صالح البياتي - البتيلة

كان زوجها يقول لها ، حينما يبهت إيمانها وتستلم لليأس ، أن العناية الإلهية قادرة على تغيير المستحيلات الى ممكنات ، والممكنات الى مستحيلات ..

تستيقظ حواس المرأة العجوز ، مع شروق الشمس ، فيملأًُ الشعاع الدافئ، روحها بطاقة خلاقة ، خفية ، ودافقة ، تبعث الحياة في كيانها الهرم ، متزامناً مع إنجلاء الظلمة عن منزلها ، تراه متوهجاً كالحريق ، مبتدئاً من السعفات العليا للنخلة . يبهر الضوء عينيها الكليلتين ، ويخترق الحدقتين المفتوحتين لإستقباله ، فتحجبه بكفيها المعروقتين ؛ الموشومتين من الأصابع الى الرسغين ؛ باللون الأزرق الذي أخذ يميل الى السواد مع تقدم العمر .

الشعاع يرسم بريشته الضوئية ، لوحة رائعة باللونين ؛ الأخضر الداكن والأحمر الناري ، وفي إطارها الداخلي تحترق النخلة بنار مجوسية لا تنطفئ.

تلك اللحظات الخاطفة ، المتحررة من أسار الزمن ، هي اللحظات الصباحية القليلة ، التي تنتظرها المرأة العجوز ، بعد أن تؤدي صلاة الفجر ، في باحة منزلها ، حيث تنتصب النخلة تظلل المكان . تنتظر بلهفة ، أشبه بطقوس عبادة وثنية ، تجرف كيانها الضعيف ، في تيار صاخب من الإثارة والجنون ، ترى نفسها مقذوفة بقوة إعصار ، يلفها حول جذع النخلة، لفاً لولبياً، صاعداً بها حتى قمتها المشتعلة بلظى عارم لشمس الجنوب ، ذات الترفع والكبرياء الرائع .. اللحظات النادرة ، تملأُ روحها المتمردة ؛ عشقاً وجنوناً وإنتشاءً ، وعصارة جديدة متجددة .

فبعد أن يئست المرأة العجوز من الإنجاب ، صارت البتيلة إبنتها الوحيدة . إبتدأت علاقتهما الحميمة ، ذات يوم خريفي ، لن تنساه أبداً ، لأنها عَلَّمت عليه في ذاكرتها ؛ بلون وعدد سعفات الفسيلة الخضر ، الغضة الأوراق ، فصار يوماً أخضراً مميزاً، في حياة الجدب والجفاف والعقم ، واليباس واليأس ،التي عاشتها طوال حياتها الزوجية .

رأت زوجها ذلك اليوم يحتضن شيئاً ؛ بين ذراعيه القويتين ، ملفوفاً بقطعة ندية من الخيش الأسمر، تخيلته أول وهلة ، يحمل طفلهما ، يحميه من حرارة الشمس ، والريح الشديدة الهبوب .. إقتربت منه ، سألته ، وهي تقف وراء كتفيه العريضتين المنحنيتين، وهو يضع بعناية كبيرة ؛ الشئ الذي كان يحمله بين يديه على الأرض .

” ما هذا الشئ الذي كنت تخفيه عني ! أجاب وهو يزيح طرفي قطعة الخيش ، ويخرجها بإهتمام بالغ أمام عينيها المندهشتين :

” هذه إبنتنا البتيلة ، نجت من الحرب ٠التي طالت أمها ، أنظري اليها ؛ كم هي جميلة وفتية وقوية . “

فرأت الفسيلة الصغيرة ، ولمست قلبها الطري ؛ من وراء النسيج الليفي ، فعشقتها بجنون .

في تلك اللحظة شعرت حقيقة ، أن البتيلة هي إبنتهما البديلة، البنت التي كان يحلم بها زوجها ولم يتحقق حلمه قبل وفاته .

في تلك الليلة ؛ التي أعقبت دفن إبن أخيه ؛ القتيل في الحرب التي حصدت حياة آلاف الأبناء ؛ بدون رحمة ، عاد زوجها الى ألبيت ، منهكاً حزيناً ، ولم ينم تلك الليلة ، كان يرتعد من شدة الحمى، يتقلب في فراشه، ويكرر عبارة واحدة :

” أرحام تدفع وأرض تبلع “٠

لم تفهم معناها أول الأمر ، معتقدة أنه كان يهذي من هول الصدمة والحزن ؛ والحمى، ولكنها مع مرور الوقت إستوعبتها؛ وفهمت معناها ، وذلك عندما بدأت أعداد جثامين الأبناء القتلى ؛ في الحرب ؛ تزداد وتصل دون إنقطاع ؛ من جبهات القتال المشتعلة دائماً ، لتبتلعها المقابر ؛ المنتشرة في أرجاء الوطن الواسعة …

عندها تمنت أن يهبها الله بنتاً ؛ بدلاً من الأبن ، وتمنت أيضاً ؛ لأخواتها النسوة ؛ المنتظرات مولوداً ذكراً ؛ أن يبدله الله ؛ أنثى ، حتى لا يكونوا أكباشاً لإرضاء غريزة آلهة متعطشة للدماء .

لقد عاشت فترة من حياتها ، ورأت مهود الأطفال الرضع خالية في كل صيف، ورغم النذور ، والتعاويذ والشرائط الخضر على الأقمطة ؛أو المعلقة على اشواك العليق ، إلا أن صيف الجنوب ، كان قاسياً لا يرحم أيضاً ، يأخذ حصته من الأطفال كل سنة ، يبعثها الى قبور صغيرة ، رأت ذلك يحدث للأطفال الرضع ، بسبب الإسهال الصيفي الشديد، أكثر الأمراض فتكاً بهم ، رأت كل ذلك بعينيها ، ورأت أيضاً الحرب بعد ذلك بمدة طويلة ، تفتك بلا رحمة ، تقتحم بشراسة وضراوة ، كل الحواجز ، فتقتلع الأبواب الموصدة ، وتزرع الموت في كل الفصول .

في تلك الليلة همست في أذن زوجها الملتهب بالحمى ، : ” سأرعى البتيلة لذكرى إبن أخيك ،حتى تكبر، ويرتفع رأسها الأخضر ؛ عالياً فوق جدران البيت ، ستكون إبنتنا المحبوبة ، وسيأتي يوماً ، تطعمنا فيه تمراً شهياً، سنأكل منه ، ونطعم الجيران، ثواباً على روحه الشابة الزكية . “

أبتسم لها ، وكف عن تكرار العبارة الوحيدة ، التي رددها طوال تلك الليلة ، التي أعقبت دفن إبن أخيه .

سألته عن معنى إسمها ، قال :

” هي المستقلة ، المستغنية عن أمها ، لا تلتصق بها ، ولا تبتعد عنها ، تعيش معها تحت ظلالها الوارفة ، دون أن تكون عبئاً عليها “

هذه هي البتيلة ، كما ورد تعريفها في معاجم اللغة ، إبتسمت لزوجها المحموم فأطفأت إبتسامتها نار الحمى التي تحرقه .

قالت :

” سأسقيها دموع عيني حتى تكبر “

في البداية ، كانت تخاف عليها من بائع الجمَّار الذي يدور في الأزقة، يقطع بسكين حادة الجمَّار الأبيض ؛ العاجي اللون ، الطري ، يبيعه على ألاطفال في موسمه . كانت حينما تسمع صوته ينادي ” جمَّار لذيذ وطيب ” تهرع الى الباب للتأكد من إغلاقه، وتعود مسرعة لتعانق البتيلة .

مرَّ الزمن الجنوبي مشفقاً على البتيلة ، فمدت جذورها عميقاً في التربة ، وأرتفعت قامَتُها عالياً ؛ عشرة أمتار عن الأرض ، فكفت المرأة العجوز عن القلق ، وصار من المستحيل ، على بائع الجمَّار أن يصل اليها وينال منها، لكن خوفاً آخراً طارئاً ، إعتراها فجأة، عندما تذكرت حديثاً ، دار بين زوجها الراحل وإبن أخيه ، الذي قضى في نهاية الحرب ، حكى لعمه حين زاره ، في آخر إجازة في الخريف ، عن مجزرة رهيبة طالت آلاف النخيل على ضفتي شط العرب ، قُطِعت الرؤوس ، مخلفة جذوعاً محروقة سوداء، كأنها أعمدة معابد وثنية ، رُجِمت بالنار، بأيدي إلهة غاضبة ، وحينما سمع العم بذلك ، لعن الحرب ومن أشعل فتيلها ، وأمدها بالحطب ، في تلك الزيارة الأخيرة، لجندي عائد بإجازة لأهله ،من جبهة القتال الجنوبية ، قدم البتيلة هدية لعمه ، قال له : ” خذها .. لقد وجدتها على مقربة من أمها الصريعة ، أمنحها فرصة أخرى لتحيا في باحة بيتك .

وبعد إنتهاء الحرب ، كبرت البتيلة وصار عمرها خمسة أعوام ، نخلة فتية ، رأت المرأة العجوز في منامها ، أن يد الحرب الطويلة ، امتدت لإبنتها ، فقطعت رأسها ، ورمتها على قارعة الطريق ، لتبول عليها الكلاب السائبة ، وتتلطخ بالطين والأوساخ ، وحينما إستيقظت ، هبت مرتاعة ، لتحتضنها ، وبكت فبللت كرباتها اليابسات بالدموع السخية ، ونذرت لها صيام زكريا، وعندما حل الموعد ، صامت على كوز ماء ؛ وقرص شعير ؛ خبزته بيدها ، وعند الغروب أخذت كربة من البتيلة ، فأوقدت عليها الشموع ، وألقتها في نهر دجلة ، وأخذت ترقبها ، مسحورة بالنار الطافية فوق الماء ، حتى غابت عن الأنظار ، وعند هبوط الظلام ، فقدت مياه النهر أضواء الشموع المتأرجحة، وعمت سطحة الهادئ ، عتمة ليلية ، عادت المرأة العجوز لبيتها ، بعد أن أوفت بنذرها .

في ذلك المساء ، الذي أجتمعت فيه النسوة ، عند ضفة النهر ، كما إعتدن على ذلك كل سنة ، للإيفاء بنذورهن ، وأداء طقس قديم ، تمنت في نفسها ، وقالت :

” يا ليت زوجي حي ، فيرى البتيلة في باحة الدار ، وقد صارت نخلة باسقة ، وارفة الظلال ، إنتظرت بعد التلقيح ، أن يأتي موسم حملها ببشارة سعيدة ، كانت تراقب ظهور أكواز الطلع ، من بين فجوات السعف ، تنتظر بصبر ، إنفتاق الشماريخ ، وتحلم بالعذوق المنحنية كالضلوع ، مثقلة بالخلال الأخضر الزاهي اللون ، المتغير لونه مع إقتراب الصيف ؛ الى صفرة براقة كالذهب ، يخطف الأبصار ، تحت أشعة شمس الظهيرة ، أو كقناديل مضيئة في عتمة المساء .

ورغم أنَّ حلمها لم يتحقق ، فهي لم تيأس ، كما كان يريد زوجها ، ولا بأس بإنتظار طويل ينتهي بتحقيق الحلم ، فترى البتيلة حاملا ، ولكن يبدو أن البتيلة كانت تواسي أمها المرأة العجوز ، في الإمتناع عن الحمل ، كانت تحرقها الرغبة ، أن ترى أبنتها البتيلة مثقلة وذات حمل ، مرت سنتان آخريان ، ولم يتغير الحال .

كان الصاعود ، صديق زوجها ، يأتي في موسم التلقيح ،يتسلق الشجرة بالتبلية ، حتى يصل للشماريخ العالية ، ينثر الغبار الذكري الذي يحمله في مقطف على ظهره ، يربط الطلوع الذكرية ، ملتحمة مع الشماريخ الأنثوية المتفتحة ، والمستقبلة للغبار الأبيض ذو الرائحة النفادة المحببة .

وبعد أن ينجز عمله الصعب ، يتمنى لها حظاً سعيداً ، فتشكره ، وحين يذهب ، تقف تتأمل عجائب خلقها، وترفع كفيها للسماء مبتهلة للخالق العظيم ، متأملة روعة صنعه ، حتى أنها كانت تتخيل ، ان يديها إستطالتا الى العذوق الدانية ، وأن أصابعها تلامس قلب النخلة ، تتحسسه بأناملها اليابسة ، تسمع نبضه يخفق في قلبها ، وهي في مكانها تحت النخلة ، ثم تراها تعود كما كانت فسيلاً، تحتويها بين كفيها ، بحنو أم لطفلها الصغير ، وتهمس فرحاً ، ها هي تعود صغيرة كما كانت ، حين جاء بها زوجها ، ذات نهار خريفي قديم، تنام هانئة بين يديَّ ..

تذكرت حكاية الجارة والكنة العاقر ، التي سمعتها منذ أيام ، أدعت جارتها وهي تحكي لها ، أنها ضربت كنتها بالعصا على عجيزتها لكي تحمل ، بعد إنقطاع عن الحمل دام لخمس سنوات، قالت أن هذه الطريقة ستنجح مع النخلة أيضاً ، كما نجحت مع الكنة، ولما سألتها ، وهل حملت حقا! ، قالت نعم ، فإتهمتها بالكذب ، لأن الأطفال لا يأتون بهذه الطريقة المهينة لكرامة المرأة ، وأن النخلة تماثل المرأة في رقة الإحساس ، والشعور بالألم . ضحكت جارتها، وسخرت منها، فطردتها من بيتها .

هرعت المرأة العجوز الى النخلة ، عقدت جديلتيها الشائبتين حول جذعها ، وقالت : سامحيني لأَنِّي لم أضرب تلك الجارة الرعناء بعصاي هذه ، إحتضنتها وذرفت دموعاً ساخنة ، سخية على جذعها ، فبللته ، وقالت لقد أوفيت الآن بوعدي لزوجي ، وسقيتك ماءً من دموع عيني ..

إبتهلت ، وبهمس خافت ، إرتجفت شفتاها بدعاء حار ، الهي لقد فهمت حكمتك أخيراً ، لقد وهبتني ذكراً ، ثم حرمتني منه ، لأنك أشفقت عليَّ ، لعلمك ان الحرب قائمة ، تتجدد كل عقد من الزمن، وأنها ستأخذه مني ، لك الحمد والشكر ، أتوسل إليك الآن أن تمنح بركاتك للبتيلة إبنتي “

في صباح اليوم التالي ، أدت طقوسها المعتادة ، بعد صلاة الفجر ، ومع أول خيط ضوء يزور بيتها ، قادماً من شمس الجنوب ذات الثراء الباذخ والعنفوان العظيم ،مشعلة ناراً مجوسية في جدائل النخلة ، المنحنية كأهلة خضراء ،رأت بعين قلبها ، الثمار الصغيرة تنعقد ، تزين وتطرز العراجين الذهبية ، هتفت مسرورة ومثارة ، ومأخوذة ، لم تستطع أحتمال فرحها المفاجئ والطاغي ، الذي غمرها من رأسها حتى قدميها ، شعرت أنها تحلق في الهواء ، هتفت بحماس :

شكراً لك إلهي ، إستجبت أخيراً لدعائي ، وها هي البتيلة كما تمنيت دائماً ، أصبحت أخيرا ، أماً “

الحرب التي إبتدأت في العام 1980 بين العراق وإيران ، وإنتهت في العام 1988
٠ ( إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع ) ، تنسب للدهريين ، إذا أضيفت لآخر العبارة ” وما يهلكنا إلا الدهر “

صالح البياتي

20/8/2010

بورشايد – ألمانيا


* منقول عن الناقد العراقي



saleh-albayati.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى