذهما ويقرأهما وهو واقف.
- غبية..
تفتح السكرتيرة عينيها جزعا فينظر لها ويقول:
- أقصد القاضية..
يقول ذلك بغضب ويدخل إلى المكتب.. ثم يعود ويسأل السكرتيرة:
- أين الولد؟
تجيبه ببرود:
- لم يحضر..
- وهل اتصل معتذرا؟
- لا..
- من سيعد لنا وللموكلين الشاي والقهوة..
تمط شفتيها وتستمر في لعب الورق فيدخل إلى مكتبه ويغلق بابه.
يدخل رجل في الخمسين من عمره ، متوسط الطول وهزيل ، يرتدي جلبابا أبيض وعمامة بيضاء تدور حول رأسه في شكل مخروط مقلوب. يتوقف أمام السكرتيرة ويسأل:
- جئت الصباح وأخبرتني أن الأستاذ سيحضر في منتصف النهار..
قالت ببرود ودون أن تتوقف عن اللعب:
- نعم...
سألها:
- متى سيحضر؟
- لقد حضر بالفعل..
صمت قليلا ثم قال:
- متى سأقابله؟
قالت:
- الآن..
رفعت رأسها وأشارت بحنك وجهها إلى المكتب فمضى نحو الباب وتوقف أمامه قليلا ثم طرق الباب ودخل.
ألقى التحية على المحامي الجالس في كرسيه الوثير ثم جلس قربه. كان المحامي يقرأ حكم الاستئناف من خلف نظارته وبعد دقائق قال دون أن يتخلى عن القراءة:
- مرحبا بك..
قال الرجل بسحنة متوترة:
- لدي مشكلة يا سيدي..
قال المحامي دون أن يغير وضعه السابق:
- نعم...؟
كان الرجل يتوقع اهتمام المحامي به ، مع ذلك فقد غامره إحساس بأن هذا هو المحامي الذي يبحث عنه...(محام كبير فعلا).. قال في نفسه ، واصل قص مشكلته:
- توفي والدي قبل خمسة وعشرين عاما.
سأل نفسه: هل يسمعه عن كثب؟ ولم يجد بدا من افتراض ذلك فاستطرد:
- كان جدي يملك ورشة صغيرة لإصلاح عجلات الباصات وقد تولى والدي إدارتها .. لم يعد جدي يعمل وترك كل شيء لوالدي الذي استطاع تطوير العمل حتى أصبح صاحب مال كثير...ثم توفى والدي فجأة .. وأصبح جدي وارثا لوالدي ومعه أخوته...ولم يعطنا أي شيء..
حرك المحامي رأسه وقال:
- ما دام لوالدك ابناء فالتركة تركتكم انتم وليس للاخوة شيء.
أدرك الرجل أن المحامي منتبه فقال:
- ولكن جدي وأعمامي لم يعطونا شيئا من التركة.
قال المحامي:
- ما دام لوالدك أبناء فالتركة تركتكم إلا إذا كانت كل الأموال باسم جدكم.
ابتلع الرجل غصة في حلقه وقال بذعر:
- نعم ولكننا ابناؤه..انا وشقيقتي وأمي لم نرث شيئا...والدي هو من أدار كل شيء...جدي لم يكن يعمل..جدي وأبناؤه الآخرون كانوا لا يفعلون شيئا. ثم أن جدي لم يعطنا شيئا.. لم يعطنا أي شيء لقد عشنا على الكفاف...لم استطع إكمال تعليمي وعملت والدتي وأختي كبائعتي شاي..أي عدل هذا؟
أخرج المحامي أوراقا أخرى من درج مكتبه وأخذ يقارنها بحكم الاستئناف.
قال الرجل:
- ألا يوجد قانون يحمينا..أنا لا أريد نقودا..أنا أريد حقوق والدتي وأختي وتعويضا عادلا عن سرقتنا طوال هذه السنين .. صحيح جئت متأخرا ولكننا كنا صغارا وأقل وعيا من اليوم.. لقد صار أبناء أعمامي مليونيرات بمال أبي في حين أننا لم نتمكن حتى من اكمال تعليمنا أنا وشقيقتي.
بدا الامتعاض على وجه المحامي الذي همس دون أن يرفع عينيه عن الورق:
- سواء جئت الآن أو قبل ألف سنة فهذا لن يغير من الأمر شيئا..
صاح الرجل وهو يبكي:
- ولكن كيف ..أي عدالة هذه .. أي قانون هذا...
ازداد امتعاض وجه المحامي فقال:
- يمكنك أن تذهب لمحام آخر ربما يكون أكثر علما مني بمسائل الميراث...
أسقط في يد الرجل ، وتعمق شعوره بأن هذا محام لا يشق له غبار فقال:
- سأعطيك نسبة من التركة اربعين في المائة .. فقط أعد لنا حقوقنا.
وضع المحامي الأوراق ونظر للرجل وقال:
- يا سيدي.. أنا لا أحتاج للأربعين في المائة.. والدك توفى قبل جدك وبالتالي فليس له ولا لزوجته التي هي والدتك ولا أنت ولا شقيقك أي حق في تركة جدك.
قال الرجل بانكسار:
- ولكنه هو المالك الحقيقي لهذه الأموال وليس جدي؟.
قال المحامي:
- هذا قانون...ولا أستطيع تغيير القانون.
قال الرجل بغضب:
- قانون ظالم..لماذا يضعون قانونا ظالما...؟
تراجع المحامي مسترخيا فوق مقعده ثم قال وهو يلعب بقلم الحبر الجاف:
- لأنه قانون الله...هل لديك اعتراض على الله؟
صاح الرجل:
- غير صحيح..الله لا يضع قانونا ظالما...
قال المحامي:
- اسأله هو ولا تسألني أنا يا سيد... هذا ليس مجال تخصصي.. اسأل شيخ دين.. وليس أنا...
صمت الرجل ثم مسح عينيه بكم جلبابه وظل جامدا فعاد المحامي للقراءة في أوراقه.
دخل المحامي الذي كان مع المحامية فسأله المحامي:
- كيف سار السماع؟
أجابه الآخر:
- تصور يا أستاذ إنها لم تسأل الشاهد عن رؤيته للعقد؟ قلت لك دعني أقوم بمهمة السماع لكنك أصررت.
نظر المحامي لأوراقه وقال بغير اكتراث:
- لا بأس...هل وصل الولد.
أجابه:
- الولد اتصل قبل قليل قال بأنه مصاب بإسهال حاد.
- ومن سيضيف ضيوفنا؟
- لا أعرف...
قال المحامي وهو يشير للرجل:
- أنا آسف لأننا لم نقدم لك شيئا يا سيدي .. ها أنت ترى ما حدث..
همهم الرجل بكلمات غير مفهومة وهو مطأطأ الرأس.
قال المحامي:
- أرجوك استمع لمشكلته يا أبا ذر .. فإن وجدت أي ثغرة قانونية فتولى القضية بدون أتعاب...
شعر الرجل بالبهجة فقاده أبا ذر إلى مكتبه. وهناك سرد الرجل قصته فقال أبا ذر:
- حقا تلك مشكلة كبيرة..لكن دعني أحكي لك يا سيدي مأساة امرأة أخرى .. أنت كرجل تستطيع تحمل هذا الظلم ولكن ما بالك بامرأة مقطوعة من شجرة في هذا العالم..
بدا الاهتمام على وجه الرجل فقال أبو ذر:
- كانت قبطية جميلة ليس لديها في هذا العالم سوى زوجها المسلم. للأسف حينما توفى زوجها لم ترث منه لأن القانون يمنع التوارث بين مختلفي الدين ..فتوزعت التركة بين إخوة زوجها ولم تنل منها شيئا..لقد توسلت لإخوته أن يتركوها تسكن في منزل زوجها لكنهم رفضوا وطردوها شر طردة فصارت متشردة تعمل هنا وهناك لكي تقيم أود نفسها...
قال الرجل بغضب:
- ولكن هذا ظلم.. هذه القوانين يجب أن تتغير...
شبك أبو ذر أصابعه وقال:
- للأسف لم يحدث هذا حتى الآن.. لا أريد أن أغرقك في التفاصيل لكن الجدل حول هذه المسائل حساس جدا...هل تفهمني؟
أغمض الرجل عينيه بقوة وفتحهما دلالة على فهمه فأضاف المحامي:
- لقد مضت على قصتك هذه سنوات طويلة وأنت اليوم رجل ولديك أبناء .. حتى لو أعطوك المال فلا تأخذه لأنه سيكون مجرد حسنة وصدقة..وأنت لن تقبل ذلك على نفسك..
كرر الرجل اغماض عينيه وفتحهما مع انحناءة صغيرة من رأسه إلى اليمين ثم قال:
- صحيح..
قال المحامي:
- إن كنت تظن بأن حقك وحق شقيقتك ووالدتك قد ضاع فأنت مخطئ..فالله عادل دائما في قسمته وأحكامه.
قال الرجل:
- حقيقي... وأنا والحمد لله أملك دكان تصليح عجلات صغير.. صحيح أن دخله ليس كبيرا ولكنني استطعت تربية ابنتي من ماله الحلال.
قال أبو ذر:
- تصور أن إخوة زوج المسيحية تلك قد خسروا كل أموالهم .. لقد أصيبوا بأمراض صعبة... وهي استطاعت العمل في منظمة دولية وتحسنت أحوالها بعد ذلك.. هل رأيت حكمة الله؟
ابتسم الرجل بنشوة ..
وهكذا استمر الحوار بينهما إلى أن غادر الرجل والرضى يغمر وجهه وشفاهه المبتسمة.
(تمت)
- أهلا..
يأتها صوت خطيبها:
- كيف حالك؟
ترد ببرود وهي تحدق بالشاشة مركزة على لعبة الكوتشينة:
- بخير...
يصمت الخطيب ثم يقول:
- أين أنت الآن؟
ترد بذات البرود:
- في المكتب..
يصمت الخطيب مرة أخرى ويبدو عالقا في شرك ، ثم يقول:
- حسن.. المكتب صامت جدا..
ترد:
- هذا لأنه لم يحضر أحد..
- آآآ.. رغم أن الساعة الثانية ظهرا..
تصمت قليلا وتقول:
-جميع المحامين في المحاكم..هذا موعد حضورهم...
تقول:
- دقيقة .. كن معي على الخط..
تذهب إلى الحمام وتتبول ثم تغتسل وتتمخط وتخرج منعطفة نحو مطبخ صغير فتسكب من سخان مائي بعض الماء على كوب وتضع عليه قهوة ثم تكر عائدة إلى مكتبها وتجلس متابعة اللعب على الحاسوب:
- ألو..
تقول ببرود فيرد هو ببرود أيضا:
- ألو..
تسأله:
- لماذا أنت صامت؟
يجيبها:
- أعتقد أنك مشغولة بشيء.
- لا .. لا شيء عملي سيبدأ بدخول أول محام للمكتب..
يقول:
- حسن.. سأحاول لقاءك غدا في المنزل...
- حسن.. سلام..
تظل السكرتيرة تلعب حتى يدخل أحد المحامين ومعه محامية.
المحامي:
- لماذا لم تسأليه عن ذلك؟
المحامية:
- قلت لك أنني لم أتذكر في تلك اللحظة..
بدا الغضب على المحامي:
- هذه نقطة جوهرية يا أستاذة فكيف يفوت عليك ذلك؟
تجيبه بتوتر:
- أنت نفسك تنسى بعض الأسئلة وهذا طبيعي فنحن بشر ولسنا آلهة...
يوجه المحامي حديثه للسكرتيرة:
- مدينة..هل طبعت لي مذكرة الدفاع؟
تجيبه ببرود وهي لا تزال تلعب:
- نعم .. هل تريد نسخها الثلاثة..
- نعم أرجوك.. وضعي عليها الدمغات..
تفتح السكرتيرة درجها وتخرج الدمغات ثم تعطي أمرا للحاسب لكي يطبع النسخ. حينها يدخل المحاميان إلى المكتب.
يعود المحامي ويقول:
- أين الولد؟
تجيبه ببرودها المعهود:
- لم يأت...
يتجه نحو المطبخ:
- سأصنع قهوتي بنفسي فلن استطيع تحمل الانتظار أكثر من ذلك..
تصمت السكرتيرة ولا تجيب.
ينفتح باب المكتب وتدخل محامية نحيلة وهي تصيح:
- قرف منذ الصباح الباكر .. كلهم مهملون...
تلتفت نحو السكرتيرة وتقول بصلف:
- صباح الخير..
ولا تنتظر ردا بل تدلف إلى مكتب آخر فتغمغم السكرتيرة:
- صباح النور في الساعة الثانية ظهرا...
تصدر ضجة في الخارج فتعتدل السكرتيرة في جلستها وهي تغمغم:
- لقد وصل..
يدلف محام طويل القامة وضخم الجثة ؛ يرتدي بدلة وربطة عنق ويحييها وهو يعبرها فتقول بسرعة:
- لقد وصل حكم الاستئناف..
يتوقف ويسألها:
- أين هو؟..
تفتح الدرج وتخرج ورقتين مدبستين فيأخذهما ويقرأهما وهو واقف.
- غبية..
تفتح السكرتيرة عينيها جزعا فينظر لها ويقول:
- أقصد القاضية..
يقول ذلك بغضب ويدخل إلى المكتب.. ثم يعود ويسأل السكرتيرة:
- أين الولد؟
تجيبه ببرود:
- لم يحضر..
- وهل اتصل معتذرا؟
- لا..
- من سيعد لنا وللموكلين الشاي والقهوة..
تمط شفتيها وتستمر في لعب الورق فيدخل إلى مكتبه ويغلق بابه.
يدخل رجل في الخمسين من عمره ، متوسط الطول وهزيل ، يرتدي جلبابا أبيض وعمامة بيضاء تدور حول رأسه في شكل مخروط مقلوب. يتوقف أمام السكرتيرة ويسأل:
- جئت الصباح وأخبرتني أن الأستاذ سيحضر في منتصف النهار..
قالت ببرود ودون أن تتوقف عن اللعب:
- نعم...
سألها:
- متى سيحضر؟
- لقد حضر بالفعل..
صمت قليلا ثم قال:
- متى سأقابله؟
قالت:
- الآن..
رفعت رأسها وأشارت بحنك وجهها إلى المكتب فمضى نحو الباب وتوقف أمامه قليلا ثم طرق الباب ودخل.
ألقى التحية على المحامي الجالس في كرسيه الوثير ثم جلس قربه. كان المحامي يقرأ حكم الاستئناف من خلف نظارته وبعد دقائق قال دون أن يتخلى عن القراءة:
- مرحبا بك..
قال الرجل بسحنة متوترة:
- لدي مشكلة يا سيدي..
قال المحامي دون أن يغير وضعه السابق:
- نعم...؟
كان الرجل يتوقع اهتمام المحامي به ، مع ذلك فقد غامره إحساس بأن هذا هو المحامي الذي يبحث عنه...(محام كبير فعلا).. قال في نفسه ، واصل قص مشكلته:
- توفي والدي قبل خمسة وعشرين عاما.
سأل نفسه: هل يسمعه عن كثب؟ ولم يجد بدا من افتراض ذلك فاستطرد:
- كان جدي يملك ورشة صغيرة لإصلاح عجلات الباصات وقد تولى والدي إدارتها .. لم يعد جدي يعمل وترك كل شيء لوالدي الذي استطاع تطوير العمل حتى أصبح صاحب مال كثير...ثم توفى والدي فجأة .. وأصبح جدي وارثا لوالدي ومعه أخوته...ولم يعطنا أي شيء..
حرك المحامي رأسه وقال:
- ما دام لوالدك ابناء فالتركة تركتكم انتم وليس للاخوة شيء.
أدرك الرجل أن المحامي منتبه فقال:
- ولكن جدي وأعمامي لم يعطونا شيئا من التركة.
قال المحامي:
- ما دام لوالدك أبناء فالتركة تركتكم إلا إذا كانت كل الأموال باسم جدكم.
ابتلع الرجل غصة في حلقه وقال بذعر:
- نعم ولكننا ابناؤه..انا وشقيقتي وأمي لم نرث شيئا...والدي هو من أدار كل شيء...جدي لم يكن يعمل..جدي وأبناؤه الآخرون كانوا لا يفعلون شيئا. ثم أن جدي لم يعطنا شيئا.. لم يعطنا أي شيء لقد عشنا على الكفاف...لم استطع إكمال تعليمي وعملت والدتي وأختي كبائعتي شاي..أي عدل هذا؟
أخرج المحامي أوراقا أخرى من درج مكتبه وأخذ يقارنها بحكم الاستئناف.
قال الرجل:
- ألا يوجد قانون يحمينا..أنا لا أريد نقودا..أنا أريد حقوق والدتي وأختي وتعويضا عادلا عن سرقتنا طوال هذه السنين .. صحيح جئت متأخرا ولكننا كنا صغارا وأقل وعيا من اليوم.. لقد صار أبناء أعمامي مليونيرات بمال أبي في حين أننا لم نتمكن حتى من اكمال تعليمنا أنا وشقيقتي.
بدا الامتعاض على وجه المحامي الذي همس دون أن يرفع عينيه عن الورق:
- سواء جئت الآن أو قبل ألف سنة فهذا لن يغير من الأمر شيئا..
صاح الرجل وهو يبكي:
- ولكن كيف ..أي عدالة هذه .. أي قانون هذا...
ازداد امتعاض وجه المحامي فقال:
- يمكنك أن تذهب لمحام آخر ربما يكون أكثر علما مني بمسائل الميراث...
أسقط في يد الرجل ، وتعمق شعوره بأن هذا محام لا يشق له غبار فقال:
- سأعطيك نسبة من التركة اربعين في المائة .. فقط أعد لنا حقوقنا.
وضع المحامي الأوراق ونظر للرجل وقال:
- يا سيدي.. أنا لا أحتاج للأربعين في المائة.. والدك توفى قبل جدك وبالتالي فليس له ولا لزوجته التي هي والدتك ولا أنت ولا شقيقك أي حق في تركة جدك.
قال الرجل بانكسار:
- ولكنه هو المالك الحقيقي لهذه الأموال وليس جدي؟.
قال المحامي:
- هذا قانون...ولا أستطيع تغيير القانون.
قال الرجل بغضب:
- قانون ظالم..لماذا يضعون قانونا ظالما...؟
تراجع المحامي مسترخيا فوق مقعده ثم قال وهو يلعب بقلم الحبر الجاف:
- لأنه قانون الله...هل لديك اعتراض على الله؟
صاح الرجل:
- غير صحيح..الله لا يضع قانونا ظالما...
قال المحامي:
- اسأله هو ولا تسألني أنا يا سيد... هذا ليس مجال تخصصي.. اسأل شيخ دين.. وليس أنا...
صمت الرجل ثم مسح عينيه بكم جلبابه وظل جامدا فعاد المحامي للقراءة في أوراقه.
دخل المحامي الذي كان مع المحامية فسأله المحامي:
- كيف سار السماع؟
أجابه الآخر:
- تصور يا أستاذ إنها لم تسأل الشاهد عن رؤيته للعقد؟ قلت لك دعني أقوم بمهمة السماع لكنك أصررت.
نظر المحامي لأوراقه وقال بغير اكتراث:
- لا بأس...هل وصل الولد.
أجابه:
- الولد اتصل قبل قليل قال بأنه مصاب بإسهال حاد.
- ومن سيضيف ضيوفنا؟
- لا أعرف...
قال المحامي وهو يشير للرجل:
- أنا آسف لأننا لم نقدم لك شيئا يا سيدي .. ها أنت ترى ما حدث..
همهم الرجل بكلمات غير مفهومة وهو مطأطأ الرأس.
قال المحامي:
- أرجوك استمع لمشكلته يا أبا ذر .. فإن وجدت أي ثغرة قانونية فتولى القضية بدون أتعاب...
شعر الرجل بالبهجة فقاده أبا ذر إلى مكتبه. وهناك سرد الرجل قصته فقال أبا ذر:
- حقا تلك مشكلة كبيرة..لكن دعني أحكي لك يا سيدي مأساة امرأة أخرى .. أنت كرجل تستطيع تحمل هذا الظلم ولكن ما بالك بامرأة مقطوعة من شجرة في هذا العالم..
بدا الاهتمام على وجه الرجل فقال أبو ذر:
- كانت قبطية جميلة ليس لديها في هذا العالم سوى زوجها المسلم. للأسف حينما توفى زوجها لم ترث منه لأن القانون يمنع التوارث بين مختلفي الدين ..فتوزعت التركة بين إخوة زوجها ولم تنل منها شيئا..لقد توسلت لإخوته أن يتركوها تسكن في منزل زوجها لكنهم رفضوا وطردوها شر طردة فصارت متشردة تعمل هنا وهناك لكي تقيم أود نفسها...
قال الرجل بغضب:
- ولكن هذا ظلم.. هذه القوانين يجب أن تتغير...
شبك أبو ذر أصابعه وقال:
- للأسف لم يحدث هذا حتى الآن.. لا أريد أن أغرقك في التفاصيل لكن الجدل حول هذه المسائل حساس جدا...هل تفهمني؟
أغمض الرجل عينيه بقوة وفتحهما دلالة على فهمه فأضاف المحامي:
- لقد مضت على قصتك هذه سنوات طويلة وأنت اليوم رجل ولديك أبناء .. حتى لو أعطوك المال فلا تأخذه لأنه سيكون مجرد حسنة وصدقة..وأنت لن تقبل ذلك على نفسك..
كرر الرجل اغماض عينيه وفتحهما مع انحناءة صغيرة من رأسه إلى اليمين ثم قال:
- صحيح..
قال المحامي:
- إن كنت تظن بأن حقك وحق شقيقتك ووالدتك قد ضاع فأنت مخطئ..فالله عادل دائما في قسمته وأحكامه.
قال الرجل:
- حقيقي... وأنا والحمد لله أملك دكان تصليح عجلات صغير.. صحيح أن دخله ليس كبيرا ولكنني استطعت تربية ابنتي من ماله الحلال.
قال أبو ذر:
- تصور أن إخوة زوج المسيحية تلك قد خسروا كل أموالهم .. لقد أصيبوا بأمراض صعبة... وهي استطاعت العمل في منظمة دولية وتحسنت أحوالها بعد ذلك.. هل رأيت حكمة الله؟
ابتسم الرجل بنشوة ..
وهكذا استمر الحوار بينهما إلى أن غادر الرجل والرضى يغمر وجهه وشفاهه المبتسمة.
(تمت)