لم أكن لأتخيل نفسي قبل ذلك طرفاً في صفقة لبيع نفسي أو أن تكون (نفسي) مطلوبة للشراء.
فجأة وكما يحدث للفيلة المسكينة حين يتهشم سلامها برصاصة فتعدو هلعاً أمام صيادين تحملهم عربات حديدية يحلمون بعاجها، كانت قطعان ذاكرتي تتواثب لتحتمي بما تبقى من غابة الماضي هرباً من الصيادين الاذكياء وهم يرصدونها من فتحات التهديف في بنادقهم.
أجب بسرعة وقبل أن تنظر، كم زراً في ثوبك؟
كم مفتاحاً في جيبك؟
أسئلة محتملة كهذه في البرامج التليفزيونية كانت ستبدو أرحم وأكثر بساطة من الأسئلة التي تواجهني بها، أمام الكاميرات، لجنة مكونة من خمسين عضواً في برنامج التسلية التلفزيوني على المحك. كنت عائداً الى بيتي ماشياً وسط سوق يلم البائعون فوضاهم قبل أن يغادروا. بقايا فاكهة ذابلة ومصابيح صغيرة تدور عليها الحشرات. فجاة ظهر فريق تلفزيوني من حولي. فاجأوني بمصابيح انارة من كل حجم تطوقني وتلسع وجهي. اشخاص غريبو الشكل عديمو الجدية يعلقون المايكرفونات فوقي ويعطونني الأوامر بلا حرج، أوامر تفترض طاعتي.
تقدمت مذيعة شابة انتزعت نفسها انتزاعاً من أمام مرآة يحملها مراهق مرتبك يبدو وكأنه في أول يوم له من العمل معهم. تقدمت المذيعة نحوي، قالت كلاماً لم يكن واضحاً من فرط اعتنائها بحركة شفتيها.
اصطادوني من رحلتي الى البيت. أخذوني في رحلة غريبة من برنامج يصطادون ضيوفه من الشارع الى لعبة الاسئلة. يملأون أحلامهم بالألوان. وافقت على العرض حين أغدقوا عليّ جميعاً اهتمامهم وسيلاً من أضوية البروجكترات. أغرقوني بالابتسامات. ابتسم لهم بالمقابل فيشيرون اليَّ بطريقة القادة الموسيقيين أن أرفع رأسي وابتسم. ابتسم وهم يسرقونني من بساطتي ومن عودتي الى البيت.
المحك. لم أفكر كثيراً في هذه المفردة، شبيهة بحكم. فخ، أو حسم، لكنها دوت مثل انفجار في رأسي. ارتبكتُ وفكرت في أن الكرم الذي يقدمه اليّ هذا الفريق غير الجاد سيكون ذا ثمن باهظ في «المحك». المحك هو اظهار لنفسي على انني نسخة نهائية من نفسي.
قادر على اختصار، ما يفترض أن يكون مفتوحاً للنقص وقابلاً للنقض، في اجوبة نهائية لأسئلة يقترحها البرنامج وتقدر اللجنة صوابها أو عدمه بعد مناقشة أبسط تفاصيلها في ما يبدو كابوساً لا ينتهي.
من أنا؟
تساءلت والبروجكترات تنطفئ ببطء يدهشني، ضوؤها يخفت مثل جمرة تنام، أو شمس تصاب بالعطل فجأة. من أنا؟
أنا معرفة غير مكتملة على الأرجح... نعم بالتأكيد. خبرة في طور التكوين. معقول.
خطط تريد ان تتحقق. مشاكل تريد حلولاً. «تصفيق» ولكن لا مشاكل مهمة قطعاً. أعني انني أنا. هذا شأن خاص. خاص جداً. حين انوي تفسيره أحس مثل صبي تعريه أمه أمام الآخرين من دون أن تلحظ بلوغه الخجل.
وافقت على ما لا أعرف وانطفأت المصابيح وكذلك اهتمام الفريق التلفزيوني بي. اجلسوني على مقعد صغير في الاستوديو، أمام اللجنة الخمسينية، تحت مستوى المدرج الذي يحتله الأعضاء منتشرين بطريقة توحي بعداءات شخصية ضارية.
الجالسون في الصفوف الخلفية العليا كانوا غائبين عن نظري أسمع أصواتهم فقط. والجالسون في الصفوف الأمامية كانوا مراوغين مثل ضيوف يلاعبون اطفال مضيفهم بلا رغبة.
التمعت المصابيح فجأة وعاد اهتمامهم المنتحل بمشاعري. عادت مركزيتي الى البزوغ.
«على الداخلين الى هنا أن ينزعوا كل عاطفة عن قلوبهم».
سرقوني من رحلتي الى البيت. كنت جائعاً وأحلم بطعم الرز الساخن، ببخاره اللاذع ينتشر في حلقي، ونكهته تسيل على جوعي. الأسئلة تحاصرني بقسوة لا تقل عن قسوة العدسات.
تلتمع الاجوبة في داخلي. أعرف انها أجوبتي، أعرف تفاصيلها. روائحها. أنغامها. معناها في إطار حياتي وفي اللحظة التي انتجتها. سيعذبون أجوبتي بالأسئلة، يجلدونها علناً. أجوبتي تتعرض لفحصهم ولنقاشهم بلا طائل. ان أماطل، ان أثبت نفسي من موقع الدحض.
لهذا وبعد التحديق في وجوههم جميعاً، قررت أن ألوذ بالصمت.
لمْ أجب، لم أنطق بشيء، حاولوا معي بشتى الطرق ولم أخرج عن صمتي.
هزوني امام كاميرات تحيط بي مثل كلاب حراسة نائمة، لكني لم أنطق بحرف. استغل بعض العاملين الفرصة للثأر من مركزيتي البائدة. دفعتهم بالصمت الى القائي في الشارع مرة أخرى.
في رحلتي اليومية الى البيت أخشى هذا الكابوس. وفي البيت، قبل أن أدخل غرفتي، أتأكد من أنهم ليسوا هناك.
كتبت هذه القصة عام ٢٠٠٠
* منقول عن جريدة المدى
فجأة وكما يحدث للفيلة المسكينة حين يتهشم سلامها برصاصة فتعدو هلعاً أمام صيادين تحملهم عربات حديدية يحلمون بعاجها، كانت قطعان ذاكرتي تتواثب لتحتمي بما تبقى من غابة الماضي هرباً من الصيادين الاذكياء وهم يرصدونها من فتحات التهديف في بنادقهم.
أجب بسرعة وقبل أن تنظر، كم زراً في ثوبك؟
كم مفتاحاً في جيبك؟
أسئلة محتملة كهذه في البرامج التليفزيونية كانت ستبدو أرحم وأكثر بساطة من الأسئلة التي تواجهني بها، أمام الكاميرات، لجنة مكونة من خمسين عضواً في برنامج التسلية التلفزيوني على المحك. كنت عائداً الى بيتي ماشياً وسط سوق يلم البائعون فوضاهم قبل أن يغادروا. بقايا فاكهة ذابلة ومصابيح صغيرة تدور عليها الحشرات. فجاة ظهر فريق تلفزيوني من حولي. فاجأوني بمصابيح انارة من كل حجم تطوقني وتلسع وجهي. اشخاص غريبو الشكل عديمو الجدية يعلقون المايكرفونات فوقي ويعطونني الأوامر بلا حرج، أوامر تفترض طاعتي.
تقدمت مذيعة شابة انتزعت نفسها انتزاعاً من أمام مرآة يحملها مراهق مرتبك يبدو وكأنه في أول يوم له من العمل معهم. تقدمت المذيعة نحوي، قالت كلاماً لم يكن واضحاً من فرط اعتنائها بحركة شفتيها.
اصطادوني من رحلتي الى البيت. أخذوني في رحلة غريبة من برنامج يصطادون ضيوفه من الشارع الى لعبة الاسئلة. يملأون أحلامهم بالألوان. وافقت على العرض حين أغدقوا عليّ جميعاً اهتمامهم وسيلاً من أضوية البروجكترات. أغرقوني بالابتسامات. ابتسم لهم بالمقابل فيشيرون اليَّ بطريقة القادة الموسيقيين أن أرفع رأسي وابتسم. ابتسم وهم يسرقونني من بساطتي ومن عودتي الى البيت.
المحك. لم أفكر كثيراً في هذه المفردة، شبيهة بحكم. فخ، أو حسم، لكنها دوت مثل انفجار في رأسي. ارتبكتُ وفكرت في أن الكرم الذي يقدمه اليّ هذا الفريق غير الجاد سيكون ذا ثمن باهظ في «المحك». المحك هو اظهار لنفسي على انني نسخة نهائية من نفسي.
قادر على اختصار، ما يفترض أن يكون مفتوحاً للنقص وقابلاً للنقض، في اجوبة نهائية لأسئلة يقترحها البرنامج وتقدر اللجنة صوابها أو عدمه بعد مناقشة أبسط تفاصيلها في ما يبدو كابوساً لا ينتهي.
من أنا؟
تساءلت والبروجكترات تنطفئ ببطء يدهشني، ضوؤها يخفت مثل جمرة تنام، أو شمس تصاب بالعطل فجأة. من أنا؟
أنا معرفة غير مكتملة على الأرجح... نعم بالتأكيد. خبرة في طور التكوين. معقول.
خطط تريد ان تتحقق. مشاكل تريد حلولاً. «تصفيق» ولكن لا مشاكل مهمة قطعاً. أعني انني أنا. هذا شأن خاص. خاص جداً. حين انوي تفسيره أحس مثل صبي تعريه أمه أمام الآخرين من دون أن تلحظ بلوغه الخجل.
وافقت على ما لا أعرف وانطفأت المصابيح وكذلك اهتمام الفريق التلفزيوني بي. اجلسوني على مقعد صغير في الاستوديو، أمام اللجنة الخمسينية، تحت مستوى المدرج الذي يحتله الأعضاء منتشرين بطريقة توحي بعداءات شخصية ضارية.
الجالسون في الصفوف الخلفية العليا كانوا غائبين عن نظري أسمع أصواتهم فقط. والجالسون في الصفوف الأمامية كانوا مراوغين مثل ضيوف يلاعبون اطفال مضيفهم بلا رغبة.
التمعت المصابيح فجأة وعاد اهتمامهم المنتحل بمشاعري. عادت مركزيتي الى البزوغ.
«على الداخلين الى هنا أن ينزعوا كل عاطفة عن قلوبهم».
سرقوني من رحلتي الى البيت. كنت جائعاً وأحلم بطعم الرز الساخن، ببخاره اللاذع ينتشر في حلقي، ونكهته تسيل على جوعي. الأسئلة تحاصرني بقسوة لا تقل عن قسوة العدسات.
تلتمع الاجوبة في داخلي. أعرف انها أجوبتي، أعرف تفاصيلها. روائحها. أنغامها. معناها في إطار حياتي وفي اللحظة التي انتجتها. سيعذبون أجوبتي بالأسئلة، يجلدونها علناً. أجوبتي تتعرض لفحصهم ولنقاشهم بلا طائل. ان أماطل، ان أثبت نفسي من موقع الدحض.
لهذا وبعد التحديق في وجوههم جميعاً، قررت أن ألوذ بالصمت.
لمْ أجب، لم أنطق بشيء، حاولوا معي بشتى الطرق ولم أخرج عن صمتي.
هزوني امام كاميرات تحيط بي مثل كلاب حراسة نائمة، لكني لم أنطق بحرف. استغل بعض العاملين الفرصة للثأر من مركزيتي البائدة. دفعتهم بالصمت الى القائي في الشارع مرة أخرى.
في رحلتي اليومية الى البيت أخشى هذا الكابوس. وفي البيت، قبل أن أدخل غرفتي، أتأكد من أنهم ليسوا هناك.
كتبت هذه القصة عام ٢٠٠٠
* منقول عن جريدة المدى