مضى على تعيين الأستاذ [ حمدان العمر ] ، أكثر من ثلاث سنوات ، معلما وحيدا في قرية [ تل مكسور ] ، دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة ، بالرغم من حاجة أبويه العجوزين ، إلى خدماته في الأرض التي يتملّكانها ، فهو يرى نفسه كل شيء في [ تل مكسور ] ، فإذا انتقل إلى قريته ، ذهبت مكانته وهيبته ، ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه ، ليعمل في الأرض ، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح والديه .
لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ [ أبو قاسم ] بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .
وماكان يغريه في البقاء في [ تل مكسور ] ، ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه المزعوم .
ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ، مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه معلما وحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ، قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة ، [ من علمني حرفا ، كنت له عبدا ] ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة [ عبد] ، كل هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ، بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ، ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ، وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ، ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة .
إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي [ خديجة ] والدة تلميذه [ جمعة الخلف ] ، أجمل نساء القرية ، الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها نفرت من كل المحاولات .
ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها [ جمعة ] ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .
كان الأستاذ [ حمدان ] يقف على الكرسي ، يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم المسكين .
واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد [ حمدان ] على تلميذه [ جمعة ] ، وشاهد من خلال النافذة ، التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ، لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان [ جمعة ] بينهم ، اندفع [ حمدان ] إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :
ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.
خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه { حمدان } بنظره الحاقد صوب { جمعة } :
ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .
وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :
ـ لست أنا .. يا أستاذ 111..
ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .
ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة .
وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا قدمي { جمعة } إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا الأرملة .
تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم يسألون :
ـ ماذا فعل { جمعة } .. ؟ .
وكان الصغار يتولون الجواب :
ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .
والأستاذ { حمدان } منهمك بضرب الصغير ، غير عابىء بصراخه وتوسلاته :
ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .
وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه الأحداث ، جاءه صوت { خديجة } ، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض :
ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟؟111 .
فزعق [ حمدان ] بوجهها :
ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهمت ؟ .
اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع الأنفاس :
سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .
صرخت الأم بانفعال شديد :
ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ، وأية خرقة أخرى ...
زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :
ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين ـ من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..
اقترب المختار { أبو قاسم } ، يرجوه :
ـ يا أستاذ [ حمدان ] ، هذا ولد .. يجب ألا تؤاخذه ، على هذه الغلطة .
صاح [ حمدان ] :
حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!... والله سأكتب تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية ...
... سأذكر وجهة نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .
ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته .. بإرباكه .. وصرخ :
ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .
نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر [ أبو عيشة ] أن يساند [ حمدان ] ، حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من ل[ خديجة ] ، أرملة [ نايف ] ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .
تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم [ أبو نواف ] ، وطبع قبلة على شارب المعلم ، وتشجع [ أبو ممدوح ] ، فعزم على الجميع ، أن يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ... هكذا راح يقسم .
وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد [ حمدان ] ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .
كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ، مستعطفة ، حتى [ خديجة ] ... تهدجت كلماتها من الفزع .. وهي تتمتم :
ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...
ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو يزعق بتلذذ :
ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا ..
انصعقت [ خديجة ] ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ... عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ، المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير ولدها [ جمعة ] في خطر ، فابتلعت الإهانة ، وضغطت على جرحها ، وقالت :
ـ سامحك الله يا أستاذ [ حمدان ] ، لو كنت تعرف أي الرجال ، كان [ أبو جمعة ] ، لما اتهمته بالخيانة .
أدرك [ حمدان ] نقطة الضعف عند غريمته ، فعزم على تمريغ اسم المرحوم :
ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .
وهنا فقدت [ خديجة ] رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه [ حمدان ] :
ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى تقول عن [ أبي جمعة ] جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ، لتعرف من هو [ أبو جمعة ] ، أنت مجرد نذل .. حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .
واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع [ حمدان ] مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان حاضرا ، من أهالي [ تل مكسور ] يد [ خديجة ] الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ، بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .
مصطفى الحاج حسين .
حلب
لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ [ أبو قاسم ] بأنه رجل مسنود في المحافظة ، بأن أبرز لهم بطاقة غريبة ، على أنها بطاقة أمنية ، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة ، كما اشتهر بقسوته وبطشه ، وكثيرا ما كان يبتسم في سره ، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار .
وماكان يغريه في البقاء في [ تل مكسور ] ، ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل ، فقد سكن في أحسن البيوت ، وأكل أشهى الطعام ، بفضل دعمه المزعوم .
ومن دواعي استمراريته في هذه القرية ، مغامراته الجنسية فيها ، فهو يستغل وضعه معلما وحيدا ، يستشيره الجميع في كل الأمور ، قانون ، سياسة ، زراعة ، وحتى أمور الدين ، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة ، [ من علمني حرفا ، كنت له عبدا ] ، مشددا بتلذذ عظيم على كلمة [ عبد] ، كل هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات ، بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته ، وعاداته ، وملبسه ، ومشربه ، ومن هذا المنطلق ، يصر على ارتداء طقمه البني ، وقميصه البرتقالي ، وربطة عنقه الحمراء ، في كل الأوقات ، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ، ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي ، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة .
إنه يرى في شخصه ملكا ، في هذه القرية الغافلة . لكن ما ينغص عيشه هي [ خديجة ] والدة تلميذه [ جمعة الخلف ] ، أجمل نساء القرية ، الأرملة ، والوحيدة ، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه ، أو يتسلل إليها ، فالبيت قريب ، ولكنها نفرت من كل المحاولات .
ذات يوم طرق بابها ، بعد منتصف الليل ، فرجع مغسولا ببصقة ، مازال يحس وقعها على وجهه ، مما جعله يتنازل ، وبدافع شهوته المتقدة نحوها ، ويعرض عليها الزواج ، فتعللت له بولدها ، وبأنها نذرت حياتها من أجله ، فأضحت جرحه الكبير ، وتحولت شهوته إلى جرح عميق ، انصب على ولدها [ جمعة ] ، فصار يضرب بعد الدلال .. رغم تفوقه ، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه ، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله .
كان الأستاذ [ حمدان ] يقف على الكرسي ، يتلصص من خلال النافذة ، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم ، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي ، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس ، ويبدأ التحقيق معه ، وفي النهاية تكون العقوبة القاسية ، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم المسكين .
واليوم ... حدث ما يبرر كل حقد [ حمدان ] على تلميذه [ جمعة ] ، وشاهد من خلال النافذة ، التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية ، لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية ، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان [ جمعة ] بينهم ، اندفع [ حمدان ] إلى الباحة الترابية ، وأطلق صفارة الإنذار ، فتجمد الدم في عروق الصغار ، اقترب من الكرة ، تفحصها جيدا ، ثم صرخ :
ـ من دس علم المدرسة ، مع هذه الخرق ؟.
خيم على رؤوسهم صمت رهيب ، وتوجه { حمدان } بنظره الحاقد صوب { جمعة } :
ـ أنت .. أليس كذلك ؟ .. قسما بالله سأسحقك .
وانبعث صوت الطفل ، مبهوتا لهذا الإتهام :
ـ لست أنا .. يا أستاذ 111..
ـ اخرس يا كلب .. هذا عمل لا يقوم به سواك .
ـ وحق المصحف يا أستاذ ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة .
وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ ، فرفعوا قدمي { جمعة } إلى الأعلى ، وانهال عليه بعصاه الغليظة ، فانطلق صراخ الطفل ، بريئا ، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت ، فالتم الناس على صوت العويل ، وأسرع بعض الصبية ، فأخبروا الأرملة .
تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال ، وجميعهم يسألون :
ـ ماذا فعل { جمعة } .. ؟ .
وكان الصغار يتولون الجواب :
ـ لقد صنع من علم البلاد كرة .
والأستاذ { حمدان } منهمك بضرب الصغير ، غير عابىء بصراخه وتوسلاته :
ـ أستاذ .. دخيلك .. أبوس رجلك .. اتركني .
وقبل أن تجد توسلات الصغير ، مكانا في قلب الأستاذ ، الذي كان يزهو داخليا ، لأنه مركز لهذه الأحداث ، جاءه صوت { خديجة } ، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض :
ـ لماذا تضرب ولدي هكذا ، يا حضرة الأستاذ ؟؟111 .
فزعق [ حمدان ] بوجهها :
ـ لأنه مجرم .. مخرب .. خائن .. هل فهمت ؟ .
اقترب الحاضرون أكثر من المعلم ، المتقطع الأنفاس :
سأبعثه إلى السجن ، قسما سأبلغ السلطات عنه ، هذه جريمة لا يسكت عنها .
صرخت الأم بانفعال شديد :
ـ يعني ما حصل شيء ، ولد لا يفرق بين العلم ، وأية خرقة أخرى ...
زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة الكلامية :
ـ ولد ..؟!! .. لا يعرف قيمة العلم ؟!.. هذا غير صحيح ، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين ـ من منكم .. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة ؟؟!!..
اقترب المختار { أبو قاسم } ، يرجوه :
ـ يا أستاذ [ حمدان ] ، هذا ولد .. يجب ألا تؤاخذه ، على هذه الغلطة .
صاح [ حمدان ] :
حتى أنت يامختار ؟؟؟!!!... والله سأكتب تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية ...
... سأذكر وجهة نظرك هذه يا أبا قاسم : ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم ، في هذا الموضوع .. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم ، هذا موضوع خطير ، وأنتم لا تفهمون بالسياسة ، سأكتب ... ومن لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير ، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن ، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز ، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش ، ويسأله عن تقاريري ، كان يضرب المثل بها ، أمام رفاقي ، ومن هذه الناحية ... أنا لن أخسر شيئا ، سوى كتابة التقرير ، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه ، ثم تأتي الدوريات .
ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى ، حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى ، وكتم بهجته .. بإرباكه .. وصرخ :
ـ أرجوك يا جناب المختار ، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها ... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك .
نشر الخوف ظلاله على الجميع ، وتعثرت الكلمات على شفاههم ، مرت لحظات منحوته من دمع وظلام ، حار الواقفون ، وطال صمتهم ، فكر [ أبو عيشة ] أن يساند [ حمدان ] ، حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من ل[ خديجة ] ، أرملة [ نايف ] ابن عمه ، التي رآها واقفة بانكسار .
تردد أصحاب النخوة في مواقفهم ، وتقدم [ أبو نواف ] ، وطبع قبلة على شارب المعلم ، وتشجع [ أبو ممدوح ] ، فعزم على الجميع ، أن يتفضلوا إلى داره ، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ ... هكذا راح يقسم .
وانكبت خالة الأرملة العجوز ، على يد [ حمدان ] ، تقبلها ، وتبللها بدموعها .
كثرت التوسلات ، وتعالت الأصوات ... مسترحمة ، مستعطفة ، حتى [ خديجة ] ... تهدجت كلماتها من الفزع .. وهي تتمتم :
ـ هذا طفل يا أستاذ ... لو كان رجلا ...
ولم تكمل كلامها ، حتى انتفش كالطاووس ، وهو يزعق بتلذذ :
ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا ..
انصعقت [ خديجة ] ، توقعت كل شيء ، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة ، وحاولت أن تتمالك ، فلتصمت ... عن هذه الإهانة ، فالجميع يعرفون من هو زوجها ، المهم الآن ... أن تستعطف هذا الحاقد ، لأن مصير ولدها [ جمعة ] في خطر ، فابتلعت الإهانة ، وضغطت على جرحها ، وقالت :
ـ سامحك الله يا أستاذ [ حمدان ] ، لو كنت تعرف أي الرجال ، كان [ أبو جمعة ] ، لما اتهمته بالخيانة .
أدرك [ حمدان ] نقطة الضعف عند غريمته ، فعزم على تمريغ اسم المرحوم :
ـ لو لم يكن جبانا ، لما أنجب هذا الولد الخائن .
وهنا فقدت [ خديجة ] رشدها ، لم تعد تحتمل أكثر مما سمعت ، فصرخت كمجنونة ، واندفعت بتجاه [ حمدان ] :
ـ اخرس ... اخرس ياكلب ، من أنت ، حتى تقول عن [ أبي جمعة ] جبان ؟؟؟!!!!.. متى أصبح الشهيد خائنا ؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان ، لتعرف من هو [ أبو جمعة ] ، أنت مجرد نذل .. حقير ، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد ، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه .
واندفعت نحوه أكثر ، رافعة يدها بقوة ، تريد أن تصفعه ، في تلك اللحظة ، عندما كان يتراجع [ حمدان ] مذعورا كالفأر ، شاهد جميع من كان حاضرا ، من أهالي [ تل مكسور ] يد [ خديجة ] الطاهرة ، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم ، بشموخ وكبرياء ، ترتفع تماما مثل علم البلاد .
مصطفى الحاج حسين .
حلب