ملك بلا مملكة - قصة قصيرة
King without kingdom - Short story
أمل الكردفاني
حشر زينار خرقة داخل خشبة ثم صعد إلى سقف كوخه ونصبها ثم صاح:
- إنني أعلن نفسي ملكاً عليكم أيها التعساء في هذه القرية الفقيرة...
لم تكن هناك أسوار بين الأكواخ ومع ذلك فلا أحد اكترث له إلا زوجته التي صاحت من أسفل:
- أنزل ولا تهدم سقف الكوخ الهش..هل أصبحت أبلهاً وأنت في الخمسين من العمر...
صاح:
- اسكتي يا امرأة...لو فتحتِ فمك هذا فسوف أضربك..
قالت:
- تضربني..إنك حتى لا تستطيع صلب جسدك بسبب الخمر...تعال واضربني إن كنت رجلا حقيقياً...
تجاهلها وصاح:
- من اليوم صرت ملكاً عليكم...هل هذا مفهوم ..هل هذا مفهوم...؟؟؟
مرَّ به ماويه الشاب ذو الجسد الرياضي وقال ضاحكاً:
- مرحى بملكنا الجديد زينار...ولكن كيف ستنفق على شعبك وأنت لا تملك مالاً؟
قال زينار:
- ولماذا أنفق عليكم..من المفترض أنكم من يجب أن تنفقوا أنتم علي...
قال ماويه ساخراً:
- آااااه..حقاً... لكن على الأقل يجب أن تعطي حرسك الخاص ووزراءك مرتبات شهرية...
نظر زينار إلى ماويه وحك رأسه النحيل:
- حقاً؟!!.. هل يجب أن أفعل ذلك؟..صحيح... يجب أن أفعل ذلك..ولكن بحق السماء.. ألا تحبونني...
ماويه:
- نحبك طبعاً يا زينار..ولكن كيف نترك زراعتنا ورعينا بلا مرتب لنحميك سوف نموت من الجوع...
قال زينار:
- أنا لا احتاج حماية ولا وزراء..أحتاج فقط أن تعلنونني ملكاً عليكم...بعدها...بعدها..
صمت فقال ماويه:
- على أي حال.. إنني أول من يبايعك يا سمو الملك.. إلى اللقاء...
خرجت زوجة زينار وصاحت:
- انزل يا ذو السيقان النحيلة المرتعشة.. إن سقف البيت سيتهاوى...
صاح هو:
- إنه ليس بيتاً..إنه القصر الملكي يا امرأة..
قالت وهي تغز قبضتيها على خصرها:
- هل مسَّــــك شيطان هذا الصباح...انزل من سقف الكوخ يا رجل...
قال:
- يا إلهي..يا إلهي.. ليس من شيطان سواك...بعد أن أوطد أركان حكمي سوف أقطع رأسك هذا بالمقصلة واتزوج ملكة عذراء جميلة...
قالت:
- عذراء.. إنك حتى لا تملك شيئاً للمستعمل فمابالك بالجديد ..انزل ودع عنك البله..لقد أعددت إفطارا طيبا...
قال:
- ماذا أعددت؟
- دريشة القمح بلبن الماعز..هيا انزل...
ورغم أن ارتفاع الكوخ لم يتجاوز مترين ونصف إلا أن زينار وجد صعوبة بالغة للنزول من سقفه بسبب سُكره... ثم جلس وزوجته ليتناولا الدريش بلبن الماعز.
- إنني أعرف كل عائلة بهذه القرية وأحفظ أسماءهم فرداً فرداً بأطفالهم ودجاجاتهم..فلماذا لا أكون ملكاً...ها..اخبريني..؟!!!
تجاهلته وصاحت:
- يا فتاة.. انت يا بنت الكلب...لا يوجد طعام غير هذا فإن لم تأكلي الآن فلا تلومين إلا نفسك بعد ذلك..
صاح زينار:
- بنت الكلب..إنك تشتمينني عليك اللعنة يا امرأة..
نهضت زوجته بشراسة وصاحت:
- أنت كلب .. بل وسيد الكلاب الضالة المتشردة المتعفنة الممتلئة بالقراد والحشرات...
خاف زينار وقال:
- اهدئي..اهدئي واجلسي لتأكلي..وكما قلتِ فلا طعام غير هذا...
- لن أجلس.. يكفيني هذا...إن جسدي يتشوق لرجل حقيقي...عليك اللعنة...أربعة أشهر بلا لمسة واحدة...ألا تشعر بالخجل .. هل أنا زوجتك أم أمك...
قال مبتسماً:
- أنت أمي..
صاحت:
- ماذا؟
- أمي وزوجتي وحبيبتي والسيدة الأولى لمملكتي..
-أمك نعم ولكن زوجتك كيف..ماهو الدليل..
صاح وهو يشير بسبابته نحو الأرض:
- آااا عقرب.. عقرب...
تراجعت المرأة بذعر وأخذ هو يلطم الأرض بنعله ويصيح:
- لقد دخلت العقرب إلى القصر...
قال ذلك فهرولت المرأة إلى داخل الكوخ وهي تحذر ابنتها ، فتسلل هو وغادر...
- لن تشرب بغير أن تدفع...كن انساناً عادلاً يا زينار مرة واحدة في حياتك...
رفع ديكاً مربوط القدمين وقال:
- هااا..جئتك بديك كامل..بالغ عاقل وراشد...يصيح في الفجر وينكح دجاجاتك العاقرات فينجبن كتاكيت حلوة .. طبعا هو ديك غالٍ جدا..سيكفيني مؤونة أسبوعين من الشراب...
قالت مانادا بائعة الخمر البلدي:
- إنه لن يكفيك يوماً واحداً ..
قال بجزع:
- لماذا يا حبيبة القلب؟
قالت بتعجب:
- منذ متى كنت تعرف الحب يا زينار!!!..
اقترب بوجهه من وجهها وهمس ضاحكاً:
- منذ أول يوم لمست فيه أصابعك وأنت تقدمين لي كوز العرق...
خفق قلبها وهمست:
- صحيح يا زينار؟
تهدلت ملامح وجهه وقال بشبق مفتعل وهو يبتلع ريقه:
- هلمي بنا...لتتأكدي ..
قالت بصوت عالٍ كمن استيقظت من غفلة:
- ليس الآن..إنه منتصف الظهر .. آه..ولكن...دعني أجهز لك وليمة بلحم هذا الديك ثم بعدها أجدد لك طاقتك بكوزين من العرق النقي المصفى كالعسل...
ابتسم ببله وغمز لها بعينه فأسرعت هي وخرجت من كوخها...
وفي المساء بعد وهلة الغروب الأولى مباشرة غادر كوخ مانادا ليقطع قرابة الكيلو متر وصولاً إلى كوخه وقد سمع العجوز أكوا يصيح في ابنته:
- لم يعد الديك مع الدجاجات يا فتاة...
سمعها ترد عليه:
- سيعود يا أبي من سيسرق ديكاً عجوزاً ..
فحرف زينار طريقه بسرعة مبتعداً عن كوخ العجوز وكأنما ارتكب جريمة...
كان هناك رجل يجلس القرفصاء قرب كوخ زينار فاقترب زينار منه بحذر.
- من؟
نهض الرجل وقبـــَّــــل يد زينار المرتجفتين من خبال الخمر.
- أنت سيدي زينار؟...
قهقه زينار قهقهة صغيرة وشهق وهو يقول:
- هق...سيدك... حسناً ..أنا سيدك زينار..ومن أنت ..عبدي؟
ظل الرجل ممسكاً بكفي زينار وهو منحنٍ يقبلهما:
- ليتني كنت عبدك يا سيدي...بل إنني عبدك منذ اليوم..
ظل زينار يحاول التماسك وصلب عوده فأضاف الرجل:
- أنت ملك هذه القرية...كذلك أخبرني الشاب...
ترنح زينار للخلف قليلا وقال:
- آه..أخيراً... نعم أنا الملك..ملك هذه القرية البائسة...الملك زي..هق..نار ..
- يا للسماء.. يا للسماء.. إنك أنت هو بعينه...لقد رأيت نجمك الأحمر يلمع في كبد السماء الكالحة...فتتبعت النجم حتى بلغت قريتك...لا يوجد نبي موقر في أهل بيته حقا.. لقد بحثت طويلاً .. بحثت في كل القرى التي عبرها النجم الأحمر...حتى وصلتُ قريتك وحينئذ انفجر النجم وتبخر...
- يا للسماء..أو حقاً فعلت أيها الرجل الطيب...
حاول التماسك وأضاف:
- لا تعتقد أنني سكران .. إن تعبي من المجهود الشاق الذي بذلته في العمل اليوم -ثم همس لنفسه- عليك اللعنة يا مانادا... ولكن لماذا نتحدث ونحن واقفان..هيا هيا فلنجلس على هذه الأرض ..
وحين جلس الضيف الغريب على الأرض مدد زينار جسده ووضع نعليه تحت رأسه. فقال الرجل:
- من سينقذ كل قرانا البائسة من ظلم الحكومة سواك يا سيدي الملك.
صدر شخير من أنف زينار فقال الرجل:
- سيدي الملك...سيدي الملك...
كان الملك قد غط في نومه فنام الغريب إلى جواره.
ودخل زينار في دوامة كوابيس مزعجة إذ رأى نفسه بين صخرتين في معصرة زيت والأبقار تدور بهما والصخرتان تحملانه وتضغطان عليه...لم يكن يشعر بآلام الضغط ولكن أنفاسه كانت تضيق بشدة والبقر يخور بصوت مخيف...ثم اختفى كل شيء ورأى زوجته وهي تداهمه مع مانادا في الفراش...ثم اختفت زوجته ورأى نفسه يجلس فوق ظهر ديك ويطير نحو السماء وهو مذعور وخائف من السقوط وقبضتاه غير قادرتين على التمسك بعرف الديك...
ثم فتح عينيه المحمرتين ببطء وسمع صوت الرجل الغريب:
- هل استيقظت سيدي الملك...
كان رأسه ثقيلا ومصدوعا بشدة ، فصلب ظهره وهو يمسك بجبهته..
- هل هذا هو الغروب؟
قال الرجل الغريب:
- بل الفجر يا سيدي...
مدد جسده مرة أخرى وأغمض عينيه..
- كل القرى تنتظر إشارة منك لتتحرك يا سيدي الملك...
نظر إلى زينار مغمض العينين وواصل حديثه:
- هناك سبع عشرة قرية جهزت فرسانها لكنهم يبحثون عن قائد تبعثه السماء إليهم ليضمنوا النصر... وها قد وجدناك يا سيدي الملك...
كان زينار متعباً فقال:
- ستستيقظ زوجتي الآن وتبدأ صلاة النكد الأبدية...لو كنت تزوجت مانادا لكنت قد ضربت عصفورين بحجر الآن..امرأة ملتهبة الجسد كخلية النحل تقطر عسلاً..وشراب مجاني...آاااه يا رأسي..آه....
قال الغريب:
- سيدي الملك...إن أحلام الآلاف يتوقف تحققها على ظهورك أمامهم....
قال زينار:
- آه ...كم أنا متعب أيها الضيف....
قال الغريب:
- يجب أن تسترح جيداً يا سيدي الملك فأمامك أيام شاقة...
قال زينار:
- هل قلت لي البارحة أن النجم الأحمر أرشدك إلي؟
قال الرجل:
- نعم يا سيدي الملك.. أنت مرسل من السماء لإنقاذنا...
انكفأ زينار على جنبه الأيسر ونام..فغمغم الرجل الغريب:
- نم يا سيدي الملك..نم.. نم لترتاح ما شئت من راحة...هكذا يفعل العظماء قبل معاركهم العظيمة...
وعند الظهيرة ودع زينار زوجته وأردفه الرجل الغريب على حماره وغادرا القرية. وكان الغريب صامتاً طوال الرحلة...، وبعد ساعتين استقبلته حشود عظيمة من الجماهير فتدلى الغريب وقاد رسن الحمارة من خطمها سعيداً والجماهير تصيح وتغني وتصفق وتضرب الدفوف والقرب ...
قال زينار للغريب:
- إرفع الراية...
فرفع الغريب الراية التي كان زينار قد صنعها من الخرقة البالية.. بعدها قال زينار:
- أرغب في كأس من العرق...إنني لا استطيع التفكير قبل أن أشرب
صاح الرجل:
- جرة من شراب العرق للملك...
ولم تمض برهة حتى تقاطرت عليه جرار الشراب... والنسوة يزغردن ثم افترشوا له أريكة وسط الفسحة المواجهة لأكواخ القرية فشرب زينار وقال:
- فلتبارككم السماء ولتنصركم على عدوكم...
قال شاب يحمل سيفاً قصيراً في قبضته:
- مرنا فقط وننحن ننفذ يا سيدي الملك... قل لنا قاتلوا وسوف نقاتل...
فقال زينار:
- قاتلوا...
صمت الناس فسأله الغريب:
- متى؟؟؟..الآن..؟!!!
صاح زينار بغضب:
- نعم الآن والآن فوراً..هل أنتم خائفون من الحكومة؟؟؟
ارتفعت زغاريد النسوة وتحركت جحافل الفرسان فقال زينار وهو على أريكته:
- ستبارككم السماء...ستبارككم السماء...
ثم جرع من شرابه وهو يتأملهم وهم يغادرون....
وبعد ساعة من الشراب استبد به السكر فأخذ يصيح:
- أنا الملك زينار... الملك الذي أرسلته لكم السماء...
فزغردت النسوة المتحلقات حوله ثم حملنه بأريكته إلى داخل أحد الأكواخ...
نام يومها نوما هانئا ثم استيقظ في منتصف الليل فوجد قربه اربع نسوة عاريات .. فتسلل من بينهن وركب حمار الغريب بعد أن حمله بجرتين من الخمر وغادر إلى قريته ...
كان متأكدا من أن جيش الحكومة سيبيد جيوش القرى عن آخرها ؛ لذلك أيقظ زوجته وابنته وغادرا القرية في ليلته تلك نفسها.
قالت الزوجة:
- اللعنة يا رجل..لقد أصبحت ملكاً الآن فلماذا تهرب؟
قال لها وهو ينخس الحمارة:
- أنا ملك دوما أيتها الماكرة.. لكنني لا أستطيع أن أكون ملكاً هكذا...
قالت:
- تخشى الموت يا جبان..أي ملك أنت...
قال ضاحكا:
- أنا دائما ملك ولكن عظمتي تكمن في أنني دوما ملك بلا مملكة.....
ثم التفت إليها وقال:
- إنك لم تجربي الشرب يوماً ما؟
قالت:
- أكره رائحته...
قال:
- عليكِ أن تجربيه..
قالت غاضبة:
- ولماذا علي أن أجربه؟
قرصها من خصرها وقال:
- ستعرفي حينها...هيا إجرعي من كوزي هذا جرعة...
جرعت زوجته جرعة وتألمت ثم أخذت تنادمه الشرب..وبعد ساعة كانا يتضاحكان ويقهقهان متغازلين طوال الطريق إلى المجهول...
(تمت)
King without kingdom - Short story
أمل الكردفاني
حشر زينار خرقة داخل خشبة ثم صعد إلى سقف كوخه ونصبها ثم صاح:
- إنني أعلن نفسي ملكاً عليكم أيها التعساء في هذه القرية الفقيرة...
لم تكن هناك أسوار بين الأكواخ ومع ذلك فلا أحد اكترث له إلا زوجته التي صاحت من أسفل:
- أنزل ولا تهدم سقف الكوخ الهش..هل أصبحت أبلهاً وأنت في الخمسين من العمر...
صاح:
- اسكتي يا امرأة...لو فتحتِ فمك هذا فسوف أضربك..
قالت:
- تضربني..إنك حتى لا تستطيع صلب جسدك بسبب الخمر...تعال واضربني إن كنت رجلا حقيقياً...
تجاهلها وصاح:
- من اليوم صرت ملكاً عليكم...هل هذا مفهوم ..هل هذا مفهوم...؟؟؟
مرَّ به ماويه الشاب ذو الجسد الرياضي وقال ضاحكاً:
- مرحى بملكنا الجديد زينار...ولكن كيف ستنفق على شعبك وأنت لا تملك مالاً؟
قال زينار:
- ولماذا أنفق عليكم..من المفترض أنكم من يجب أن تنفقوا أنتم علي...
قال ماويه ساخراً:
- آااااه..حقاً... لكن على الأقل يجب أن تعطي حرسك الخاص ووزراءك مرتبات شهرية...
نظر زينار إلى ماويه وحك رأسه النحيل:
- حقاً؟!!.. هل يجب أن أفعل ذلك؟..صحيح... يجب أن أفعل ذلك..ولكن بحق السماء.. ألا تحبونني...
ماويه:
- نحبك طبعاً يا زينار..ولكن كيف نترك زراعتنا ورعينا بلا مرتب لنحميك سوف نموت من الجوع...
قال زينار:
- أنا لا احتاج حماية ولا وزراء..أحتاج فقط أن تعلنونني ملكاً عليكم...بعدها...بعدها..
صمت فقال ماويه:
- على أي حال.. إنني أول من يبايعك يا سمو الملك.. إلى اللقاء...
خرجت زوجة زينار وصاحت:
- انزل يا ذو السيقان النحيلة المرتعشة.. إن سقف البيت سيتهاوى...
صاح هو:
- إنه ليس بيتاً..إنه القصر الملكي يا امرأة..
قالت وهي تغز قبضتيها على خصرها:
- هل مسَّــــك شيطان هذا الصباح...انزل من سقف الكوخ يا رجل...
قال:
- يا إلهي..يا إلهي.. ليس من شيطان سواك...بعد أن أوطد أركان حكمي سوف أقطع رأسك هذا بالمقصلة واتزوج ملكة عذراء جميلة...
قالت:
- عذراء.. إنك حتى لا تملك شيئاً للمستعمل فمابالك بالجديد ..انزل ودع عنك البله..لقد أعددت إفطارا طيبا...
قال:
- ماذا أعددت؟
- دريشة القمح بلبن الماعز..هيا انزل...
ورغم أن ارتفاع الكوخ لم يتجاوز مترين ونصف إلا أن زينار وجد صعوبة بالغة للنزول من سقفه بسبب سُكره... ثم جلس وزوجته ليتناولا الدريش بلبن الماعز.
- إنني أعرف كل عائلة بهذه القرية وأحفظ أسماءهم فرداً فرداً بأطفالهم ودجاجاتهم..فلماذا لا أكون ملكاً...ها..اخبريني..؟!!!
تجاهلته وصاحت:
- يا فتاة.. انت يا بنت الكلب...لا يوجد طعام غير هذا فإن لم تأكلي الآن فلا تلومين إلا نفسك بعد ذلك..
صاح زينار:
- بنت الكلب..إنك تشتمينني عليك اللعنة يا امرأة..
نهضت زوجته بشراسة وصاحت:
- أنت كلب .. بل وسيد الكلاب الضالة المتشردة المتعفنة الممتلئة بالقراد والحشرات...
خاف زينار وقال:
- اهدئي..اهدئي واجلسي لتأكلي..وكما قلتِ فلا طعام غير هذا...
- لن أجلس.. يكفيني هذا...إن جسدي يتشوق لرجل حقيقي...عليك اللعنة...أربعة أشهر بلا لمسة واحدة...ألا تشعر بالخجل .. هل أنا زوجتك أم أمك...
قال مبتسماً:
- أنت أمي..
صاحت:
- ماذا؟
- أمي وزوجتي وحبيبتي والسيدة الأولى لمملكتي..
-أمك نعم ولكن زوجتك كيف..ماهو الدليل..
صاح وهو يشير بسبابته نحو الأرض:
- آااا عقرب.. عقرب...
تراجعت المرأة بذعر وأخذ هو يلطم الأرض بنعله ويصيح:
- لقد دخلت العقرب إلى القصر...
قال ذلك فهرولت المرأة إلى داخل الكوخ وهي تحذر ابنتها ، فتسلل هو وغادر...
- لن تشرب بغير أن تدفع...كن انساناً عادلاً يا زينار مرة واحدة في حياتك...
رفع ديكاً مربوط القدمين وقال:
- هااا..جئتك بديك كامل..بالغ عاقل وراشد...يصيح في الفجر وينكح دجاجاتك العاقرات فينجبن كتاكيت حلوة .. طبعا هو ديك غالٍ جدا..سيكفيني مؤونة أسبوعين من الشراب...
قالت مانادا بائعة الخمر البلدي:
- إنه لن يكفيك يوماً واحداً ..
قال بجزع:
- لماذا يا حبيبة القلب؟
قالت بتعجب:
- منذ متى كنت تعرف الحب يا زينار!!!..
اقترب بوجهه من وجهها وهمس ضاحكاً:
- منذ أول يوم لمست فيه أصابعك وأنت تقدمين لي كوز العرق...
خفق قلبها وهمست:
- صحيح يا زينار؟
تهدلت ملامح وجهه وقال بشبق مفتعل وهو يبتلع ريقه:
- هلمي بنا...لتتأكدي ..
قالت بصوت عالٍ كمن استيقظت من غفلة:
- ليس الآن..إنه منتصف الظهر .. آه..ولكن...دعني أجهز لك وليمة بلحم هذا الديك ثم بعدها أجدد لك طاقتك بكوزين من العرق النقي المصفى كالعسل...
ابتسم ببله وغمز لها بعينه فأسرعت هي وخرجت من كوخها...
وفي المساء بعد وهلة الغروب الأولى مباشرة غادر كوخ مانادا ليقطع قرابة الكيلو متر وصولاً إلى كوخه وقد سمع العجوز أكوا يصيح في ابنته:
- لم يعد الديك مع الدجاجات يا فتاة...
سمعها ترد عليه:
- سيعود يا أبي من سيسرق ديكاً عجوزاً ..
فحرف زينار طريقه بسرعة مبتعداً عن كوخ العجوز وكأنما ارتكب جريمة...
كان هناك رجل يجلس القرفصاء قرب كوخ زينار فاقترب زينار منه بحذر.
- من؟
نهض الرجل وقبـــَّــــل يد زينار المرتجفتين من خبال الخمر.
- أنت سيدي زينار؟...
قهقه زينار قهقهة صغيرة وشهق وهو يقول:
- هق...سيدك... حسناً ..أنا سيدك زينار..ومن أنت ..عبدي؟
ظل الرجل ممسكاً بكفي زينار وهو منحنٍ يقبلهما:
- ليتني كنت عبدك يا سيدي...بل إنني عبدك منذ اليوم..
ظل زينار يحاول التماسك وصلب عوده فأضاف الرجل:
- أنت ملك هذه القرية...كذلك أخبرني الشاب...
ترنح زينار للخلف قليلا وقال:
- آه..أخيراً... نعم أنا الملك..ملك هذه القرية البائسة...الملك زي..هق..نار ..
- يا للسماء.. يا للسماء.. إنك أنت هو بعينه...لقد رأيت نجمك الأحمر يلمع في كبد السماء الكالحة...فتتبعت النجم حتى بلغت قريتك...لا يوجد نبي موقر في أهل بيته حقا.. لقد بحثت طويلاً .. بحثت في كل القرى التي عبرها النجم الأحمر...حتى وصلتُ قريتك وحينئذ انفجر النجم وتبخر...
- يا للسماء..أو حقاً فعلت أيها الرجل الطيب...
حاول التماسك وأضاف:
- لا تعتقد أنني سكران .. إن تعبي من المجهود الشاق الذي بذلته في العمل اليوم -ثم همس لنفسه- عليك اللعنة يا مانادا... ولكن لماذا نتحدث ونحن واقفان..هيا هيا فلنجلس على هذه الأرض ..
وحين جلس الضيف الغريب على الأرض مدد زينار جسده ووضع نعليه تحت رأسه. فقال الرجل:
- من سينقذ كل قرانا البائسة من ظلم الحكومة سواك يا سيدي الملك.
صدر شخير من أنف زينار فقال الرجل:
- سيدي الملك...سيدي الملك...
كان الملك قد غط في نومه فنام الغريب إلى جواره.
ودخل زينار في دوامة كوابيس مزعجة إذ رأى نفسه بين صخرتين في معصرة زيت والأبقار تدور بهما والصخرتان تحملانه وتضغطان عليه...لم يكن يشعر بآلام الضغط ولكن أنفاسه كانت تضيق بشدة والبقر يخور بصوت مخيف...ثم اختفى كل شيء ورأى زوجته وهي تداهمه مع مانادا في الفراش...ثم اختفت زوجته ورأى نفسه يجلس فوق ظهر ديك ويطير نحو السماء وهو مذعور وخائف من السقوط وقبضتاه غير قادرتين على التمسك بعرف الديك...
ثم فتح عينيه المحمرتين ببطء وسمع صوت الرجل الغريب:
- هل استيقظت سيدي الملك...
كان رأسه ثقيلا ومصدوعا بشدة ، فصلب ظهره وهو يمسك بجبهته..
- هل هذا هو الغروب؟
قال الرجل الغريب:
- بل الفجر يا سيدي...
مدد جسده مرة أخرى وأغمض عينيه..
- كل القرى تنتظر إشارة منك لتتحرك يا سيدي الملك...
نظر إلى زينار مغمض العينين وواصل حديثه:
- هناك سبع عشرة قرية جهزت فرسانها لكنهم يبحثون عن قائد تبعثه السماء إليهم ليضمنوا النصر... وها قد وجدناك يا سيدي الملك...
كان زينار متعباً فقال:
- ستستيقظ زوجتي الآن وتبدأ صلاة النكد الأبدية...لو كنت تزوجت مانادا لكنت قد ضربت عصفورين بحجر الآن..امرأة ملتهبة الجسد كخلية النحل تقطر عسلاً..وشراب مجاني...آاااه يا رأسي..آه....
قال الغريب:
- سيدي الملك...إن أحلام الآلاف يتوقف تحققها على ظهورك أمامهم....
قال زينار:
- آه ...كم أنا متعب أيها الضيف....
قال الغريب:
- يجب أن تسترح جيداً يا سيدي الملك فأمامك أيام شاقة...
قال زينار:
- هل قلت لي البارحة أن النجم الأحمر أرشدك إلي؟
قال الرجل:
- نعم يا سيدي الملك.. أنت مرسل من السماء لإنقاذنا...
انكفأ زينار على جنبه الأيسر ونام..فغمغم الرجل الغريب:
- نم يا سيدي الملك..نم.. نم لترتاح ما شئت من راحة...هكذا يفعل العظماء قبل معاركهم العظيمة...
وعند الظهيرة ودع زينار زوجته وأردفه الرجل الغريب على حماره وغادرا القرية. وكان الغريب صامتاً طوال الرحلة...، وبعد ساعتين استقبلته حشود عظيمة من الجماهير فتدلى الغريب وقاد رسن الحمارة من خطمها سعيداً والجماهير تصيح وتغني وتصفق وتضرب الدفوف والقرب ...
قال زينار للغريب:
- إرفع الراية...
فرفع الغريب الراية التي كان زينار قد صنعها من الخرقة البالية.. بعدها قال زينار:
- أرغب في كأس من العرق...إنني لا استطيع التفكير قبل أن أشرب
صاح الرجل:
- جرة من شراب العرق للملك...
ولم تمض برهة حتى تقاطرت عليه جرار الشراب... والنسوة يزغردن ثم افترشوا له أريكة وسط الفسحة المواجهة لأكواخ القرية فشرب زينار وقال:
- فلتبارككم السماء ولتنصركم على عدوكم...
قال شاب يحمل سيفاً قصيراً في قبضته:
- مرنا فقط وننحن ننفذ يا سيدي الملك... قل لنا قاتلوا وسوف نقاتل...
فقال زينار:
- قاتلوا...
صمت الناس فسأله الغريب:
- متى؟؟؟..الآن..؟!!!
صاح زينار بغضب:
- نعم الآن والآن فوراً..هل أنتم خائفون من الحكومة؟؟؟
ارتفعت زغاريد النسوة وتحركت جحافل الفرسان فقال زينار وهو على أريكته:
- ستبارككم السماء...ستبارككم السماء...
ثم جرع من شرابه وهو يتأملهم وهم يغادرون....
وبعد ساعة من الشراب استبد به السكر فأخذ يصيح:
- أنا الملك زينار... الملك الذي أرسلته لكم السماء...
فزغردت النسوة المتحلقات حوله ثم حملنه بأريكته إلى داخل أحد الأكواخ...
نام يومها نوما هانئا ثم استيقظ في منتصف الليل فوجد قربه اربع نسوة عاريات .. فتسلل من بينهن وركب حمار الغريب بعد أن حمله بجرتين من الخمر وغادر إلى قريته ...
كان متأكدا من أن جيش الحكومة سيبيد جيوش القرى عن آخرها ؛ لذلك أيقظ زوجته وابنته وغادرا القرية في ليلته تلك نفسها.
قالت الزوجة:
- اللعنة يا رجل..لقد أصبحت ملكاً الآن فلماذا تهرب؟
قال لها وهو ينخس الحمارة:
- أنا ملك دوما أيتها الماكرة.. لكنني لا أستطيع أن أكون ملكاً هكذا...
قالت:
- تخشى الموت يا جبان..أي ملك أنت...
قال ضاحكا:
- أنا دائما ملك ولكن عظمتي تكمن في أنني دوما ملك بلا مملكة.....
ثم التفت إليها وقال:
- إنك لم تجربي الشرب يوماً ما؟
قالت:
- أكره رائحته...
قال:
- عليكِ أن تجربيه..
قالت غاضبة:
- ولماذا علي أن أجربه؟
قرصها من خصرها وقال:
- ستعرفي حينها...هيا إجرعي من كوزي هذا جرعة...
جرعت زوجته جرعة وتألمت ثم أخذت تنادمه الشرب..وبعد ساعة كانا يتضاحكان ويقهقهان متغازلين طوال الطريق إلى المجهول...
(تمت)