حيدر الاسدي - مراسل حرب.. قصة قصيرة

كل ما في هذا البلد مسلسلات حروب لا تنتهي ألا بانتهاء قائميها وفناءهم من هذه المعمورة،الشباب يساقون إلى حتفهم من كل حدب وصوب ، وأطفال يحفظون الموت على ظهر قلب لأنه اتيهم لا محال ، يتربون على ارتشاف رائحة البارود والتشاجر بالعصي منذ بواكير صباهم، في زمن جند الجميع لحفظ إشكال الرصاص وأنواع الأسلحة المستوردة!!! ، لا حديث يعلو فوق حديث الموت ، شبح الحرب يخيم على ضفاف مخيلاتهم ، ضفة واحده هي من تبحر بهم الى المجهول ، مآقي عيونهم تكتنز أسرار لا مجال للبوح فيها ، نواصيهم مترعة بالغموض،مدن تعيش على تشييع موتاها ، الحروب أوقفت النسل ....عدمت الزواج ، ونحرت شباب تفتح للتو، مدينة تخلو من الحدائق ، المياه بدأت تجف في أنهارها ، قاتل الله الحرب التي لا تعرف غير كيف تقتل الأخر بأسهل الطرق وابخسها! ، لا تكترث كم لديه من الأطفال ، او أم تنتظره او زوجة ترقب منه عودة ميمونة ، الحرب لا تعرف غير لغة الانتقام ، وغالبا لا يعرف الذين اشتركوا فيها ....لما قتلوا الجانب الأخر !!! وأي الأسباب التي تجعل الإنسان يزهق روح أخيه الإنسان ؟؟ لا مجال لهذه الأسئلة في خلد الذين يتقمصون أقنعتهم وهم يرتجلون لحرب لا هوادة فيها .... السرادق تنتشر في كل حي من أحياء المدينة ، اليافطات السوداء تلفع المدينة بلونها وكأنها ليلة حالكة ، او شعر منسدل من أرملة على فقد حبيب ....تخربشه أناملها بجنون مفرط !حروب متوالية ، حصدت أرواح الكثير ...لكن قادتها لا يشبعون ، كطلاب المال ، يشربون دماء بني البشر ويتاجرون بلحمه على مائدتهم المستديرة ....كل شيء قابل للأكل والشرب لديهم !!! يلعبون بشعوبهم كما يُلعب بالكرة في ارض الملعب وتدحرج على عشبه، في مدينة ( صيري) تلك المدينة مالحة المياه ، التي قيظ صيفها يهرب منه الجميع ،ثمة سماء يتطلعون لها ،كل يوم يندبون حظهم العاثر ؛ سكان هذه المدينة طيبون حد السذاجة ، كرمهم يمتد إلى جغرافية البلد ،ثمة أحياء فقيرة تتوزع على ربوع المدينة ، وفي أحدها كان ثمة صحفي لا يملك من الأصدقاء ألا شخصا معتوه اسمه فائز ، لكن هذا المعتوه كان رفيقه أينما حل ،حتى حينما سمع من ان الصحيفة المتواضعة جدا الواقعة بنايتها في مركز المدينة والتي يعمل بها الصحفي ( عبد الله نديم) بأنها قررت إيفاده لتغطية أخبار الحرب !!!


- الحرب ...يا الهي ؟ الحرب ؟

كيف توافق على تصوير الجثث ...ألموتى .....القتل ....الحرب ...صراع الإنسان مع أخيه الانسان!!

كان يردد ذلك بفزع وبصوت مرتبك وهو يوجه كلامه الى صديقه الصحفي ( عبد الله نديم)

- ماذا تأكل أمي؟ زوجتي ؟ طفلي القادم بعد بضعة أيام ؟ وأنت تعرف جيدا اني لا افقه غير هذه المهنة ولا أقوى على عمل المشاق !!!

بنبرة حزن وصوت وئيد أطلق اسطره الأخيرة بوجه صديقه المعتوه الذي يسكن بساحة قرب دار عبد الله ، بغرفة وحيده بنيت من الطين !!! حتى ان أراد ان يقضي حاجته قصد الجامع الذي يقع عن مكان غرفته 500 متر ، هذا المعتوه كان يزج نفسه بأشياء لا يتوقع الآخرون ان يشغل معتوه نفسه بها ، فهو يحاول ان يغوي بنات الحي بأنه يصلح أن يكون حبيبا لهن !!!

وكان سلواه في هذا بأنه يتدرب على تعلم اللغة الانكليزية ، فهو يرطن ببعض المصطلحات التي سمعها من عبد الله ويعيد تركيبها بصورة فنطازية أمام بنات الحي عسى ان تعجب أحداهن به لكنما دون جدوى ....يكرر المشهد يومياً حينما يتلصص لهن وهن ذاهبات صباحا الى مدارسهن ...ولا يخلوا مرورهن من ضحكات متغنجة سخرية من هذا المعتوه الذي كان يظن إنهن يبتسمن له .....ارتمى على فراشه وقد أنهكه سهر الليلة الماضية وبدء يحدث نفسه :

Wyrre-

werre

war

werra

werso

werran

Werran

verwirren

ماذا يعني اختلاف اللغات ...؟! فكلها حرب تؤدي الى قتل الأبرياء واسر الآخرين !! ....ماذا يعني حرب دفاعية هجومية أدغال صحراء خنادق جبال جوية ألغام مائية عصابات كيمائية نوويه وماذا يتمخض عن الحرب غير القتل والأسرى ؟!... بدء يكلم نفسه بصوت مرتفع شيئا فشيئا ، حتى شخص أمامه عبد الله بكامل هيئته وقد استعد ان يودعه لأنه ربما لن يراه بعد ألان ...

اختنقت دمعة هاربة من هذا المعتوه الذي بدء عارفاً بكل تفاصيل الحرب للتو وهو يعدد أصنافها ...ربما ان عبد الله ذات يوم في مشادة كلاميه معه حول نفس الموضوع لمح من كلام هذا المعتوه انه كان أسير حرب سابق ....ربما لكنه يخفي هذا الأمر على عبد الله ، خصوصا انه صديق ليس منذ الطفولة بل في مرحلة متأخرة من العمر ،حزم عبد الله حقائبه وما يحتاجه أملاً ان ينتقل الى ضفة الحرب الأخرى وقبل ان يعانق صديقه المعتوه الذي استقال من تفاصيل حياته الماضية في هذه الغرفة الطينية ، همس المعتوه في إذنه بكلمة خرجت مبعثرة من فمه ....

- الا الحرب .. .يا صاح؟

رمقه عبد الله بنظرة خجولة فيها من الخسران الكثير ، والكلام الذي لا يقال ، قبل ان يطلق جملة وصلت حروفها متخبطة إلى المعتوه :

- أريدك ان تفكر بما قاله ( وودرو ويلسون ) عن الحرب : (هل هناك أي رجل، هل هناك أي امرأة، واسمحوا لي أن أقول هل هناك أي طفل لا يعرف ان بذور الحرب في العالم الحديث هي التنافس الصناعي التجاري ) . لماذا اغفل السياسة برأيك يا صاح؟ هل السياسة غلاف داخلي لهذين الاثنين ...!!

ترك السؤال ملطخ بحيرة لذلك المعتوه الذي يسمونه معتوهاً لكنه في الآونة الأخيرة يقول كلام لا يقوله كبار العقلاء من سكان هذا الحي ..ربما في سره كتمان كبير لا يعرفه حتى عبد الله ....حمل معه كاميرته ، والة التسجيل خاصته ، وصورة فوتوغرافية تجمعه مع والدته وزوجته ، بدون والده الذي آكلته أحدى الحروب السابقة !واستقل الحافلة التي سترمي به داخل معسكرات الحرب لكي يمارس دوره كمراسل حرب ، هو بما يملك من فقر مدقع الا انه لم يمارس هذه الوظيفة من قبل رغم انه قرأ عشرات الروايات والقصص التي تسرد فيها يوميات مراسل حرب فهو يعرف جيداً روبرت فسك ...وقرء جيدا كتابه (الحرب من أجل الحضارة:السيطرة على الشرق الأوسط) وسمع الكثير عن بيتر ارنت ........ الحافلة تسير وقلبه يسير بعيدا عن المدينة وأزقتها ...والمعتوه يلوح له من خلف نافذة شابها الغموض من شدة الاتساخ ، في الحرب حتى النوافذ لا يطالها التنظيف ، ولا تشرع كاملة ...نسوة يزغردن لان الحافلة تحشر مجاميع من المراهقين المساقين للجبهة !! ...مضت ثلاث ساعات والحالفة لم تسام السير فيهم ، صمت مهول يخيم على الركاب .... الجميع هنا مرغم على الصمت ....وتنفيذ ما يأمر به ذلك المسؤول ذو الشارب الكث والوجه الغليظ ....الذي يزمجر بهم بين فينه وأخرى ويلقي على عاتقهم نصائح الحرب:

- إياكم والهروب من ارض المعركة ....لان هذا يعني موتكم مع كافة أفراد عوائلكم؟

حاول عبد الله أن يؤرشف بعض اللقطات من خلال النافذة ، او للركاب الذين ربما هذه ستكون طلتهم الأخيرة ، لكن ذلك المسؤول الذي يجلس في الكرسي الذي يجانب السائق كان ينهره كلما أراد التقاط صورة ...مبين له أن مهمته لم تبدأ ألا بأرض المعركة ..وكلما سمع عبد الله بكلمة معركة اهتز جسده ...وارتعدت مفاصله ، واسند رأسه الى النافذة مسترقا دمعة متحجرة في عينيه ....عبد الله لم يكن يوما مراسل حرب ...انه صحفي يهتم بالنشاطات الثقافية ،والمتابعات الفنية التي تقام في مدينته ، وهو مصور بارع ،ولا يدرك للان ما سبب اختيار الصحيفة الذي وقع عليه، لهذه المهمة !!! وقبل ان يضع نظرته على الصورة التي يحملها معه ، جاء صوت أجش من ذلك المسؤول يأمرهم بالنزول ، ربما وصلنا ...هكذا كان يقول عبد الله مع نفسه ...منطقة شبه صحراء ....من بعيد سواتر ....غرف مبنية موقتاً ...ثمة شجيرات صغيرة لم يدرك منظرها حتى عن كثب ...جنود ينتشرون في تلك الصحراء خلف السواتر ....أسلحة ثقيلة...وخفيفة....صواريخ....مدافع ....كل شيء هنا ...يعني الموت ....أنها الحرب ....الداخل فيها خسران ...قابلهم صاحب انف مدبب ببطن تتقدم الى الأمام ، وقد تطايرت من فمه عبارات الشتيمة لهم وهو يستقبلهم :

- لماذا تأخرتم؟

- زحام السير ....سيدي؟

رد بهدوء من قادهم لهذا المكان .قبل ان يفرق الجنود ويوجههم إلى مكان القتال المقرر لهم .

- ابنوا لكم من هذا الطابوق غرفا تؤويكم من حرارة الشمس!

كم رحيم صاحب الأنف المدبب هذا ...قالها احدهم وهو يتصفح المكان بإمعان وخوف ...

- كم أنت غبي ؟ اية رحمة تتكلم عنها؟

صفعه احدهم بهذه العبارة ...قبل أن يشتتهم صوته :

- تفرقوا .......

خمسة أيام مضت ....والجنود يطلقون النار بلا توقف ...لا يعرفون اين تقع قذائفهم...وخمسة مضت وهم يستقبلون قذائف الجانب الأخر ...التي أصابت جزء منهم ...وعبد الله اتخذ من غرفة في زاوية تبعد قليلاً عن ساحة الحرب المقررة ....مسكناً له مع احد ما من يطلقون على أنفسهم قادة الحرب ....الذين يقودون الدفة من خلف الكواليس!!!وعبد الله حينما تعود على المكان بعد أيام ...عرف ان ثمة عوائل متعففة تسكن بالقرب من هذا المعسكر ، او جبهة الحرب ....عوائل تعودت الحروب ...قرر ان يذهب في جولة لتصويرهم ...سحب جسده خفية من امر ذلك الذي يقود دفة الحرب ....من خلف الجدران ....سار مسافة ساعة ونصف واذا به في منتصف عوائل

تسكن خيم ...تسعة ...ربما عشرة ...أفراد في خيمة واحدة...أطفال عراة ...نساء رسمت ملامحهن سنوات الألم ....شظف العيش يبان من طريقة عيشهم ....استقبلته نظرات النسوة بفزع غير معهود :

- صحفي ...صحفي...!

قال في نفسه وهو يقترب أكثر :

- ألحمد لله أنهم قد سمعوا بان ثمة صحافة في هذا البلد ...!

بدء يخرج له الرجال من الخيم ...تجمعوا حوله ....ولم ينبس احدهم ببنت شفة ...قبل ان يبادرهم هو :

- هل تسمحون لي بالتقاط بعض الصور لكم ؟

- وهل ستنشر صورنا في الصحف؟

احد الرجال بادره بغلظة . بينما يدير عبد الله كاميرته ويلتقط صورا مختلفة للمكان أدار وجهه نحو ذلك الرجل :

- أود الاحتفاظ بهذه الصور...للأرشيف !

تغيرت وجوه الجميع حينما سمعوا كلمة أرشيف ...وظن بعضهم ان هذا المصور سيرسل صورهم للجهات المسؤولة وبدورها ستطردهم من هذه الأرض ...طيب ما هو السبب الذي يجعل هؤلاء يسكنون أرضا موحلة بالحروب والدماء !!! هكذا ظل يتساءل عبد الله وهو يغادرهم بعد ان التقط عددا كافيا من الصور خصوصاً للنساء وهن يخبزن في تنور الطين الذي جانب خيمة سكناهم ....وعاد مرة أخرى ليخلد في غرفته البائسة ...التي تحوي زمزمية ماء عسكرية ....راديو قديم ...أسلحة كلاكينشوف ...في الليل أطلاق قذائف الهاون لا يقف ....الأرض الفاصلة ملغمة ....في الصباح أيقظه ذاك المسؤول مبكراً بصياح جهوري :

- لديك واجب انهض

- ما هو ...؟

قالها عبد الله وهو نصف نائم وقد غالبه نعاس وتعب الأمس ....

- عليك ان تصور جنودنا وهو يقعون أسرى بأيدينا ...هيا ليس لدينا وقت لابد ان نغير ملابسهم ونجعلهم يرتدون ملابس الجنود الموتى من الطرف الأخر ...لابد أن نوهم القادة هناك ....بان ثمة أعداد كبيرة من العدو يقعون أسرى بأيدينا ...

- ولكن هذه خدعة !

قالها بهدوء عبد الله

- والحرب أيضا خدع !!

أجابه المسؤول وهو يضع مسدسه تحت حزامه ، ويومئ لعبد الله بالتحرك . وفي ساعة متأخرة من نفس اليوم جلس عبد الله يكتب رسائله لأول مرة من هذا المكان عسى ان تصل الى أهله لأنه عرف ان ثمة جندي ينقل الرسائل ....فمسك قلمه واخذ ورقة وبدء يكتب :

( أمي الغالية ....حبيبتي خلود ...انا بخير لكن رائحة البارود هنا تزكم الأنف ...ودوي الانفجارات بات يسيطر على مسمعي حتى كأني أتخيل كل صوت ....هو انفجار ...)

وقد صاحب رسالته صورة فوتوغرافية له على ساتر الحرب يمسك بدلا من قلمه بندقية ولكن طريقة أمساكه البندقية طمأنت أمه لأنها لا تدل على انه محترف بل استعارها للصورة وحسب .

وبعد أسبوع كامل عاود الكرة مرة أخرى وقد جلس وحيدا يخط بقلمه الذي يدون مذكراته ومشاهداته عن الحرب :

( كم انا مشتاق أليكم ...بدأت اسأم من هذه الوظيفة ...فقد تماهيت مع أفعال الجنود حتى صرت واحد منهم ومسخت عن حب وظيفتي الأساسية ....وبدأت أتكيف مع الحرب التي اكرها كما اكره مجرما يضع رصاصة برأس طفلا بريء أمام عيني ! )

وقد صاحب الرسالة صورة أخرى ولكن هذه المرة في ملابسه المدنية وقد تجمع حوله الجنود يلوحون بعلامات النصر ....فالجنود هنا نسوا أنفسهم وانقطعوا عن العالم ...المؤونة التي تصلهم لا تسد الرمق اليومي...قطع خبز يابسة كالحجارة...وطعام لا يصلح للاستهلاك البشري ...احدهم ترك زوجته حاملا بطفلها الأول ...الأخر ترك خطيبته بعد أسبوع من خطبتهما ....وأخر جر الى ساحات الحرب في اليوم الثاني من وفاة والدته وأسوءهم من سحب من تلابيبه في ليلة زفافه ومن حضن زوجته ...احد هؤلاء الجنود يتكلم بحسره وهو ينث دخان سيكارته :

- لقد جاءني قرار الانفصال الى الجبهة ...لقد دبر ذلك والدها ..انا اعرفه انه يكره الحرب ويكرهني ويرى ان من يخوض الحرب هو ميت سواء قتل او عاد منها سالماً!!

تجمع الجنود وبدء كلا منهما يفصح عما في داخله وكأنها الليلة الأخيرة التي تلمهم بهذا المكان الدنيء ....حتى أنهم ضحكوا بشراهة ليقول لهم احدهم :

- عسى ان يكون ضحك خير ...!

واخذوا يتجاذبون أطراف الحديث ...قال احد الجالسين معهم :

- هذه الحرب وبشاعتها لا تنفك تورث الحسرة لنا وتنتزع الرحمة من قلوبنا !

علق ثاني :

- الحب يموت وهذه الحرب لا تموت !!

وبدءوا يتخذون من ذلك الحديث ذريعة ليبقوا الى أول الصباح تزجية للوقت ، وكل خمسة دقائق يرمي احدهم بصره ويعود إدراجه ...فهم يتواشجون مع معتقاتهم...هدوء مهول خيم على المكان ....ضحكاتهم المتطايرة توقفت....أصوات الجنود في الجانب الأخر بدأت تعلوا ....صراخ يأتيهم ..من بعيد :

- طائرات ....طائرات ...طائرات ....

غارة جوية أرهقت قواهم ...وأنهكت الجنود المتصدين لنواصي الجبهة ، قصفت كل الأمكنة هنا ....شتت جمعهم ...بدء الوعي يغيب عن الجنود ....أشلاء مرمية ...يد...قدم...رأس ....الغبار ارتفع ليحجب بصرهم ...صراخ ....وظلام ....أصبح المكان كارثي بعد لحظات من القصف المتواصل ....وشربت الأرض دمائهم.....وبعد أسبوع من الحادثة وصلت رسالة ملفوفة بعلم البلاد ولكنها غريبة هذه المرة من اتى بها تقله سيارة حديثة لا تبدوا كأنها سيارة أجرة ...صندوق مع الرسالة فيه بضع أشياء ،الة تسجيل ...كاميرا فوتوغرافية ....خاتم زواج ..والرسالة التي جاء فيها توضح ان جميع الموتى قد عثر على جثثهم الا عبد الله فقد تلاشى وذاب جسده كما يذوب الثلج في الماء الساخن !!! امه كعادتها حينما تستقبل أخبار يرتجف جسدها خارا الى الأرض ..وتغيب عن وعيها ربما أسبوعا كاملاً وخلود غسلت خديها بدموع ساخنة وصرخة أيقظت جميع سكان الدور المجاورة...

- عبد الله ...

قالتها وهي تشق ثوبها قبل ان تلفها النسوة ويرمن بها داخل دارها ...وصديقه المعتوه لم يصدق الخبر في بادئ الأمر ...أصر ان يذهب إلى مكان القصف فمنعه سكان المدينة بشدة :

- هذا مجنون دعوه تأكله الحرب !

قالها احدهم درءا للخلاف الذي نشب بينهم وبين عائلة عبد الله التي تأبى ان تقيم العزاء لعبد الله ....وأهل المدينة اختلفت آراءهم ....

- مفقود

- أسير

- قتل

- هرب

- لم يذهب أصلاً

بعد أسبوعين ذهبت زوجته بشريط التصوير الى مصور المدينة لتطبع كل الصور ...وعمدت بجهاز التسجيل الى المعتوه لكي يعلمها طريقة عمله كانت لديها رغبة جامحة بان تسمع ما فيه من أحاديث ....وحينما تم طباعة الفيلم ..كانت اغلب الصور تذكارية للجنود ...يتعانقون ..يضحكون ...يلوحون بعلامات النصر ! ...وجزء كبير ملتقطة قديما فهو حمل معه كأميرة محشوة مسبقا .. وجهاز التسجيل كان يحوي عبارات مقتضبة لأحاديث الجنود الى عوائلهم ...زوجاتهم ...حبيباتهم ...سب وشتم الجنود للحرب ...والقائمين عليها ...كل هذا لم يكن ذا اثر واضح لتفهم خلود مصير عبد الله مرت سنة كاملة على الحادثة ...وكبر عبد الله الصغير ولا زالت الحرب قائمة ....وتحصد شباب المدينة الواحد تلو الأخر....وقد سمعت خلود من ذلك المعتوه ان الصحيفة أرسلت صحفيا أخرا الى الجبهة ...فعرفت حينها ان غاية الحرب هي ان تأكل الأخضر واليابس ولا تدع حيا على الإطلاق ....سيما الداخلين فيها ...تلك الحرب التي تشتعل من اجل مومسا او بضعة أمتار ....أو لترات نفط تشعل نار الحرب كما تشعل المواقد ..

( كل مسببات الحرب تحت نعلي الممزق هذا ...) هكذا بقي يردد المعتوه في الأزقة والإحياء منذ فقده لصديقه الوحيد ..وكان بين لحظة وأخرى يصرخ :

- الحرب ...وحش ...طنطل ...شبح جوعان ...ابتلع عبد الله ( ومصمص أعظامه )

- الحرب ...وحش ...طنطل ...شبح جوعان ...ابتلع عبد الله ( ومصمص أعظامه )

بينما خلود بثوبها الأسود المهزوم من سخرية الزمان ومهازل الانسان ...لم تزل تعطف عليه بكسرة خبز وقدح شاي كل صباح تجده جالسا يردد هذه العبارات رغم ان ام عبد الله كانت تنهرها بعصبية :

- عبد الله لم يمت ...انتظري الباب ...انتظري طرقاته ....جهزي الحمام له ...حتما سيأتي ...نعم سيأتي !

تردد هذه العبارة كلما نشب مع زوجة عبد الله خلافا بسبب ملامسة أشيائه او تذكره ...وبقت أمه عينا على الباب وأخرى تراقب بندول الساعة وهو يتحرك ...

هذه السنة العاشرة ... كبر عبد الله الصغير ... وكبرت معه طموحاته بان يصبح صحفيا بارعا ....واختفى المعتوه فجأة .... قيل انه قتل برصاصة طائشة ... وقيل انه رمى بنفسه من أعلى الجسر ....بينما لا زالت أم عبد الله تنتظر يد تطرق الباب ... علها تسمع صوته مجدداً او تكحل عيناها برؤيته ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى