أفريقيا قدمتْ ليَ الكثير .. جعلتْ منّي امرأة حقيقية / ناضجة .. لا يسْتهلكها حُب .. ولا حزنٌ مخمليّ!"
البارحة غفوتُ على لحْن شهيّ .. حشد بداخلي قبائل من الشعور .. كنتُ أتماهى بيْن سماء الأمْنية .. وأرض ثامنة لمْ أصلها بعد ..
كأسي هي الأغنيات - كما أقول دائماً - لكنْ في بعض المسَاءات يحدثُ أنْ تُثقب الرّوح وتسيل .. أنْ تلقي عنْها ثيابها وتهرْول عارية حافية على درْب حارق ..!
ليس مايُشقينا دائماً هو التذكر .. الأمنيات المُعلقة على تقاويم الغد تفعل أكثر .. الانتظارات لأشياء بلا لوْن ولا رائحة ..
المُبهم هو اللعْنة الأكبر ..
كنتُ أمسك بقلبي وألهج : إلهي عافِ قلبي .. إلهي عافِ قلبي ..
تذكرتُ بأنّي لمْ أعُد أرتكب ذنوب القلب .. لكنّ ذنوب عقلي جاوزتْ هذا المدى ..
ربّما عليّ أنْ أغير قبْلة الدّعاء في المرّة القادمة ..!
***
اليوم صحوتُ متأخراً .. هاتفي يعْلن عنْ ايميلات عدة ورسالة نصية واحدة..
الرسالة تقول :
" لا زلتِ تحبين المطر كما عهدتك ..
لكن شو رأيك جمالية أفريقيا كونك خرجتِ من ثوب المرأة الضيق "
مممم حدثتُ نفسي بأنّ المطر هُنا بات يعني حذاءً متسخاً وجرياً خلف مظلة .. وزحاماً يوصلني للمنزل في ساعة مُتأخرة ..
ابتسمتُ لأنّ هُناك منْ يتذكرُ تفاصيل قديمة لي ..
أفريقيا قدمتْ ليَ الكثير .. جعلتْ منّي امرأة حقيقية / ناضجة .. لا يسْتهلكها حُب .. ولا حزنٌ مخمليّ!
فوجئتُ بأنّ الماء مقطوعٌ من الشقة ..انتابني هلعٌ كارثي وأخذتُ أتنقل بين الحنفيات إلى أنْ أقنعتُ حالي بالتصالح مع هذا النّهار دون دش صباحي ..
***
في خزانة ملابسي صفٌ كاملٌ للأحْذية الرياضيّة، بدُونها لا أنْجح في اجتياز الزّحام والقفز بيْن الأرْصفة وهشيم "إيسْلي" ..
عددٌ لا بأس به من الكنزات وشال الرّقبة يحميني من قرْصة البرد صباحات نيْروبي ..
مايُدهشني أنّ النساء في هذه المدينة يعشقن الأحْذية ذات الكعْب العالي جداً (إبرة) .. الأحْذية التي أقول عنها بأنّها لا تُنتعل بل يُصْعد إليها .. !
وأيضا الثياب القصيرة حد أنّ الواحدة منهن تُضطر لوضع حقيبة على ساقها وقت الجُلوس ..
صباحاً بينما أنا أرْتعش بين كومة ثيابي الطويلة ( كنزتي / شال ) الصّوف .. جواربي وحذائي المُغلق تماماً .. أجدُني أتأملهن يتهاديْن بثقة ودلال ولا يعنيهنّ منْ أمر الرّيح والبرد شيْء !
***
في الباص: يصعدُ رجلٌ ضخم برفقة امْرأة .. يختارُ هو المقعد بجانبي ويخنقُ كتفيَ الأيْسر بيْنما تجلس هيَ على المقعد المُنفرد ..!
في المقعد الأخير (خلفي): اثنان يُغنيان بثمَل .. وبطريقة تُمزق وجْه اللحن بسكين صَدئة ..!
أمامي زوْجان: تُقرّر هي فجْأة التغلب على انْتظار الطريق الطويل وتبْدأ بقصّ أظافر زوْجها ..
أنا: أبحْلق بكليْهما وأفكرُ بأنّه عليّ في المرّة القادمة التأكد منْ خلو المقعد منْ أثار جُنون كهذا ..
هُو يتأمّل الطريق بوداعة ثم يعود لمُراقبة تقنية زوجته مع أصابعه .. !
في العَمل: لديّ حساسية من الأوْراق النقديّة .. وبعْد كل لحْظة شراء أسْكب قدراً من المعقم على راحة كفي ..
زميلي يعتقد بأنّ هذا تنبؤ بعلاقة سيّئة مع المال في الغدْ ..!
***
«مُحمّد» التنْزاني يحْكي عن بلده بحمَاس بالغ .. تشعُ عيْناه ببريق حادْ ..
ابتدأ هو و«فرتون» بالغناء .. أغاني وطنيّة لتنزانيا .. سألتُها عنْ المُفردات .. سردتها لي باعتداد بالغ :
"غداً سيموتُ أيدي أمين
لنْ نبكي أبداً ..
سنلقي جثته في البحْر ..
لنْ نحزن أبداً ..
ستأكلُ الأسْماك قلبه ..
...
كنت أتأمل ملامحهُما التي تنْشد شيئاً كهذا بحُب !
لمْ أفهم في حياتي أبداً كيف يكون الانتماء ..
للحظة شعرتُ بأني أفهمُ كيف تقوم حُروب العالم .. كيف أنّ وهم الانتماء يغسُل الدماغ .. يعمّقُ حبّاً بقطب واحد وينْأى بالإنْسان عن الانسان ..
***
قريبتي التي تعْمل في مبْنى مُجاور أتتْ لزيارتي قبل يومين .. شعرتُ بأنّها تود أنْ تقول شيئاً .. سألتُها.. أجابتني بتودّد وتردّد : "أردتُ أنْ أنصحك بتغيير حجابك وارتداء آخر مثل هذا".. أشارتْ لجلبابها الكبير ..
أخبرتُها بأنّ ثيابي تُناسبني وأجدُني في حالة ألفة معها ..
صمتتْ على مضض .. غادرتني بودّ أقل ..!
***
ساعة الغداء أخرجُ علبة تونة منْ حقيبتي وملعقة صغيرة .. عصيرُ فواكه مُشكلة ..
زملائي يتسائلون : هل هذا غداء ؟ يُعلقون بضحك بأنه لابُد وترْبطني صلة قرابة مع القطة .. !
***
في الثالثة ظهراً؛ دخلتْ إلى المحل سيدة في الخمسينات من العُمر .. تربط وسَطها بقُماشة سميكة من القطن .. وترْتدي ثوباً مُنسدلا .. قطعة صغيرة تلمّ شعْرها – نُسميها نحن (ملخباد)- عاقدة يديْها خلف ظهْرها بطريقة مُعلمي الكتاتيب .. !
في البدْء هاجمتْ مُوظفا كبيراً بالسّن – من الأقلية البيضاء في العاصمة (رير حمر/ مقديشو ) – قاذفة إيّاه بسباب مُفرط البذاءة .. نعتته بأنه شاذ !
ثم ابتدأتْ تسألنا عنْ قبائلنا واحداً واحداً .. مع سيل من الشّتائم الإيطالية من نوع ( وافانكولو - فارابوتو – ماليدوكاتو – فيليذيكانو – فيليذيبوتانو .. )
"أنت يا هذا .. لألتقِكَ في حمر ويني .. سأقطعكَ إرباً .. وأنْت هُناك .. أنتَ أشدّهم عليّ، سألقي بك في جُب إلى أنْ تمُوت .. أمّا أنت فسأنفيك إلى بُروندي .. سأنظف منكم بلدتي .. "
أنا مُنكمشة في زاوية بعيدة .. المشهدُ لا يبْدو لي طبيعياً ..
برفقة السّيدة رجلٌ ضخْم .. يبتسم في وجُوهنا بيْنما تُواصل هيَ قذائفها ..
بدأ الزملاء يتهامسُون بأنّها لابد وقدْ قضتْ البارحة تُطارح كؤساً ولمْ تستفقْ بعد أو أنّها تعاطت شيئاً آخر لكنْ بالتأكيد ليستْ بكامل وعيها ..
لديّ قناعة بأنّ الثمِل لا ينطقُ إلا بحقيقة دواخله .. لذا كنتُ مندهشة منْ كمّية العُدوان الذي يسْكن جوف هذه المرأة !
اتجهتْ نحو مكتبي .. كنتُ قد أوصدتُ الباب قبلها وأخذتُ أستعد لهذا الهُجوم الغريب من نوعه .. أسمعتني كلاماً مفاده أنّ تكبري يغيظها .. !
كنتُ على شفا أنْ أطلب منها مُغادرة المكان .. إلى أنْ أتى أحد الزّملاء وشاغبها بكلمات ضاحكة .. استمرتْ هي في سبابه .. ابتاعتْ أشياءَ وغادرتْ ..
نثرت بالأجواء وجوماً غريباً ..
بعْد دقائق انفجرنا ضاحكين .. بطريقة تُشبه الهستريا الجماعيّة ..
***
في المساء: لمْ يُرافقني «آدم» .. أنا أستأنسُ به وأداعبه دائماً بقولي " أنتَ تحمل تعويذة يا رجُل .. صارحْني .. منْ غير المعقول أنْ تتراكم الأحْداث الشريرة في اليوم الذي لا ترافقني فيه " .. يجيبُ هو : " هم يخافون من الأسْمر الطويل " ..
في المحطة صعدتُ إلى إحدى الحافلاتْ .. لم يتحرّك إلا بعْد ساعة .. طبعاً يوم الإثنين اسْتثنائي .. فالطرق مغلقة بسبب الزّحام.. وأملتُ أنْ أصل باكراً بعض الشيْء إلى «Down Town» حتّى أستقل الآخر المؤدي إلى «south C » وأطرق باب المنزل في وقت جيّد ..
كنتُ مسْتاءة .. لاحظ الكمسري هذا فابتدأ بمشاكستي .. الفتاة الخجولة بداخلي لمْ تعرف كيف تتعاطى مع الأمر .. أكلني الحرج منْ هذه المُغازلة العلنية والمُباغتة .. أخذ الرّكاب يضْحكون ويشاركون في التعليق.. !
حين اقتربنا من المحطة أردتُ اسْتغلال فرْصة توقف عارض للباص وغادرتُ مقعدي على عُجالة هرباً من الحصار الذي أنا فيه فإذا به يعاود التحرّك .. وقعتُ – بوضعيّة الجلوس - على أحدهم .. لمْ أستطع النظر إليه.. أخذتُ أصيح "أنتم مجانين" وأحاول النهوض لكنّي لمْ أفلح ..
انْتهى الكابوس بأنْ نزلتُ مطأطأة الرّأس ..
هُناك أيّام يروق لها أنْ تحشونا بالمواقف التي تورطنا بحكة في الرّأس وسؤال عن السّبب الخارق الذي أخْرجنا من البيْت هذا الصّباح
في الليْل هاتفتُ آدم :
"This is official now ، لابد أن تقاسمني تميمتك تلك .."
يضحكُ هو ..
***
في مرْحلة ما نُصبح أكثر مُسائلة .. بمذاق مُختلف .. ليس حارقاً .. ولا يأكل الروح.. لكنّه يقلل من مساحة الحتمييات في الداخل ..
تتزاحمُ اصدارات الحقائق على منافذ الرّؤية ..
ندركُ بأنّ هُناك درجات من اللون لا نراها بالعين المُجردة.. وأنّه من الأجْدى تركُ الباب موارباً بعْد كل فكرة ..
الحياة، ذاك الطريقُ الطويل / القصير .. التّجربة هي ما يجعلنا نفتخرُ في النّهاية .. نغمضُ أعيننا قبل أنْ نسلم الرّوح بثانية .. نقول " قدْ عشنا كفاية" .. ونرحل ..!
الربّ هُناك في الأعْلى رحيمٌ رحيمْ .. مالذي قدْ يجنيه من احْتراق فتاة مثلي جلّ ذنوبها أمْنيات .. وقلبُها هشٌ هشّ .. تعرضُه في الصّباح على حكايات المارّة .. وتدعُو لكلّ أعرج تراهُ في الطّريق !
--------------
* كاتبة صومالية
البارحة غفوتُ على لحْن شهيّ .. حشد بداخلي قبائل من الشعور .. كنتُ أتماهى بيْن سماء الأمْنية .. وأرض ثامنة لمْ أصلها بعد ..
كأسي هي الأغنيات - كما أقول دائماً - لكنْ في بعض المسَاءات يحدثُ أنْ تُثقب الرّوح وتسيل .. أنْ تلقي عنْها ثيابها وتهرْول عارية حافية على درْب حارق ..!
ليس مايُشقينا دائماً هو التذكر .. الأمنيات المُعلقة على تقاويم الغد تفعل أكثر .. الانتظارات لأشياء بلا لوْن ولا رائحة ..
المُبهم هو اللعْنة الأكبر ..
كنتُ أمسك بقلبي وألهج : إلهي عافِ قلبي .. إلهي عافِ قلبي ..
تذكرتُ بأنّي لمْ أعُد أرتكب ذنوب القلب .. لكنّ ذنوب عقلي جاوزتْ هذا المدى ..
ربّما عليّ أنْ أغير قبْلة الدّعاء في المرّة القادمة ..!
***
اليوم صحوتُ متأخراً .. هاتفي يعْلن عنْ ايميلات عدة ورسالة نصية واحدة..
الرسالة تقول :
" لا زلتِ تحبين المطر كما عهدتك ..
لكن شو رأيك جمالية أفريقيا كونك خرجتِ من ثوب المرأة الضيق "
مممم حدثتُ نفسي بأنّ المطر هُنا بات يعني حذاءً متسخاً وجرياً خلف مظلة .. وزحاماً يوصلني للمنزل في ساعة مُتأخرة ..
ابتسمتُ لأنّ هُناك منْ يتذكرُ تفاصيل قديمة لي ..
أفريقيا قدمتْ ليَ الكثير .. جعلتْ منّي امرأة حقيقية / ناضجة .. لا يسْتهلكها حُب .. ولا حزنٌ مخمليّ!
فوجئتُ بأنّ الماء مقطوعٌ من الشقة ..انتابني هلعٌ كارثي وأخذتُ أتنقل بين الحنفيات إلى أنْ أقنعتُ حالي بالتصالح مع هذا النّهار دون دش صباحي ..
***
في خزانة ملابسي صفٌ كاملٌ للأحْذية الرياضيّة، بدُونها لا أنْجح في اجتياز الزّحام والقفز بيْن الأرْصفة وهشيم "إيسْلي" ..
عددٌ لا بأس به من الكنزات وشال الرّقبة يحميني من قرْصة البرد صباحات نيْروبي ..
مايُدهشني أنّ النساء في هذه المدينة يعشقن الأحْذية ذات الكعْب العالي جداً (إبرة) .. الأحْذية التي أقول عنها بأنّها لا تُنتعل بل يُصْعد إليها .. !
وأيضا الثياب القصيرة حد أنّ الواحدة منهن تُضطر لوضع حقيبة على ساقها وقت الجُلوس ..
صباحاً بينما أنا أرْتعش بين كومة ثيابي الطويلة ( كنزتي / شال ) الصّوف .. جواربي وحذائي المُغلق تماماً .. أجدُني أتأملهن يتهاديْن بثقة ودلال ولا يعنيهنّ منْ أمر الرّيح والبرد شيْء !
***
في الباص: يصعدُ رجلٌ ضخم برفقة امْرأة .. يختارُ هو المقعد بجانبي ويخنقُ كتفيَ الأيْسر بيْنما تجلس هيَ على المقعد المُنفرد ..!
في المقعد الأخير (خلفي): اثنان يُغنيان بثمَل .. وبطريقة تُمزق وجْه اللحن بسكين صَدئة ..!
أمامي زوْجان: تُقرّر هي فجْأة التغلب على انْتظار الطريق الطويل وتبْدأ بقصّ أظافر زوْجها ..
أنا: أبحْلق بكليْهما وأفكرُ بأنّه عليّ في المرّة القادمة التأكد منْ خلو المقعد منْ أثار جُنون كهذا ..
هُو يتأمّل الطريق بوداعة ثم يعود لمُراقبة تقنية زوجته مع أصابعه .. !
في العَمل: لديّ حساسية من الأوْراق النقديّة .. وبعْد كل لحْظة شراء أسْكب قدراً من المعقم على راحة كفي ..
زميلي يعتقد بأنّ هذا تنبؤ بعلاقة سيّئة مع المال في الغدْ ..!
***
«مُحمّد» التنْزاني يحْكي عن بلده بحمَاس بالغ .. تشعُ عيْناه ببريق حادْ ..
ابتدأ هو و«فرتون» بالغناء .. أغاني وطنيّة لتنزانيا .. سألتُها عنْ المُفردات .. سردتها لي باعتداد بالغ :
"غداً سيموتُ أيدي أمين
لنْ نبكي أبداً ..
سنلقي جثته في البحْر ..
لنْ نحزن أبداً ..
ستأكلُ الأسْماك قلبه ..
...
كنت أتأمل ملامحهُما التي تنْشد شيئاً كهذا بحُب !
لمْ أفهم في حياتي أبداً كيف يكون الانتماء ..
للحظة شعرتُ بأني أفهمُ كيف تقوم حُروب العالم .. كيف أنّ وهم الانتماء يغسُل الدماغ .. يعمّقُ حبّاً بقطب واحد وينْأى بالإنْسان عن الانسان ..
***
قريبتي التي تعْمل في مبْنى مُجاور أتتْ لزيارتي قبل يومين .. شعرتُ بأنّها تود أنْ تقول شيئاً .. سألتُها.. أجابتني بتودّد وتردّد : "أردتُ أنْ أنصحك بتغيير حجابك وارتداء آخر مثل هذا".. أشارتْ لجلبابها الكبير ..
أخبرتُها بأنّ ثيابي تُناسبني وأجدُني في حالة ألفة معها ..
صمتتْ على مضض .. غادرتني بودّ أقل ..!
***
ساعة الغداء أخرجُ علبة تونة منْ حقيبتي وملعقة صغيرة .. عصيرُ فواكه مُشكلة ..
زملائي يتسائلون : هل هذا غداء ؟ يُعلقون بضحك بأنه لابُد وترْبطني صلة قرابة مع القطة .. !
***
في الثالثة ظهراً؛ دخلتْ إلى المحل سيدة في الخمسينات من العُمر .. تربط وسَطها بقُماشة سميكة من القطن .. وترْتدي ثوباً مُنسدلا .. قطعة صغيرة تلمّ شعْرها – نُسميها نحن (ملخباد)- عاقدة يديْها خلف ظهْرها بطريقة مُعلمي الكتاتيب .. !
في البدْء هاجمتْ مُوظفا كبيراً بالسّن – من الأقلية البيضاء في العاصمة (رير حمر/ مقديشو ) – قاذفة إيّاه بسباب مُفرط البذاءة .. نعتته بأنه شاذ !
ثم ابتدأتْ تسألنا عنْ قبائلنا واحداً واحداً .. مع سيل من الشّتائم الإيطالية من نوع ( وافانكولو - فارابوتو – ماليدوكاتو – فيليذيكانو – فيليذيبوتانو .. )
"أنت يا هذا .. لألتقِكَ في حمر ويني .. سأقطعكَ إرباً .. وأنْت هُناك .. أنتَ أشدّهم عليّ، سألقي بك في جُب إلى أنْ تمُوت .. أمّا أنت فسأنفيك إلى بُروندي .. سأنظف منكم بلدتي .. "
أنا مُنكمشة في زاوية بعيدة .. المشهدُ لا يبْدو لي طبيعياً ..
برفقة السّيدة رجلٌ ضخْم .. يبتسم في وجُوهنا بيْنما تُواصل هيَ قذائفها ..
بدأ الزملاء يتهامسُون بأنّها لابد وقدْ قضتْ البارحة تُطارح كؤساً ولمْ تستفقْ بعد أو أنّها تعاطت شيئاً آخر لكنْ بالتأكيد ليستْ بكامل وعيها ..
لديّ قناعة بأنّ الثمِل لا ينطقُ إلا بحقيقة دواخله .. لذا كنتُ مندهشة منْ كمّية العُدوان الذي يسْكن جوف هذه المرأة !
اتجهتْ نحو مكتبي .. كنتُ قد أوصدتُ الباب قبلها وأخذتُ أستعد لهذا الهُجوم الغريب من نوعه .. أسمعتني كلاماً مفاده أنّ تكبري يغيظها .. !
كنتُ على شفا أنْ أطلب منها مُغادرة المكان .. إلى أنْ أتى أحد الزّملاء وشاغبها بكلمات ضاحكة .. استمرتْ هي في سبابه .. ابتاعتْ أشياءَ وغادرتْ ..
نثرت بالأجواء وجوماً غريباً ..
بعْد دقائق انفجرنا ضاحكين .. بطريقة تُشبه الهستريا الجماعيّة ..
***
في المساء: لمْ يُرافقني «آدم» .. أنا أستأنسُ به وأداعبه دائماً بقولي " أنتَ تحمل تعويذة يا رجُل .. صارحْني .. منْ غير المعقول أنْ تتراكم الأحْداث الشريرة في اليوم الذي لا ترافقني فيه " .. يجيبُ هو : " هم يخافون من الأسْمر الطويل " ..
في المحطة صعدتُ إلى إحدى الحافلاتْ .. لم يتحرّك إلا بعْد ساعة .. طبعاً يوم الإثنين اسْتثنائي .. فالطرق مغلقة بسبب الزّحام.. وأملتُ أنْ أصل باكراً بعض الشيْء إلى «Down Town» حتّى أستقل الآخر المؤدي إلى «south C » وأطرق باب المنزل في وقت جيّد ..
كنتُ مسْتاءة .. لاحظ الكمسري هذا فابتدأ بمشاكستي .. الفتاة الخجولة بداخلي لمْ تعرف كيف تتعاطى مع الأمر .. أكلني الحرج منْ هذه المُغازلة العلنية والمُباغتة .. أخذ الرّكاب يضْحكون ويشاركون في التعليق.. !
حين اقتربنا من المحطة أردتُ اسْتغلال فرْصة توقف عارض للباص وغادرتُ مقعدي على عُجالة هرباً من الحصار الذي أنا فيه فإذا به يعاود التحرّك .. وقعتُ – بوضعيّة الجلوس - على أحدهم .. لمْ أستطع النظر إليه.. أخذتُ أصيح "أنتم مجانين" وأحاول النهوض لكنّي لمْ أفلح ..
انْتهى الكابوس بأنْ نزلتُ مطأطأة الرّأس ..
هُناك أيّام يروق لها أنْ تحشونا بالمواقف التي تورطنا بحكة في الرّأس وسؤال عن السّبب الخارق الذي أخْرجنا من البيْت هذا الصّباح
في الليْل هاتفتُ آدم :
"This is official now ، لابد أن تقاسمني تميمتك تلك .."
يضحكُ هو ..
***
في مرْحلة ما نُصبح أكثر مُسائلة .. بمذاق مُختلف .. ليس حارقاً .. ولا يأكل الروح.. لكنّه يقلل من مساحة الحتمييات في الداخل ..
تتزاحمُ اصدارات الحقائق على منافذ الرّؤية ..
ندركُ بأنّ هُناك درجات من اللون لا نراها بالعين المُجردة.. وأنّه من الأجْدى تركُ الباب موارباً بعْد كل فكرة ..
الحياة، ذاك الطريقُ الطويل / القصير .. التّجربة هي ما يجعلنا نفتخرُ في النّهاية .. نغمضُ أعيننا قبل أنْ نسلم الرّوح بثانية .. نقول " قدْ عشنا كفاية" .. ونرحل ..!
الربّ هُناك في الأعْلى رحيمٌ رحيمْ .. مالذي قدْ يجنيه من احْتراق فتاة مثلي جلّ ذنوبها أمْنيات .. وقلبُها هشٌ هشّ .. تعرضُه في الصّباح على حكايات المارّة .. وتدعُو لكلّ أعرج تراهُ في الطّريق !
--------------
* كاتبة صومالية