رسالة من عبدالقادر وساط إلى عبيد بن الأبرص

السلام عليك يا شيخ الشعراء، وبعد
كتابي إليك لأسألك عن أشياء كثيرة، أولها :كيف ننطق اسمك نطقا صحيحا؟ أهو عَبِيد أم عُبَيْد ؟
فقد ذكر أدباء كثيرون جاؤوا من بعدك، ومنهم أبو العلاء المعري، أن النطق الصحيح هو عَبيد.
لكن هناك من يرى أن اسمك هو عُبَيد، كما فعل أحد أبناء زمننا، وهو الأب لويس شيخو، في كتابه (شعراء النصرانية.)
ثم إني أريد أن أسألك، بعد هذا، عن تلك الأخبار الغريبة التي تناقلتها الرواة بشأنك. فمنهم من يزعم أن الشعر كان يهبط عليك وأنت نائم، ومنهم من يروي أن جنّياً أتاك في صورة ثعبان، فاستسقاك فسقيتَه ماءً، فخاطبك شعرا بقوله:

قد جُدتَ بالماء لما ضنَّ حاملُهُ = جوداً علَيَّ و لم تبخلْ بإنجادي
الخير أبقى وإنْ طالَ الزمانُ به = والشرُّ أخبثُ ما أوعيتَ منْ زادِ

ويروون كذلك أن جنيا اسمه هَبيد هو الذي كان يملي عليك الأشعار. وزعم البعض أن الكلاب كانت تحفظ شعرك وتتغنى به في الهزيع الأخير من الليل. فمن ذلك خبر الكلب الذي كان يطوف بالحي ليلا، وهو ينشد بيتك المشهور:

طاف الخيالُ علينا ليلة الوادي = لآل أسماء لم تلْممْ بميعاد

ويحكى أنك كنت من المعمرين وأنك شهدت مقتل حجر، والد امرئ القيس. وحتى مقتلك أنت تعددت فيه الأخبار والأقاويل، إذ يزعم بعضهم أن النعمان بن المنذر هو الذي أمر بقتلك في يوم بؤسه، ويرى آخرون، ومنهم صاحب الخزانة، أن قاتلك هو المنذر بن ماء السماء، وهو المنذر الأكبر اللخمي، جد النعمان بن المنذر. فمن بين الذين يجزمون أن قاتلك هو النعمان بن المنذر، نجد أديبا مشهورا، جاء بعدك بزمن طويل، يدعى ابنَ قُتَيْبة. وهو يقول عنك في كتابه "الشعر والشعراء":
" عبيد بن الأبرص شاعر جاهلي قديم، من المُعَمَّرين، قتله النعمان بن المنذر، وأجْودُ شعره قصيدته التي يقول فيها:

أقْفَرَ منْ أهله مَلْحُوبُ = فالقطَبياتُ فالذَّنوبُ..."

والحق أن قصيدتك البائية هذه هي الوحيدة التي بقي الناسُ يذكرونها من بعدك. فهذا أديب اسمه محمد بن سلام الجُمحي، له كتاب مشهور، هو (طبقات الشعراء)، جعلك فيه في الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية، مع طرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد. وهو يقول عنك، في كتابه هذا:
" عبيد بن الأبرص شاعر قديم، عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف منه إلا بائيته (أقفرَ منْ أهله مَلْحُوبُ).
وقد عاب عليك كثيرون خروج بائيتك عن أوزان الشعر المعروفة، فهذا الأديب قُدامة بن جعفر يقول عنها:
" وفي بائية عبيد أبيات قد خرجتْ عن العروض، فقَبَّحَ ذلك جودةَ الشعر ..."
وذلك أيضا ما ذهبَ إليه ابن رشيق، صاحبُ العمدة، حين قال:
" إن بائية عبيد المشهورة كادت تَكون كلاما غير موزون..."

وأما أبو العلاء المعري فيقول:
" عبيد بن الأبرص شاعر مختلّ الشعر، مضطرب العروض، وبائيته المشهورة غير صحيحة الأوزان..."
بل إن أبا العلاء المعري أشار إلى أوزانك الشعرية المختلة في إحدى قصائده، فقال:

وقد يُخْطئُ الرأيَ امرؤ و هْو حازمٌ = كما اختلَّ في نظْم القَريض عَبيد

على أن شيخ المعرة، أبا العلاء، حين أملى رسالةَ الغفران، تخيلَ لك مكانا في الجنان، وذلك بفضل بيت لك سار في الآفاق، فلم يزلْ يُنْشَد ويخفف عنك العذاب حتى شملَتْك الرحمة، وإن ربنا لغفور رحيم ... وهذا البيت هو:

مَنْ يَسْأل الناسَ يَحْرمُوهُ = وسائلُ الله لا يَخيبُ

وهناك أديب من تلامذة شيخ المعرة، اسمه الخطيب التبريزي، شرح بائيتك شرحا وافيا دقيقا.
واعلمْ أن هناك شاعرا دارسا للأدب، من أبناء زمننا، يدعى محمد علي الرباوي، قد أنصفك غاية الإنصاف في كتابه (العروض: دراسة في الإنجاز). فمما قاله عنك :" إن القدماء اعتبروا بائية عبيد غير موزونة، لأن الوزن عندهم هو فقط ما انسجم مع العَروض الذي استنبطَه الخليل ..."
وقد صنف هذا الشاعر الباحث بائيتَك ضمن (القصائد المتمردة)، مع ميمية المرقّش وبعض القصائد الأخرى...
وأما أنا، أيها الشاعر الأمهر، فأحب بائيتك وإن اختلّ عَروضها، بل إني أحفظها حفظا، وكثيرا ما أردد مع نفسي مقاطع منها، خاصة تلك الأبيات الخالدة التي تصف فيه معركة دموية- كما نقول في زمننا هذا- بين العُقاب والثعلب، وكيف أبصرَت العُقابُ الثعلبَ من عل:

فأبْصَرَتْ ثعلباً سريعاً = ودُونه سبْسبٌ جَديبُ

وكيف ارتاع الثعلبُ عند رؤيتها، حين نزلَتْ تُريده:

فدبَّ منْ رأيها دبيباً = والعينُ حمْلاقُها مقْلوبُ

وكيف انقضّتْ العقاب على الثعلب:

فأدْرَكَتْهُ فطَرّحَتْهُ = والصيد منْ تحتها مَكْروبُ
فجدلته فضرَّجَتْهُ = فكدّحَتْ وجهَهُ الجَبوبُ

فما الجَبوب، أيها الشاعر؟
هل هي الحجارة الصلبة؟ أم الأرض الصلبة؟ أم شيء آخر غير هذه وتلك؟
متعك الله بالخلود في الجنان كما أمتعتنا بشعرك الجميل، على مر الأزمان.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى