احمد جارالله ياسين - عيون القوارب الخشبية

الجسر العتيق الذي يشطر خاصرة المدينة إلى نصفين، اشترى بنقود العيد أصباغاً زاهية جديدة لوَّن بها هيكله الفولاذي العجوز، واشترى أيضاً أنواعاً جديدة من السمك تمر من تحته في النهر، كما وضع الجسر على ذراعيه أضوية ساطعة تغطي أشعتها القوية جسده الطويل الممتد بكسل بين الضفتين، وانتزع رجال أشدّاء من خاصرته بضع رصاصات طائشة زرعت في جسده من حروب عابرة..
الجسر العتيق استعار من الدور الملاصقة لحافة النهر أطفالاً مرحين يتراكضون بين طرفيه حاملين بالوناتهم الملوَّنة، كما استعار عشاقاً يتوسَّدون ذراعيه في لحظات الغروب وهم يرمون فتافيت الخبز الساخن لصغار النوارس التي تحاول تعلم الطيران فوق الجسر.
الجسر العتيق مسح عن جسده غبار الدبابات التي مرت عليه، كما أزال عمـال النظافة عنه الركام دخانها الأسود الذي رقد لسنوات طويلة على صفائحه الحديدية.
وفي أعماق الليل، كان الجسر يستلقي مسترخياً لوحده تحت ضوء القمر، يهرب من منظر النجوم التي تقاوم لحظات الأفول كلما اقترب الفجر، متجهاً بعينيه نحو مياه النهر التي تختزن أسراره منذ عقود..
الجسر العتيق يستيقظ باكراً، ليستقبل العابرين وهم ينبهرون بألوانه الزاهية..
لكن الجسر العتيق ظلَّ عتيقاً في عيون القوارب الخشبية التي ترسو عند ضفاف النهر في كل مساء منذ ولادة الجسر قبل عقود عديدة من الزمن المر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى