إبراهيم درغوثي - عربة الدرجة الممتازة.. قصة قصيرة

ساحة المحطّة تعجّ بالمسافرين. وأمام شبّاك التّذاكر طوابير طويلة : طلبة وطالبات وعمال وجنود يتدافعون بالمرافق ويتقاذفون بالسبّاب واللّعنات. وعلى سكّة الحديد قطار طويل راقد على بطنه كالزّواحف الأسطورية الخارجة من ذاكرة التّاريخ.
في وسط السّاحة انتشر جمع من الشّباب ملأوا الدّنيا صياحا ولغطا وبذاءات ونداءات بأصوات مرتفعة.
ووصلت كوكبة من المجنّدين الجدد. مشوا كالطّواويس يتفاخرون بالكسوة العسكريّة وقعقعة الأحذية الغليظة على رصيف المحطّة.
وغير بعيد عن مرقد الوحش الأسطوري انتحى ثلاثة شبّان يضربون على طبلة ودَرْبُوكة وطارٍ ويغنّون أغان فاحشة ويتناوبون الشّرب من قارورة خمر.
رأيت صاحب الدّربوكة يخرج من جيب معطفه قارورة تشعّ بالنّور، يقرّبها من عينيه ويقبّلها ثمّ يفضّ بكارتها بإبهامه. يضغط بعنف على السّدادة فينفجر السّائل الأحمر في وجهه فيلحسه مقهقها ثمّ يعبّ من ثغر القارورة ويمرّرها إلى أصحابه فيتلهّون بها مدّة ثمّ يرميها أحدهم لترتطم على عربة من عربات قطار البضائع محدثة أنينا وتوجّعا.


ويتواصل الغناء والرّقص فيلتحق الجنود بالجوقة مصفّقين مهلّلين وتكبر الحلقة.
ويزداد البلاء.
ويرتفع صوت جرس المحطّة معلنا عن نهاية الحفل. فيندفع المسافرون إلى العربات.
اندفعوا وهم يقتحمون الأبواب من كلّ الجهات.
وتضاربوا وهم يصعدون الدّرج. وغصّت بهم الأبواب الضيّقة.
بعد دقائق كانت العربات قد أُتخمت بشرا وعرقا وكلاما نابيا.



بعد أن مرّ الطّوفان من أمامي حملت حقيبتي وقصدت العربة، عربة الدّرجة الممتازة. دفعت الباب بلطف ودلفت إلى الصّالون. الكراسي وثيرة بمساند للمرافق ومتكآت للرؤوس ومنافض سكائر ومناضد صغيرة للعشاء.
وهواء الصّالون دافئ.
وآلة تسجيل تبثّ من السّقف أغانٍ بصوت الفنّانة الرّقيقة فيروز. والمقاعد كثيرة. وعدد الرّكاب قليل.
كان عدد رفاق الرّحلة أربعة رجال وأربع نساء وطفلين.


جلست على مقربة منّي، على الكرسي المقابل لمقعدي .
اختارت مجلسها قريبا من الشبّاك.
واعتذرت بلطف حين داست قدمها على مقدّمة رجلي وهي تقف لتضع حقيبتها في رفّ العربة.
وكست حمرة الخجل وجهها الجميل لمّا قَبِلتُ اعتذارها بابتسامة خفيفة وبـ « شَيْ مَا صَاْر ».
واعتدلتْ في جلستها .
جذبت تنورتها إلى تحت الرّكبة ثمّ أخرجت من حقيبة يدها رواية وانهمكت في القراءة.



ساحة المحطّة مازلت ملأى بالمسافرين وباللّغط المكتوم .
والمارد استفاق من نومه. اشتعلت النّيران في جوفه فأفاق مرعوبا.
زمجر ونفث الدّخان من خياشيمه وَعَدَا يأكل سكّة الحديد أكلا لمّا. ويقطّع أوصال اللّيل تقطيعا.
في البعيد، لمعت أضواء المداشر والقرى اللاّبدة في حضن الجبال واشتعلت كعيون القطط البريّة.


وانساب صوت فيروز هامسا يُغازل الأحلام والبدْرَ ومليك الجنّ .



عرفتُ منها ونحن نتعشّى أنّها طالبة في سنتها النّهائيّة. وأنّها تَدْرُس في كليّة الآداب في سوسة .
وقالت إنّها مُغرمة بالأفلام التّونسيّة الحديثة: عصفور سْطحْ، وصفائح من ذهب، وبنِت فاميليا، وصمت القصور، وبموسيقى «الرّاي» وبالرّوايات الجميلة وبمحمّد الغزّي ومنصف الوهايبي ومحمود درويش .
قلت مازحا :
- أنت مُغْرَمَة بالشّعر أم بالشّعراء ؟
ردّت وورد الرّبيع يكسو وجنتيها :
- أنا أعشق الشّعر يا سيّدي أبحث عنه في رَسْمٍ دَارِس أو في كأس مُتْرعة بالحنان عند أبي نوّاس أو عند طرفة بن العبد !
وأضافت بعد قليل :
- أنهيت هذا الصّباح قراءة «ذاكرة الجسد» ولن تمرّ هذه اللّيلة قبل أن ألتهم «فوضى الحواس» .
لقد دفعتني الضجّة الإعلاميّة التّي افتعلتها الصّحافة لاكتشاف «أحلام مستغانمي» . هي رائعة يا سيّدي !

قلت لها إنّني قرأت الرّوايتين. وإنّني مُغرم مثلها بالشّعر والرّواية. فزاد انفعالها وقامت تُنـزل حقيبتها المركونة على الرفّ.
همستْ مازحة :
- لن أدوس على قدمك هذه المرّة !
ووضعت الحقيبة على ركبتيْها .
ظلّت دقائق تدقّ عليْها بالسّبابة والوسطى ثمّ قالت كمن يحدّث نفسه :
- لقد أنهيت كتابة روايتي الأولى يا سيّدي.
وأخرجت من الحقيبة مخطوطا عرضته عليّ.
قرأت العنوان فأغراني بتصفّح الكتاب.
وقامت.
أعادت الحقيبة إلى الرفّ.
وجلست وهي تجذب تنّورتها إلى تحت الرّكبة.



نام الصّبيان .
وخَفت ضجيج الرّجال الأربعة .
وتوسّدت النّساء أذرعهنّ ونمن .
وامتدّ اللّيل أمام القطار.
من بعيد، جاءني صوت. تبيّنته وهو يجدُّ في اقترابه.
قرْع على الطّبلة.
ودقّ باليدبن على الدّربوكة.
وخشخشةُ طار.
وتصفيق وتصفير.
ورويدا رويدا، كبُر اللّغط والهرج. وازداد الضّجيج ارتفاعا إلى أن اندفع جمع من الشبّان داخل عربة الدّرجة الممتازة.
فتيان بعيون شرسة انقضّوا على النّائمين فأيقظوهم عنوة وهم يصيحون :
- أفيقوا يا أولاد الكلب ! تنامون في الدّفء ونحن لا نكاد نجد موطئ قدم في العربات الأخرى!
ضجّ الطّفلان بالصّراخ.
وقامت النّساء مذعورات
وتفقّد الرّجال جيوبهم وهم يتثاءبون.
وعرَفْتُ الشّاب المكلّف بتكسير قوارير الخمر على عربات قطار البضائع.
كان شرسا وهو يهتف :
- لن تناموا دقيقة بعد الآن يا أبناء الزّواني !

ودقّ على الطّبلة بعنف فجاوبته خشخشة الطّار وهزيم الدّربوكة وعويل الطّفلين وصياح النّساء .
وظلّ الرّجال ذاهلين وكأنّ على رؤوسهم الطّير.



قبل وصولهم بقليل كانت الطّالبة قد غادرت مجلسها وذهبت إلى «التّواليت».
تمنّيت أن تبقى هناك وتغلق وراءها الباب حتّى تمر العاصفة ويهدأ الجوّ. لكنّها خرجت طريّة كوردة الصّباح. فهلّلوا لمرآها :
- هاهي بنت الأكابر ! يا مرحبا ! يا مرحبا !
فصاح فيهم كبيرهم :
- بَلْعُوا يَاكْلابْ !
وذهب لملاقاة الشّابة .
وضع يده على كتفها فنترت اليد الممدودة بغلظة متنمّرة :
- هبّطْ ايدَكْ يَا سَخْطَهْ !
انفجر الفتيةُ في ضحك هستيري مجنون وهم يشيرون إلى البنت وإلى القائد .
ضحكوا حتّى شبعوا ثمّ وضعوهما في حلقة وصاروا يدورون حولهما قافزين فوق الكراسي وفوق رؤوس الركّاب الجالسين هنا وهناك .
مدّ القائد يده مرّة أخرى إلى صدر البنت فنترتها بحركة أعنف من الأولى .
وعاد إلى النّحْر.
فعادت إلى النّْتر .
وعاد إلى الشّعر .
وعاد إلى الثّغر .
وعاد إلى الصدر
وعاد إلى الورد
وعاد إلى النهد
والبنت تقاوم .
والرّجال الجالسين على الأرائك الوثيرة يُراقبون المشهد بفضول إلى أن صاحت المرأة، أمّ الطّفلين :
- حَرَامْ عَلِيكْ ... ! هذا حَرَامْ !
فزجرها زوجها :
- اسْكتي ! مَالْنَا وَالمَشَاكِلْ !
فجأة، انقضّ القائد على البنت فطرحها أرضا وسط تصفيق أصدقائه وتشجيعهم.ومزّق صدرها فقفزت من الصّدر تُفّاحتان فوّاحتان . والبنت تخبط برجليها وتصيح وتلطم وجهه وصدره وتعضّ يديه.
والرّجل ينهش من التّفاحتين ويأكل من الجسد الفائر صحّة وعافية .



غطّت النّساء وجوههنّ بأيديهنّ.
ووقف الرّجال.
سوّوا بدلاتهم الأنيقة جدّا.
المكويّة جدّا.
وذهبوا يدخّنون السّيجار في«تواليت»ْ عربة الدّرجة الممتازة.




ووقفتُ بعدهم.
سوّيت النّظارة فوق أرنبة أنفي وقصدته.
حين اقتربت منه وقف يستقبلني.
بغتة، خبطني على قفاي فسقطت النّظارة على الأرض وتهشّمت.
أحدثت عند سقوطها خشخشة خفيفة فخمّنت مكان وقوعها.
بحثت عنها ورأسي يدور إلى أن وجدتها .
كان البلّور قد تشقّق وتفتّت إلى قطع صغيرة لكنّه ظلّ متماسكا.
لبست النّظارة وقمت واقفا فرأيت عجبا:
تقطّعت أوصال صاحب الدّربوكة .
تشظّى.
رأس هنا .
وجذع هناك .
صدر فوق الرّجلين .
وذراعان نابتتان على الورك .
صوته فقط ظلّ يدوّي وسط العربة .
اقترب منّي .
مدّ يده نحوي .
صارت اليد عشراتٍ من الأيدي ولم أدر أيّها يده الحقيقيّة .
مددت يدي كما اتّفق .
صادفت يدا ممدودة فعضضتها ودفعت برأسي بين فخذيْه.
فاجأته الضّربة .
فاجأه عنف الهجوم لكنّه صمد.
فأعدت الكرّة.
ضربته هذه المرّة بأمّ رأسي .
أحسست بجسده يرتخي وهو يتكوّر فوق كتفَيَّ ويسقط على أرضيّة العربة .
أمسكت برأسه وبدأت أخبط فجحظت عيناه واستطال ذقنه وبهت لون شاربيْه وبدأ يخور.
خَارَ كما تخور ثيران الأساطير. ثمّ همد واسْتَكَان.



ونظرت من الشّباك فطالعتني أنوار الفجر وصكّ سمعي دقّ على الطّبلة في عربات الدّرجة الثّانية من قطار اللّيل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى