خرجتُ من الحانة مخموراً أبحثُ عن أغنية تساعدني لأطير عالياً.
لم أعثر على أغنية، عثرتُ على عاهرة بدينة.
قالتْ لي: أنا مستعدة لأيّ شيء تريده.
قلتُ لها بحزن: تعالي معي إلى غرفتي، أحتاجكِ هذه الليلة..
ودفعتُ لها ضعف ما يدفع الآخرون.
في غرفتي رميتُ جسدي على سريري بتعب، خلعتْ ثيابها واستلقتْ جانبي.
من تحت وسادتي أخرجتُ كتاب حكايات شعبية لهانس أندرسن، عندما كنتُ طفلاً لم أكن أنام حتى تقرأ لي أمي حكاية شعبية.
أنا أحد المحرومين من النوم بشكلٍ طبيعي منذ أن غادر طفولته.
ـــ اقرئي لي الحكاية الثالثة..
ـــ أهذا ما تريده!؟
ـــ نعم.. أرجوكِ..
وهي تقرأ نمتُ بعمق، لم أنم هكذا منذ زمن. عندما استيقظتُ في الصباح لم أعثر عليها، لا مشكلة، لكنني لم أعثر أيضاً على الكتاب.
بعد أسبوع ذهبتُ إلى الحانة، سألتُ مديرها العجوز عن تلك العاهرة التي سرقتْ كتاب الحكايات الشعبية.
قال لي: منذ تلك الليلة التي أخذتها معك لم ترجع..
اختفتْ هي وتلك الحكايات.
مرّة قال لي جدي: كلّ عاهرة حزينة، هي في الأصل حكاية شعبية، وقارئ ليس لديه أغنية تساعده على الطيران.
كم هم لطفاء
لدي معاناة حقيقية مع شعري عمرها عشر سنوات، أُطيله دائماً ونادراً ما أقصه إلا بشكلٍ طفيف.. لكنه جعد وأنا أريده أن يكون ناعماً كالحرير، وقد جربت معه خلال تلك السنوات العديد من الكريمات والزيوت، لكنه ظلّ جعداً، وعندما أكون في الشارع نسمة هواء بسيطة تكفي لأن تحولني إلى غول، فيهرب الأطفال من أمامي وكأنّ وجهي هو وجه “ميدوسا” ذي الأفاعي، آه من شعري الطويل أتعبني كثيراً ولم يصبح مثلما أريد.
اعتقلوني مساء البارحة، رئيس الدورية أمام باب البيت رحّب بي على طريقته الخاصة، استغربت منه.. فبدلاً من أن يصافح يدي، صافح وجهي بحرارة ليطير سنٌّ من فمي ويسقط في الشارع. ثمّة شعوب -كما قرأتْ- لديها عادات غريبة بالمصافحة كتقبيل الأنف، خمَّنت في سرّي أن يكون رئيس الدورية من تلك الشعوب. ثمَّ ركلني بمحبة إلى السيارة وذهبنا إلى فرع الأمن، حزنتُ كثيراً لأجل سنّي المخلوع وتخيلتُ كيف سيدوسه أحد أطفال الحارة فيهرسه وهو يلعب بالكرة.
في الفرع رموني بمودة في زنزانة ضيقة فيها عشرات الشبان، استطعتُ بصعوبة أن أجلس في الزاوية. كانت صرخات هائلة تقتحم جدران زنزانتنا من كلّ الجهات، حظهم جميل نزلاء الزنازين المجاورة، لديهم تلفزيونات وهم الآن يتابعون مباراة ريال مدريد وبرشلونة ويشجعون بصخب.
مرتْ ساعة وأنا أراقب من تلك الكوة في سقف الزنزانة، تسلُّل الليل إلى الفضاء، وثمّة ضوءٌ طفيف للقمر يعبر الكوة ليتناثر بين أجسادنا. صدفة.. لمحتُ على جدارٍ عن يساري عبارة “أنا أحبك يا لينا”، كلمة “أحبك” جعلتني أتنهد، فتحتُ فمي والتقطتُ منه سنّاً آخر كان على وشك السقوط، ثمَّ نحتُّ بسنّي أسفل تلك العبارة ما يلي “هذا الرجل يحبك يا لينا، عليك اللعنة، يجب أن تفهمي هذه الحقيقة، وعليك اللعنة أيضاً يا سميرة، لأنني أحبك، لكنك تشبهين لينا ذلك الرجل”. ثم رسمتُ قلب حب وثمة سهم غير مدبب مغروس به، انتهيتُ فوضعتُ سني بجيب قميصي.
آهٍ من الصبايا، إنهنّ لا يؤمنّ أبداً بأنّ “الرجل نصف المجتمع». كدتُ أختنق بسبب صمت الشباب، استدرتُ إلى يميني ثم شهقتُ وأنا أقول لجاري:
ـــ علي عقلة عرسان! أنت هنا؟! مرحباً.
ـــ يا هلا، لكن أنا لست علي عقلة عرسان.
طبعاً هذه حيلة من إبداعي، كنت أمارسها دائماً في باص “الدوار الجنوبي” لأفتح حديثاً مع من يجلس إلى جواري. عندئذٍ فُتح باب الزنزانة وصرخ العنصر باسمي، شعرتُ بالسعادة نهضتُ وأنا أتمتم:
ـــ حان موعد العشاء.
مشيتُ نحو الباب، وقبل أن أخرج سألتُ الشباب:
ـــ أَتُوصونني بشيء؟
بصراحة، خفتُ أن يطلب مني أحدهم كيلو برتقال أو كيلو تفاح أو كيلو ميشيل، فالسوق قد أُقفل منذ ساعات. لم ينبس أحد بحرف، تنفَّستُ الصعداء وخرجتُ. عندها ركلني العنصر على رجليّ فسقطت.. أمسكني هو من رجل، وزميله أمسكني من الرجل الثانية ثمَّ جرّاني وبسرعة في هذا الممر الطويل والمعتم. كم هما لطيفان. لا يريدان أن أمشي حتى لا أتعب رجليّ، فعلاً أخجلني لطفهما.
في غرفة المحقّق، كان على الأرض شابٌ نحيلٌ وعار ٍ مضرج بدمائه ومغمى عليه، وكان المحقق يصوره بعدسة جواله، عندما انتهى حمله أحد العناصر إلى الخارج. نظر إليَّ المحقق فابتسمتُ له، صاح بي:
ـــ لماذا شعرك طويل يا وغد؟
يا لله كم هي لطيفة هذه الـ”وغد” كلمة فيها موسيقى لبيانو حنون، إنها الكلمة المفضّلة لدى زوج خالتي، يدلعني بها عندما أكون شريكه بلعب الورق مع الأصدقاء.
ـــ لأن حلاق حارتنا معارض، وأنا أقاطعه منذ بداية المؤامرة الكونية على البلد.
ـــ معارض؟! أعطني اسمه وعنوانه.
ـــ اسمه “تاج الدين الموسى” وهو يسكن في القبر الرابع عن يمين شجرة الزيتون في المقبرة الجنوبية.
المحقّق أعطى العنوان للعناصر وأمرهم بجلب المدعو تاج حالاً، فرحتُ كثيراً، لديّ يقينٌ بأنّ الأجهزة الأمنيّة وحدها فقط تستطيع الوصول للعالم الآخر لتعيد لي أبي الذي توفي منذ عام.
ابتسم المحقّق بخبث وهو يربط يديّ إلى خلف ظهري، ثم التقط شعري الطويل وجمعه في كفه وربطه بحبل ثخين. بعد ذلك مرَّر هذا الحبل من حلقة معدنية في السقف، ثمَّ شدَّ الحبل هو والعنصر فارتفع جسدي للأعلى لأصير معلقاً بالسقف من شعري.. وااااااااو.. أدهشتني هذه الفكرة الظريفة وكأنني أرجوحة، صار المحقق يدفع جسدي إلى العنصر، والعنصر هو الآخر يدفع جسدي إلى المحقق وهما يضحكان كطفلين صغيرين. ضحكتُ معهما أعجبتني جداً هذه اللعبة، رحت أغني لهما أغنية “يارا” لكن، بعد دقائق تثاءب المحقق ثمَّ خرج هو والعنصر من الغرفة ليناما قليلاً. بقيتُ وحيداً هنا معلقاً بالسقف من شعري، حزنتُ، لماذا لم يبقيا ليلعبا معي؟ ماذا يخسران؟ اللعبة كانت ممتعة لنا نحن الثلاثة، كم هو لطيف هذا المحقق.. لكنه -لسوء حظي- نسي أن يصورني بعدسة جواله، وبهذا خسرتُ فرصة نادرة لا تتكرر لأصير مشهوراً، تطاردني نظرات المعجبات حيثما ذهبتْ.
بعد بضع ساعات بدأ دمي يسيل من أعلى جبيني على وجهي، عندئذ، اقتربتْ من وجهي بضع ذبابات وحطتْ على جبيني لتشرب دمي بنهم. ثمّة ذبابة منهن وبعد أن شربتْ طارتْ لتحط على أنفي، ابتسمتْ وقالتْ لي:
ـــ شكراً لك، دمك نبيذ ٌلذيذ.
ـــ تكرم عينك صديقتي، أنا بخدمة الحلوين.
ـــ ممكن سؤال؟
ـــ تفضلي.
ـــ هل تؤمن بوجود الله؟
ـــ ممممم، بصراحة، وأنا معلق بهذا الشكل لا أستطيع أن أؤمن بأيّ شيء.
ـــ يعني أنتَ ملحد.
ـــ أتذكر أنني كنت مؤمناً يوم الثلاثاء الماضي.
صمتنا لدقيقة أنا وهي، زفرتُ ثم أردفتُ لها:
ـــ بصراحة صديقتي أنا لا أحب الإيمان من طرف واحد، أحب الإيمان والإيمان المضاد، ومنذ طفولتي أشعر بأن الله لا يؤمن بي.
ـــ ممممم.
فجأة دخل المحقّق إلى الغرفة، فطارتْ الذبابات عن وجهي مذعورة، تلك الذبابة همستْ لي وهي تبتعد:
ـــ باي حبيبي.
المحقّق أمر العنصر بإنزالي وإرجاعي للزنزانة، كنت أريد أن أسأله بخصوص العشاء، لكن العنصر ركلني على رجليّ فسقطت، ليلتقطهما على عجل ويجرّني في هذا الممر الطويل والمعتم.
من باب إحدى الزنزانات على طرَفي الممر، تناهى لأذني صوت صرخات تشبه صوت والدي، فرحتُ جداً وصرختُ عليه:
ـــ كيفك بابا؟ لا تهتم، الشباب لطفاء جداً، اطمئن. بعد قليل سيرسلوننا إلى تلفزيون الدنيا لنتحدث أمام الكاميرا عن تجاربنا القصصية المهمة، ثم سنحصل على صورة تذكارية مع مذيع فقرة “التضليل الإعلامي” وبعدها سنرجع للبيت لنشرب عرق الريان. لا تهتم، أمعك دخان؟ سيجارتان فقط، برحمة الاتحاد السوفييتي، يستر على عرضك، خرمااااااان.
على ما يبدو أن أبي لم يسمعني بسبب صراخ مشجعي ريال وبرشلونة، كان العنصر يفتح باب زنزانتي وأنا مستلق على الأرض أفكر بعمق:
ـــ عملية إرجاع والدي من العالم الآخر على يد الأجهزة الأمنية ستضع الفقهاء بموقف محرج للغاية أمام المؤمنين، أتمنى أن يلهمهم الله التفسير المناسب.
ثمَّ حملني ذلك العنصر الرومانسي بين ذراعيه كأنَّني عشيقته، ورماني بلطف إلى جوف الزنزانة.
على ضوء القمر الخافت والمتسلل من تلك الكوة بالأعلى، رحتُ أبحث عن علي عقلة عرسان، لكن أحد الشباب نقر على كتفي وهو يهمس لي:
ـــ هل لديك ثقافة جيدة بالجثث؟
ـــ نعم، فأغلب أفراد أسرتي ماتوا بين يديّ.
ـــ إذا سمحت حاول أن تتأكد إن كان هذا الشاب قد مات أم لا، لأن نظري ضعيف. نظرت إلى حيث أشار لي، فلمحتُ ذلك الشاب النحيل والعاري، انحنيتُ إليه وحضنتُ رأسه وأنا أرفعه نحو ضوء القمر، اقتربتُ بوجهي من وجهه حتى لامس أنفي أنفه وأنا أمعن النظر في عينه، ثمَّ كان أن شاهدتُ وجهي بوضوح في عينه.
شهقتُ. شعري الذي كان جعداً وكأنه قد صار ناعماً كالحرير. لم أصدّق، تركتُ رأس الشاب ليسقط ثمَّ تحسستُ شعري بكفيَّ. عندئذٍ تأكدتُ أن شعري صار ناعماً كالحرير.
طار عقلي من الفرح، فوقفتُ في منتصف الزنزانة وأنا أضحك كمجنون، وصرتُ أصفق وأتمايل بطرب، الشباب صفقوا لي، حتى لينا وسميرة -من فوق ذلك الجدار- صفقتا لأجل رقصتي البدائية، رقصتُ طويلاً بجانب جثة الشاب النحيل، رقصتُ منتشياً كمهرجٍ مخمور.
بينما القمر، من هناك، وعبر تلك الكوة الضيقة، راح يبكي علينا مزيداً من ضوئه.
مصطفى تاج الدين الموسى
لم أعثر على أغنية، عثرتُ على عاهرة بدينة.
قالتْ لي: أنا مستعدة لأيّ شيء تريده.
قلتُ لها بحزن: تعالي معي إلى غرفتي، أحتاجكِ هذه الليلة..
ودفعتُ لها ضعف ما يدفع الآخرون.
في غرفتي رميتُ جسدي على سريري بتعب، خلعتْ ثيابها واستلقتْ جانبي.
من تحت وسادتي أخرجتُ كتاب حكايات شعبية لهانس أندرسن، عندما كنتُ طفلاً لم أكن أنام حتى تقرأ لي أمي حكاية شعبية.
أنا أحد المحرومين من النوم بشكلٍ طبيعي منذ أن غادر طفولته.
ـــ اقرئي لي الحكاية الثالثة..
ـــ أهذا ما تريده!؟
ـــ نعم.. أرجوكِ..
وهي تقرأ نمتُ بعمق، لم أنم هكذا منذ زمن. عندما استيقظتُ في الصباح لم أعثر عليها، لا مشكلة، لكنني لم أعثر أيضاً على الكتاب.
بعد أسبوع ذهبتُ إلى الحانة، سألتُ مديرها العجوز عن تلك العاهرة التي سرقتْ كتاب الحكايات الشعبية.
قال لي: منذ تلك الليلة التي أخذتها معك لم ترجع..
اختفتْ هي وتلك الحكايات.
مرّة قال لي جدي: كلّ عاهرة حزينة، هي في الأصل حكاية شعبية، وقارئ ليس لديه أغنية تساعده على الطيران.
كم هم لطفاء
لدي معاناة حقيقية مع شعري عمرها عشر سنوات، أُطيله دائماً ونادراً ما أقصه إلا بشكلٍ طفيف.. لكنه جعد وأنا أريده أن يكون ناعماً كالحرير، وقد جربت معه خلال تلك السنوات العديد من الكريمات والزيوت، لكنه ظلّ جعداً، وعندما أكون في الشارع نسمة هواء بسيطة تكفي لأن تحولني إلى غول، فيهرب الأطفال من أمامي وكأنّ وجهي هو وجه “ميدوسا” ذي الأفاعي، آه من شعري الطويل أتعبني كثيراً ولم يصبح مثلما أريد.
اعتقلوني مساء البارحة، رئيس الدورية أمام باب البيت رحّب بي على طريقته الخاصة، استغربت منه.. فبدلاً من أن يصافح يدي، صافح وجهي بحرارة ليطير سنٌّ من فمي ويسقط في الشارع. ثمّة شعوب -كما قرأتْ- لديها عادات غريبة بالمصافحة كتقبيل الأنف، خمَّنت في سرّي أن يكون رئيس الدورية من تلك الشعوب. ثمَّ ركلني بمحبة إلى السيارة وذهبنا إلى فرع الأمن، حزنتُ كثيراً لأجل سنّي المخلوع وتخيلتُ كيف سيدوسه أحد أطفال الحارة فيهرسه وهو يلعب بالكرة.
في الفرع رموني بمودة في زنزانة ضيقة فيها عشرات الشبان، استطعتُ بصعوبة أن أجلس في الزاوية. كانت صرخات هائلة تقتحم جدران زنزانتنا من كلّ الجهات، حظهم جميل نزلاء الزنازين المجاورة، لديهم تلفزيونات وهم الآن يتابعون مباراة ريال مدريد وبرشلونة ويشجعون بصخب.
مرتْ ساعة وأنا أراقب من تلك الكوة في سقف الزنزانة، تسلُّل الليل إلى الفضاء، وثمّة ضوءٌ طفيف للقمر يعبر الكوة ليتناثر بين أجسادنا. صدفة.. لمحتُ على جدارٍ عن يساري عبارة “أنا أحبك يا لينا”، كلمة “أحبك” جعلتني أتنهد، فتحتُ فمي والتقطتُ منه سنّاً آخر كان على وشك السقوط، ثمَّ نحتُّ بسنّي أسفل تلك العبارة ما يلي “هذا الرجل يحبك يا لينا، عليك اللعنة، يجب أن تفهمي هذه الحقيقة، وعليك اللعنة أيضاً يا سميرة، لأنني أحبك، لكنك تشبهين لينا ذلك الرجل”. ثم رسمتُ قلب حب وثمة سهم غير مدبب مغروس به، انتهيتُ فوضعتُ سني بجيب قميصي.
آهٍ من الصبايا، إنهنّ لا يؤمنّ أبداً بأنّ “الرجل نصف المجتمع». كدتُ أختنق بسبب صمت الشباب، استدرتُ إلى يميني ثم شهقتُ وأنا أقول لجاري:
ـــ علي عقلة عرسان! أنت هنا؟! مرحباً.
ـــ يا هلا، لكن أنا لست علي عقلة عرسان.
طبعاً هذه حيلة من إبداعي، كنت أمارسها دائماً في باص “الدوار الجنوبي” لأفتح حديثاً مع من يجلس إلى جواري. عندئذٍ فُتح باب الزنزانة وصرخ العنصر باسمي، شعرتُ بالسعادة نهضتُ وأنا أتمتم:
ـــ حان موعد العشاء.
مشيتُ نحو الباب، وقبل أن أخرج سألتُ الشباب:
ـــ أَتُوصونني بشيء؟
بصراحة، خفتُ أن يطلب مني أحدهم كيلو برتقال أو كيلو تفاح أو كيلو ميشيل، فالسوق قد أُقفل منذ ساعات. لم ينبس أحد بحرف، تنفَّستُ الصعداء وخرجتُ. عندها ركلني العنصر على رجليّ فسقطت.. أمسكني هو من رجل، وزميله أمسكني من الرجل الثانية ثمَّ جرّاني وبسرعة في هذا الممر الطويل والمعتم. كم هما لطيفان. لا يريدان أن أمشي حتى لا أتعب رجليّ، فعلاً أخجلني لطفهما.
في غرفة المحقّق، كان على الأرض شابٌ نحيلٌ وعار ٍ مضرج بدمائه ومغمى عليه، وكان المحقق يصوره بعدسة جواله، عندما انتهى حمله أحد العناصر إلى الخارج. نظر إليَّ المحقق فابتسمتُ له، صاح بي:
ـــ لماذا شعرك طويل يا وغد؟
يا لله كم هي لطيفة هذه الـ”وغد” كلمة فيها موسيقى لبيانو حنون، إنها الكلمة المفضّلة لدى زوج خالتي، يدلعني بها عندما أكون شريكه بلعب الورق مع الأصدقاء.
ـــ لأن حلاق حارتنا معارض، وأنا أقاطعه منذ بداية المؤامرة الكونية على البلد.
ـــ معارض؟! أعطني اسمه وعنوانه.
ـــ اسمه “تاج الدين الموسى” وهو يسكن في القبر الرابع عن يمين شجرة الزيتون في المقبرة الجنوبية.
المحقّق أعطى العنوان للعناصر وأمرهم بجلب المدعو تاج حالاً، فرحتُ كثيراً، لديّ يقينٌ بأنّ الأجهزة الأمنيّة وحدها فقط تستطيع الوصول للعالم الآخر لتعيد لي أبي الذي توفي منذ عام.
ابتسم المحقّق بخبث وهو يربط يديّ إلى خلف ظهري، ثم التقط شعري الطويل وجمعه في كفه وربطه بحبل ثخين. بعد ذلك مرَّر هذا الحبل من حلقة معدنية في السقف، ثمَّ شدَّ الحبل هو والعنصر فارتفع جسدي للأعلى لأصير معلقاً بالسقف من شعري.. وااااااااو.. أدهشتني هذه الفكرة الظريفة وكأنني أرجوحة، صار المحقق يدفع جسدي إلى العنصر، والعنصر هو الآخر يدفع جسدي إلى المحقق وهما يضحكان كطفلين صغيرين. ضحكتُ معهما أعجبتني جداً هذه اللعبة، رحت أغني لهما أغنية “يارا” لكن، بعد دقائق تثاءب المحقق ثمَّ خرج هو والعنصر من الغرفة ليناما قليلاً. بقيتُ وحيداً هنا معلقاً بالسقف من شعري، حزنتُ، لماذا لم يبقيا ليلعبا معي؟ ماذا يخسران؟ اللعبة كانت ممتعة لنا نحن الثلاثة، كم هو لطيف هذا المحقق.. لكنه -لسوء حظي- نسي أن يصورني بعدسة جواله، وبهذا خسرتُ فرصة نادرة لا تتكرر لأصير مشهوراً، تطاردني نظرات المعجبات حيثما ذهبتْ.
بعد بضع ساعات بدأ دمي يسيل من أعلى جبيني على وجهي، عندئذ، اقتربتْ من وجهي بضع ذبابات وحطتْ على جبيني لتشرب دمي بنهم. ثمّة ذبابة منهن وبعد أن شربتْ طارتْ لتحط على أنفي، ابتسمتْ وقالتْ لي:
ـــ شكراً لك، دمك نبيذ ٌلذيذ.
ـــ تكرم عينك صديقتي، أنا بخدمة الحلوين.
ـــ ممكن سؤال؟
ـــ تفضلي.
ـــ هل تؤمن بوجود الله؟
ـــ ممممم، بصراحة، وأنا معلق بهذا الشكل لا أستطيع أن أؤمن بأيّ شيء.
ـــ يعني أنتَ ملحد.
ـــ أتذكر أنني كنت مؤمناً يوم الثلاثاء الماضي.
صمتنا لدقيقة أنا وهي، زفرتُ ثم أردفتُ لها:
ـــ بصراحة صديقتي أنا لا أحب الإيمان من طرف واحد، أحب الإيمان والإيمان المضاد، ومنذ طفولتي أشعر بأن الله لا يؤمن بي.
ـــ ممممم.
فجأة دخل المحقّق إلى الغرفة، فطارتْ الذبابات عن وجهي مذعورة، تلك الذبابة همستْ لي وهي تبتعد:
ـــ باي حبيبي.
المحقّق أمر العنصر بإنزالي وإرجاعي للزنزانة، كنت أريد أن أسأله بخصوص العشاء، لكن العنصر ركلني على رجليّ فسقطت، ليلتقطهما على عجل ويجرّني في هذا الممر الطويل والمعتم.
من باب إحدى الزنزانات على طرَفي الممر، تناهى لأذني صوت صرخات تشبه صوت والدي، فرحتُ جداً وصرختُ عليه:
ـــ كيفك بابا؟ لا تهتم، الشباب لطفاء جداً، اطمئن. بعد قليل سيرسلوننا إلى تلفزيون الدنيا لنتحدث أمام الكاميرا عن تجاربنا القصصية المهمة، ثم سنحصل على صورة تذكارية مع مذيع فقرة “التضليل الإعلامي” وبعدها سنرجع للبيت لنشرب عرق الريان. لا تهتم، أمعك دخان؟ سيجارتان فقط، برحمة الاتحاد السوفييتي، يستر على عرضك، خرمااااااان.
على ما يبدو أن أبي لم يسمعني بسبب صراخ مشجعي ريال وبرشلونة، كان العنصر يفتح باب زنزانتي وأنا مستلق على الأرض أفكر بعمق:
ـــ عملية إرجاع والدي من العالم الآخر على يد الأجهزة الأمنية ستضع الفقهاء بموقف محرج للغاية أمام المؤمنين، أتمنى أن يلهمهم الله التفسير المناسب.
ثمَّ حملني ذلك العنصر الرومانسي بين ذراعيه كأنَّني عشيقته، ورماني بلطف إلى جوف الزنزانة.
على ضوء القمر الخافت والمتسلل من تلك الكوة بالأعلى، رحتُ أبحث عن علي عقلة عرسان، لكن أحد الشباب نقر على كتفي وهو يهمس لي:
ـــ هل لديك ثقافة جيدة بالجثث؟
ـــ نعم، فأغلب أفراد أسرتي ماتوا بين يديّ.
ـــ إذا سمحت حاول أن تتأكد إن كان هذا الشاب قد مات أم لا، لأن نظري ضعيف. نظرت إلى حيث أشار لي، فلمحتُ ذلك الشاب النحيل والعاري، انحنيتُ إليه وحضنتُ رأسه وأنا أرفعه نحو ضوء القمر، اقتربتُ بوجهي من وجهه حتى لامس أنفي أنفه وأنا أمعن النظر في عينه، ثمَّ كان أن شاهدتُ وجهي بوضوح في عينه.
شهقتُ. شعري الذي كان جعداً وكأنه قد صار ناعماً كالحرير. لم أصدّق، تركتُ رأس الشاب ليسقط ثمَّ تحسستُ شعري بكفيَّ. عندئذٍ تأكدتُ أن شعري صار ناعماً كالحرير.
طار عقلي من الفرح، فوقفتُ في منتصف الزنزانة وأنا أضحك كمجنون، وصرتُ أصفق وأتمايل بطرب، الشباب صفقوا لي، حتى لينا وسميرة -من فوق ذلك الجدار- صفقتا لأجل رقصتي البدائية، رقصتُ طويلاً بجانب جثة الشاب النحيل، رقصتُ منتشياً كمهرجٍ مخمور.
بينما القمر، من هناك، وعبر تلك الكوة الضيقة، راح يبكي علينا مزيداً من ضوئه.
مصطفى تاج الدين الموسى