زهرة ظاهري - من يوميات طفلة

حين كنا أطفالا صغارا كم كنت أنا وإخوتي نبتهج بحلول رمضان ..
أذكر أنه كان يأتي عادة في فصل الصيف حين يكون الطقس شديد الحرارة و ساعات النهار طويلة جدا ..
و كنت كلما بدأت ليالي الصقيع تنقشع رويدا رويدا ويبدأ البرد يودع أجسامنا الصغيرة وبيتنا الهش أبادر أبي بالسؤال : متى يأتي رمضان ؟
كان أبي يعرف تلك الأشهر التي يسميها الأشهر العربية ويتخذها طريقة لحساب أشهر السنة فهو لم يكن يعترف بتلك الأشهر التي لقنونا إياها في المدارس ويعتبرها" بدعة إفرنجية ".
كان شديد الولع بمراقبة الهلال في أول كل شهر ويظل يتابع كل ليلة مقدار سمكه و حجمه حتى يصبح قمرا متكاملا يضيء عتمة الكون ..
لم يكن هناك شيء يغري أبي قدر حسن القمر المتربع على عرش السماء حين يكون في أوج تمامه فكان ينظر إليه ويصلي على النبي ويسبح لعظمة الخالق .
كنا نتحلق حوله في الليالي القمرية وهو يتأمل وجه القمر كعاشق يبهره وجه حبيبته الحسناء وكم كان يشدنا إليه حين يقص علينا حكاية تلك المرأة التي أساءت إلى القطة فعاقبها الله بأن علقها من رموشها على جدار القمر وكان كلما حدثنا بذلك يسوي من جلسته ويتنحنح ليصدر صوته مليئا بالثقة مؤكدا صحة كلامه الذي توارثه عن أجداده. قال لنا ذات مرة وهو يشير بإحدى يديه رافعا عينيه نحو السماء: انظروا ، جيدا لو تأملتم مليا وجه القمر لرأيتم امرأة معلقة هناك من رموشها .
رحت وإخوتي ندقق النظر إلى هناك وأبي يلح في سؤاله وهو يتأملنا : هل رأيتموها ؟
كان الجميع يجيب: نعم رأيتها ..
كنت الوحيدة التي أقول : لا . لم أرها ..
وكان هذا الأمر يغيظ والدي فهو يعتبرني دائما مكسرة للقواعد فينهرني قائلا : أنت لاترين ، إن الله قد أعمى بصيرتك مادمت تقرئين مثل تلك الكتب ، كتب الشيطان .
أبي لم يكن بحب تلك الخلوات التي كنت أقضيها مع نفسي بعيدة عنهم وكنت أنشغل فيها خلسة بقراءة بعض الكتب التي كنت أستعيرها من مكتبة المعهد أو من المكتبة العمومية .
ذات ليلة وفي وقت متأخر من الليل باغت أبي خلوتي فوجدني مستغرقة في قراءة كتاب مازلت أذكر عنوانه " " "سلوى في مهب الريح " لمحمود تيمور.
ودون أن يسألني أبي أخذ مني الكتاب وراح يتصفحه . كان أبي قد درس عند سيده المؤدب كما كان يردد علينا دائما مفتخرا بذلك .
ظللت أنظر إلى والدي وأتساءل عن مصير الكتاب الذي بيده وقد تملكني الفزع ..
من أين لك بهذا الكتاب ؟ قال أبي وهو يحاول كظم غضبه
- من عند صديقتي ، قلت ذلك متلعثمة . ثم أردفت ، حين أدركت أن الصدق في أحيان كثيرة لا يكون مجديا ، استاذ العربية طلب منا قراءته لمناقشته داخل الفصل .
- أساتذة اخر زمن . هتك الله سترهم . اخلدي للنوم الان سنناقش الأمر صباحا .
قال ذلك وهو يطوي الكتاب بين يديه ويأخذه معه ..
لم أنم ليلتي . ظللت مقهورة أفكر بأمر الكتاب و أتساءل عما ستؤول إليه أحداث القصة التي شوقتني لمزيد قراءتها .
في الصباح أسرعت إلى أمي أتوسل إليها بأن تتوسط لي عند والدي ليعيد الكتاب إلي
- أبوك غاضب جدا منك . ماهذا الذي تقرئينه ويقول عنه بأنه خادش للحياء .؟ ماهذه الدروس التي يعلمونها إياكم
في المدارس ؟ وأنا أقول من أين لك بكل هذا الوقاحة وقلة الحياء !
لم أجب يومها على اتهامات أمي لي . كظمت غيظي وأقسمت لها بأن لاشيء مما يقول والدي موجود بالكتاب . ترجيتها كثيرا حتى بكيت لتعيد الكتاب إلي . وحين ضاقت ذرعا بتوسلاتي نهرتني قائلة : اغربي عن وجهي سأعيده إليك . لكن ليس الان . انتظري حتى يأتي الليل" .
وفعلت ؛ لزمت صمتي والصبر ككل مرة حين أكون في حالة نزاع معهم .
في الليلة التي عقبت تلك الليلة كان الكتاب بحوزتي . لاأعرف كيف باستطاعة أمي أن تقنع أبي عن العدول عن قرارات كان يأخذها في فورة غضبه والسؤال الذي شغلني أكثر لماذا تختار أمي دائما الليل لتحدث أبي بشأننا كلما كان أحدنا ، أقصد أنا او أحد أخوتي في مأزق مع أبي ؟
كدت أنا المسكونة بهاجس السؤال ، أسألها لكن سعادتي بعودة الكتاب إلي وخوفي من أن يثير السؤال غضب أمي ولعلها تحرمني من الكتاب وتعيده إلى والدي جعلني أعدل عن ذلك وأجنح إلى خيالي يصور أجوبة عدة لأسئلتي القلقة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى