ناجي البدوي - بالمُظْلِــــم..

1

كالعادة، يخرجُ من قَريته، متسلِّلاً في أول الليل، من دِويم إلى دِويْمَات و( كَمّْبُو) بخاصته. من خَرْبَشةِ مكانٍ إلى خَرْبَشةِ مكان بصدره. تخرجُ من نفسه بُثُور تَشْبَه النَّوم والتَّثاؤب. فيعرفُ أنَّه أول الليل، كأنما هو ظُلمةٌ تحيا بظُلمة صغيرة، جزءٌ من ضفيرة الظُّلمة الابدية، التي عرفها منذُ أن إلتصقت عيناه بالتراب الأسود، لهذه الأرض السمراء. أسمر اللَّون، نحيف النَّاحية والخِلال. ينامُ النهار كلّه منشغلاً باشعال رَتِيْنَتِهِ الداخلية، كلما إنطفأت. كلما إنطفأ في مَلَذَّةٍ من ملذَّات صحوه المُلْزِم.
في أول اللَّيل تَشتعلُ ضفيرةُ الظُّلمة بالمطالب. وتبدأ سيلاناتها الخفيفة، ضاخةً اشاراتها في جسده المظلم. في جسدٍ يَتَلَقَّى المظْلوميَّة بجسده، وهو لا يشعر. يستريحُ في جدالاته المقوَّسة بين الظُّلمة والصَّحو المظلم. كأنما هو قِطاعٌ مفروقٌ بين ما يتماسكُ وما ينهارُ متهالكاً من نفسه. ليس ثمة غاية في كل تصاريفه اليومية للحياة ولوازمها التَّعريفِيَّة. هو مَعْنَى بذاته، غير مُدرك ولا يحيلُ إلى شيء. يعودُ لقريته مُتسللاً في آخر قطرة الليل، وبيده خيبة يوم أمس.

2
ــ أنَا شَـ.. رَكـْ..كَكْـ..كْ!

يتثآءبُ مستلقياً علي ظهره، فيما السماء تكنُسُ نجومها، من هذه النَّاحية إلى تلك، حسب مِزَاح الوقت حينما يعبرُ بطيئاً. حينما يعبرهُ الوقت في استلقاءته ممازحاً، وغير مهتم في غالب اللحظات. نجوم زَيّ النجوم. كثيرة وتَرْشَحُ منها سموات وخيال بخياله المتثآءب. كعادته، يُباغتُ بالنعاس في هذا المكان؛ (بَاجَةْ سالِمْ) السمراء، الممتدة إلى مالانهاية؛ لا يتذكر أنَّه مرَّ بها في نهارٍ من نهاراته المُتآكلة؛ وشجرها المظلم يغربل ترانيمه الساحرة، كلما هبتَّ نسمةٌ خضراء بجانبه. نَشَّابُهُ الوحيد يتمعَّنُ في غلظة البُنْدُقِيَّة الخرطُوش الصدئة، بجانبه. قوسُهُ يَتَفَرَّجُ بعبثيَّة في هذه النزوات المتبادلة بين رفيقيه الابديين. البُنْدُقِيَّة الخرطُوش تبصقُ ضجرها على أرض ( البَاجَة) السمراء، فَيَنَال النَّشَّاب المسكين حفنة غبار اللَّيل على جسده المنتظر. بملذَّة من ملذَّات حُلمه، سمع صوتاً تحشرجُ في مكانٍ ما. سَمِعَه بالكاد. بين خَدَرْ كَفَّيهِ المغروسين تحت رأسه، دخل عليه ذلك الصوت. سَمِعَه بالكاد كرُطَانةٍ عسيرة. قَرْفَصَ مذهولاً، واضعاً يده اليسرى على البُنْدِقِيَّة الخَرْطُوْش وطِبَاعها، التي لا تهدأ، كلما جَفَلَت عَيناهُ خلف شبحٍ من أشباح طرائده المتوقعَّة. يكتُمُ أنفاسه لبرهة. يلُمُّ سِرواله الكَسَلاوِي، المُنْبَهِل بين وَركَيهِ المتحفِّزين. بيده اليمنى يُلمْلِمُ سِرواله وخِصيتيه المتدليتين بداخله الواسع. فتنزويا مدهوشتين ناحية وَركه الايمن تقريباً. لم يشعر بهما المنزويتان. يتحسَّس مكانهما الفارغ بتخمينه. تعودان لقبضة كفِّه. فينالهما باصابعه مُتطلِّعاً في الخِلالات الدقيقة بنسيج الظُّلمة أمامه. سَمِعَه بالكاد. لكن ليس ثمَّة شيء أكيد. يُتَمتِمُ، عائداً لمكمَنِهِ البارد، على صفحة رمال الأرض، فَترشحُ من السماء فوقه، سماواتٌ جديدة تكنُسُها الطَّرائد. يعودُ لقريته مُتسلِّلاً في آخر قطرة الليل، وبيده خيانة يوم أمس.

3

يصطادُ في بريَّته الخاصة، قادراً على الرَّصد وكَتْم النَّفَس والقنص والتَّسديد في مقتله الأثير؛ ناحية القلب. أرنب برِّي من ناحية ( بَاجَةْ سالِمْ) أو ( الفَشَاْشَوْيَاْ) البعيدة. طير ( الحُبَارَة) من ناحية بحر أبيض الممتد بسخاء مُلغِز. أحياناً (أبْ عِفِّيْنْ) أحياناً خيباته. لكنَّه لم يصادف غزالاً قط. ودِيْ مَا كانت مُشكلة بالنسبة ليهُو. . بروحه غزال أسمر. يتصادفان ساعةً، في مُتوازية حُلميَّة. يتسللان في مُبْتَعِدَة حُلميَّة أخرى.
يغيبُ عن القرية لبضعة أيَّام، باحثاً، أثناء ضفيرة الظُلمة الابدية، عن طريدته. يقطعُ كل المسافة من ليله، مجْدَولاً بين ناحية بعيدة عن قريته، وبين عَرَشْكولات جنب جبال العَرَشْكَوْل البعيدة أيضاً، وما امتدَّ مجهولاً في الخلاء هناك. أوموحشاً بخلاءٍ من خلاءاته الخاصة، التي يعبرها ورائحة طرائده.
ـــ قِيَامتُو قَاْ.. قَاْ.. قَاااامت!.
في لحظة مُكسَّرةٍ، يُتَمتِمُ هكذا، فينطلقُ نَشَّابه الوحيد شاطراً الظُّلمة، إلى أبديتين؛ إحداهما تعوي مبتعدة عن مجرى نَشَّابِهِ الحاذق، والأخرى تسيلُ نَاقِرَةً على صدره المسحُول بالانتظار والأنين. الصَّفَار الجِّيري باسنانه، يتساقط في تلك اللحظة المُكَسَّرة، فتبْيَضُّ أسنانه وهو لا يشعر. تئنُّ طَرِيدته فيئنُّ هو أيضاً، في اللحظة المُكَسَّرة تَسديدتئذٍ.
يصطادُ في بريَّته الخاصة، بلا رغبة في مرافقة أحد. ولا يتحدَّثُ عن ما يصادفه هناك، في خلاءاته وما ترطنُ به طريدته في التَّلعثم الأخير، قبل أن يستلَّ سكينه ( فَاطْرْ الحَكَّامَة) من ذراعه، وينتهي من الأنين. أنين طريدته، وأنينه المكتوم. يعودُ لقريته مُتسلِّلاً في آخر قطرة الليل، وبيده جَيَشَان يوم أمس.

4
ــ أنَا شَـ.. رَكـْ..كَكْـ..كْ!

القنصُ، هو الطَّعم المظلِم بجسد الآدمي. كلما سالت روحه بالقنص، كلما أظلم بداخله عالمٌ ما، أثير من عوالمه المُعَقَّدة. حتَّى لا تلُوحُ نفسه لنفسه. أبواب نادرة تَصفَعها أبواب. فيُعسكرُ متأسِّفاً باعتقاده. يتصاعد الجزء الوحشي، رافضاً ما تُمليهِ عليه رغباتهُ، من إكتراثات ونسيان ومحاولة، بعيداً عن موضوعه وطريدته، وإن كانت اليأس فقط. وإن كان ثمَّة ما يُحبطُ دائماً. لاتشغلهُ العناية بمطالب الحياة اليومية كثيراً. ينامُ النهار كلّه مُنشَغِلاً باشعال رَتِيْنَتِهِ الداخلية، كلما إنطفأت. كلما إنطفأ في مَلَذَّةٍ من ملذَّات صحوه. من (كَمّْبُو) إلى ( كَمّْبُو). يشربُ مَرِيْسَتُِوْ وبَقَنِيْتُوِْ، زاهداً في الكلام عن آخِرِه. فقط ينتظرُ تلويح أول بوَّابات اللَّيل المُحصَّن بالاحتمالات والتَّخمين. وأن انشغلَ بما لايلزم. يحملُ قوسه ونَشَّابِهِ الوحيد والبُنْدُقِيَّة الخرطُوش مُتسلِّلاً، فيما طيور (السِمْبِّر) تحطُّ بجلافةٍ على سطوح بيوت الإنجليز الحجريَّة، هناك وهناك.
ـــ قِيَامتُو قَاْ.. قَاْ.. قَاااامت!.
فقط عليك التَّصويب، وأن كان طَعْمُك الغالي بالمُظلم. وإن كانت لغتُكَ تبتلعُ تُرجمانها، فترطنُ خائناً ما إكترثتَ أثناءه، وتحصَّنَ بالغياب. فتعرِفُ أنَّك شَرَكٌ، ولا تُبَالِي مجروحاً بأنينِ طرائدك.

5
ــ أنَا شَـ.. رَكـْْ..كَكْـ..كْ!

سَمِعَه بالكاد. أطرقَ لدبيبٍ خلايا عينيه على نسيج الظُّلمة الأبدي أمامه متذرِّعاً. بُنْدِقِيَّته على أهبةٍ. قوسه على أهبةٍ. نَشَّابه يتلوَّى على أهبةٍ أيضاً. جلابيته تمتحنُ الهواء حوله، ويمتحنها بهبَّاتهِ المزعجة. ليس ثمَّة شيء أكيد. يتمتمُ أمامه نفسه، التي بحثتِ النَّاحية بين خيال الاشجار الشبحيَّة هنا وهناك، وعادت إليه لاهثةً. يُقرفِصُ لامَّاُ صوت جلابيته وارتطام بُنْدِقِيَّته علي صفحة الرمال الباردة. يضعُ مؤخرته على صحفة الرمال الباردة، فيقشعرُّ جسده كله.
غَايْتُوْ خَلِّيْهَا سَايْ. خلف الظُّلمة السائلة من ضفيرة الظُّلمة الأبدية، خلف أشباح الشَّجر السِّحري بـ ( بَاجَةْ سالم)، كان ثمَّة دَمعةٌ ضخمة، تمتدُّ باتِّساع السماء خلف الظلمة. باتِّساع الأرض خلف الظُّلمة. لكن ليس بمستطاعه رؤيتها. سَمِعَه بالكاد، صوتها. وهو لا يعرف أنَّه صوتها الحاذقة. الصَّفار الجيري بأسنانه تساقطَ مُتَفَتِّتاً إلى ذرَّات صغيرة، حملها الهواء بعيداً عن تخمينه، المشغول بالحبك والدأب علي المراقبة واستعمار اللحظة المُكَسَّرة.
ـــ قِيَامتُو قَاْ.. قَاْ.. قَاااامت!.
وضعَ نَشَّابه في مرمي تسديداته، التي لم تطيش عن هدفها مُطلَقَاً، كاتماً نَفَسَه بمقدارٍ يشعرُ به من حكَّة أذنه اليمنى، فيميل برأسه حتى يلامس كتفه. تقع عُمامته على الأرض المظلمة. يضعُ عليها قدمه اليمنى، فتسكنُ مُتَلوِّعةً. يعودُ أكثر جسارةً لتعديل تسديده، كاتماً نَفَسَه بذلك المقدار، فتنتابه القشعريرة ثانيةً. يَثنِي رقبته مائلاً ناحية كتفه الأيمن حتى النهاية، هكذا. غزالٌ أسمرٌ لاحَ أمام عينيه الممتدتين، أبعد من تَصَوُّره. لاحَ فقط وسرعان ما أختفى؛ الغزالُ الأسمر. فجاءةً تفتحُ الأرض المظلمة فمها مُتَثآءبةً، فيتصاعد غُبارها اللَّيلي، حاجباً الرؤية. ليس ثمة إلا صوت الرِّيح القادمة. وأشباحُ الاشجار تتمايلُ مذعورة بالمفاجأة ولما لم يُتَوَقَّع. عادَ لقريته مُتسلِّلاً في آخر قطرة الليل، وبيده غيبوبة يوم أمس.

6
ــ أنَا شَـ.. رَكـْْ..كَكْـ..كْ!

ثمَّة ما يُحبطُ دائماً. لكنَّه لم يستجيب للقَرْعَ المُتردِّد بداخله. أو للنِّداء الخفيف المُتلعثم (أنَا شَـ.. رَكـْْ..كَكْـ..كْ!). سَمِعَه بالكاااااااد. حاول إشعال رَتِيْنَتِهِ الداخلية مذهولاً. رَتِيْنَتِهِ الداخليَّة حاولت. تَقَلَّبَ متمدِّداً فوق عَنْقَريبه جهة اليسار. لم ينفع. تَقَلَّب هو وعَنْقَريبه جهة اليمِين. لم ينفع مُطلقاً. بين مَلَذَّة من مَلَذَّات صحوه لاح غزاله الأسمر. خلال مَلَذَّة من مَلَذَّات حُلمِه إنْسَرَب غزاله الأسمر مبتعداً، فيما النداءُ المُتَلعثم، الخفيف يتصاعدَ؛ (أنَا شَـ.. رَكـْْ..كَكْـ..كْ!).
طيُور ( السِمِّبِر)، انتفضتَ من رُقادها فوق السطوح المُحدَّبة لبيوت الإنجليز. وتحَلَّقت بالسماء المعتدلة، أعلى بيته، القريب من تلك الناحية. صوتُ أجنحتها مال قليلاً، فاحصاً الجهات التى قد تبتغيها هذه الطيور، في مغادرتها سطوح بيوت الإنجليز القديمة.
في أول اللَّيل تَنشغِلُ ضفيرةُ الظُّلمة بترتيب المطالب. فيتسلَّلُ حاملاً نَشَّابهُ وبُنْدِقِيَّته الخرطُوش وقوسه المهيض، وبِقَصْدِه تتراقصُ ( بَاجَةْ سَالِم)، فَيُسرِعُ حازماً المسافة الممتدة من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، حتَّى تدنو من مُرَادِهِ الدَّهري.
يتثآءبُ مستلقياً علي ظهره، سابحاً في طَلاقَةِ نَسيمٍ أخضر، تناهى إلى مسمعهِ خالصاً. ليس ثمَّة شيء أكيد. يرطُنُ أمام نفسه المظلمة، وهي تفتلُ سَبِيْبَهَا، المتساقط من ضفيرة الظُّلمة الأبدية. شعر بحركة ما، هناك داخل فم الظُّلمة. إعتدل محدِّقاً، وعيناه تمتدان أبعد من تصوُّره. خلف اشباح الشجر، كانت الدمعةُ الضخمةُ تحدِّقُ مُترصِّدةً حركة غزاله الأسمر، وهو لا يعرف. إستوى في جلسته. تناولَ بخفِّةٍ نَشَّابه وقوسه. صوَّب ناحية الحركة التي شعرَ بها. الدمعةُ الضخمة صوَّبت نشَّابها أيضاً، منتقلةً من ناحية إلى أخرى، تحت ضفيرة الظُّلمة. ابصره بالكاد؛ الغزال الأسمر. كتمَ أنفَاسهِ في تلك اللحظة المُكَسَّرة.
ـــ قِيَامتَكْ قَاْ.. قَاْ.. قَاااامت!.
تجاسر أكثر في ترصُّده، متردِّداً بين نقطة ونقطة في جسد طريدته. الدمعةُ تجاسرت غير عابئة بطلاقة النَّسيم الهائم بين أشباح الشجر. اطلقَ نشَّابه الوحيد شاقاً الظلمة إلى قلب غزاله الأسمر، الذي إختفى من أمام تصويبتهِ، في تلك اللحظة المُكَسَّرة. لكنَّه شعرَ بطعنة حاذقةٍ أعلي ظهره.
طيُور ( السِمِّبِر) زَرَقَت فضلاتها، على السطوح المُحَدَّبة لبيوت الإنجليز. مُتَصَايحةً في عماها أعلى فأعلى. تزحلقت أعداد منها على تلك السطوح المُحَدَّبة، وضلَّت أُخرى عن أوكارها غائبةً، تحت ضفيرة الظُّلمة نفسها. عادَ لقريته مُتسلِّلاً في آخر قطرة الليل، وعلى ظهره طعنة يوم أمس. لكن ليس ثمَّة شيء أكيد مطلقاً.

*من رسالة قديمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى