لم أكتب من شهرين ، ليس من عادتي ذلك . كان لا يمرّ اسبوع ، دون أن أكتب قصيدة أو أثنتين .. ولكن لا عجب ، فما يحدث يبعدني عن الحياة كلها ، يخيّل إليّ أنّ قدوم الموت خير منقذ لي .. مشاكل كثيرة .. في كلّ جانب من حياتي ، تتطاول مشكلة وتكبر .. هل الموت هو الخلاص ، يبدو لي ذلك ، وبخاصة حين أرى أهلي الذين ترشحهم آمالي لمساعدتي ، يشكلون عصابة على زوجتي ، وحين تشكو أصبّرها وأواسيها:
- اصبري ياهيفاء .. تعرفين أنني لا أستطيع أن أتحداهم .
- ولكن إلى متى ؟.. بعد أن أجن !؟.
- وماذا تريدينني أن أفعل ، هل تريدين أن نطرد من الببت ، وتعرفين أنّ لا مال لديّ ؟!؟
- ومتى سيصبح عندك مالاً ؟ .. وأحوالك تزداد سوءاً ..؟
أبتلع غصتي بصمتٍ :
- لا ذنب لي ياهيفاء ، حظّي سيء ، ألا ترين أنّ الفشل يتربّص لي وراء كلّ مشروع .
- أنتَ طوال عمرك ستبقى فاشلاً .. لأنّكَ لا تسمع كلامي .
- اسكتي ياهيفاء .. اسكتي .. كيف أسمع كلامك ؟! .. أترين أن أبقى أجيراً عند الناس ؟ .
- على الأقل أفضل ، من كلّ مشاريعك ومخطّطاتك .
وهنا أكاد أفقد صوابي .. وأصرخ :
- مابها مشاريعي ؟!.. إنها ليست فاشلة ، اسألي أيّ غبيّ في العالم ، هل يفضّل أن يبقى أجيراً ، أم يفتح دكاناً على حسابه ؟..
ليس ذنبي أنا إذا الدكان لم تنطلق .. حوّلتها من عملٍ إلى آخر ، صرت " مسبّع كارات " ، تصليح غازات ، بيع أدوات كهربائية ، دهانات ، استدنت من التجار ، دينت الزبائن .. وصرت أعوي وراءهم ، ولا أحد يدفع لي .. والتجار يطالبونني بمالهم . حتى بيع الخضار لم أنسه .. وماذا كانت النتيجة ؟.. خسارة كبيرة خلال أسبوع واحد .
ويستمر الحديث ، وغصّة ملء الحياة تُنشب أظفارها في حنجرتي ، ومرارة تكبر في حلقي . حينها تنسحب هيفاء من الحديث .. فأشعل سيجارة وأطلب كأس شاي .
فجأة تعود هيفاء للكلام .. وكأنّها سكتت لتستريح :
- هنا شطارتك فقط .. شاي ودخان وقراءة كتب .
أشتم الشاي والكتب :
- أنتِ تعرفين من قبل الزواج حبّي للشاي ، وتعرفين أنّي شاعر ، وهل هناك شاعر لا يقرأ .. ؟! ، يكفي أنّ قراءاتي تكاد تنعدم ، ويكفي أنني منذ أكثر من شهرين لم أكتب أية قصيدة .
- حمّلني السبب أيضاً .
- نعم أنت السبب .. عشرة أشهر ونحن متزوجان ، ماذا كتبت ؟؟!! .. ثلاث قصائد ؟ .. كنت أكتب أكثر من خمس قصائد في الشهر الواحد . وهنا يلذ لهيفاء أن تعيد أسطوانة السخرية :
- وماذا استفدنا من شعرك ؟؟.. أعرض كلّ قصائدك للبيع .. لن يدفعوا لك قرشاً واحداً.
وأعود لأصرخ :
- هيفاء .. لم أعد أحتمل، إذهبي وأحضري إبريق الشاي .
تذهب هيفاء ، وأبقى وحدي ، في غرفتي اليتيمة ، المفروشة بسرير وأريكة وخزانة وماكينة خياطة لهيفاء .. ومسجلة
صغيرة . وأسأل نفسي :
- هل أخطأت في زواجي من هيفاء ياترى ؟.
أكانت ' ناديا " أفضل ؟ .
وأتذكر " ناديا " ، أمدّ يدي للدرج ، أستخرج جريدة ، فيها قصيدة لها، مع صورتها .. أتأملها ملياً ، وأقرأ القصيدة بتلذذ وأغوص في الذكريات :
- ناديا.. أحبّكِ ، كتبتُ عنكِ أكثر من مائة قصيدة ، لقد خلّدتكِ ، أصبحتِ " ماتيلدا" أو " إلزا " .
وتبقى' ناديا " صامتة .
- ناديا .. أحبّكِ .. أرجوكِ تكلمي .
ترفع رأسها ، أبصر في عينيها قرارها النهائي:
- شادي .. أنتَ تعلم أنّي مهندسة ، وأنتَ عامل، وأهلي ..
فأضع يدي على فمها ، أرجوكِ فهمت ..
نفترق ، وجرحٌ بمسافة الأرض يفترشني :
- ستندمين ياناديا .. لن يكتب عنكِ سواي .
وأحتسي الشاي وأنا أفكر :
- هل أحبّ هيفاء حقاً ؟ .
نعم .. ويجب عليّ أن أحبّها .. لقد رفضت الكثيرين من أجلي ، منذ طفولتها وهي تحبني ، وظلّت تنتظر حتّى طلبتها .. هيفاء
جميلة ، أجمل من نادية ...وأكثر طولاً ، لكن لو كانت تكتب الشعر ، أو تحبه على أقل تقدير .
وتنام هيفاء .. أعرف أنها تضيق بنور المصباح .. ولكنّ رغبة شديدة في الكتابة تتملّكني .. هل سأفلح ؟.. بتّ أخجل من
أصدقائي ، كلّما سألوني :
- هل من جديد ؟! .
لكن مشكلة من نوع آخر ، تنبثق من داخلي ، صرت أخاف الكتابة .. إنّي حزين ولو كتبت قصيدة ، فسيأتي ناقد ويقول :
- لماذا هذا الحزن والتشاؤم ؟!.. أكتب عن الفرح ، والأمل ، والوطن .
ولكن أين الفرح ؟.. لا أستطيع أن أكتب إلّا عن تجربتي .. وسيأتي آخر يقول :
- هذه قصيدة غنائية ، فلماذا لا تتحوّل إلى الكتابة الواقعية ؟! .
ماأكثر توجيهات النقاد واقتراحاتهم ؟..
هذا يطالب بالواقعية .. وهذا بالغنائيّة .. وهذا بالبنيويّة .. وآخر بالسرياليّة ، وهذا يريد البساطة ، والثاني يريد التّصوير،وسواه
يطالب بالتّرميز ، ولا بخلو الأمر ممن يطالب باستخدام الأسطورة ، هذا يقول :
- لماذا تهجر شعر التفعيلة ؟! .
كلّهم متناقضون .. والكلّ يطالب ويتّهم ..
- أكتب قصيدة طويلة .. فهي تساعدك على سبر أغوارك ، القصيرة سهلة .
- أكتب بحساسيّة الثمانينات
- تحدّث عن الجزئيات .
- لا .. بل عن الكلّيات .
- ضع الجمهور في حسبانك .
- ارتفع عن الجمهور .
- لا .. تتخلّ عن القافية .
- لا .. تقع في المباشرة .
- أكتب مثلي تكن شاعراً .
- لا تخالفني تنل النجاح .
كيف لي أن أكتب ؟.. وكلّ هذه الأمور تدور في رأسي ؟! .
هيفاء .. تتقلّب على السّرير ، ترفع رأسها بعض الشيء .. تفتح عينيها قليلاً ..
وتسأل :
- هل انتهيت من الكتابة ؟
- لم أكتب بعد .
- شادي .. أرجوك أن تطفئ النور .. ألن تذهب إلى الدكان باكراً ؟ .
- حسناً لن أكتب بعد اليوم .
ينطفئ المصباح ، تنطفئ رغبتي في الكتابة .. ونشتعل أنا وهيفاء .. وتلوح لي ناديا .. فأذهب .. وأذهب بعيداً .. ولا أصل.
مصطفى الحاج حسين
حلب
حلب