بهندامٍ شبه متسخ بالكامل ، جلس برعونةٍ ، سانداً ظهره على الحائط الذي تآكل بفعل الشمس والريح والمطر .
مظهره لا يسرُّ أحد ، بل ويدعو إلى النفور والتقزز أيضاً.
إذ بدا الإتساخ بادياً عليه ، لا يخفيه حتى سواد الليل .
ناظراً في البعيد ، بعينين خائرتين مِن الجوع والفقر وتسلط الحياة ، ساهماً في أقاصي الذاكرة الصدئة المكتظة بضجيجِ الحرب والفجيعة والمأساة التي تأبى أن تنتهي فصولها أبداً ، في قريبِ أجلٍ .
رغم بؤسه ، بدا على ثغره إبتسامة باهتة كضوءِ فانوسٍ في ظهيرةِ قيظٍ . لربما ذلك الإبتسامة سخريةً مِن أقدارِ الآلهة ، ونكايةً في الحرب وظلام الوجود الذي يكتنف روح الحياة ، يوماً بعد يوم ، بلا هوادة تذكر .
واضعاً رجله على الأخرى بصورة مرتجلة ، وكأنه يريد أن يُفهم المارة الذين يرمونه شزراً بنظراتِ إستعداءٍ مرةً ، والشفقة مرةً أخرى ؛ بأنه لا يبالي بشيء أبداً ، لا يكترث بهم البتة ، ولا بالحرب ، لا الله ، ولا الموت أيضاً . فهو ميتاً منذ عشر سنواتٍ مضت!
مات في ذلك الصباح الذي لم يستوضح معالمه بعد ، على وقعِ ضجيج حوافر الخيل ، والأغبرة السواد التي تصاعدت في الأعالي ، وألبست السماء ثوباً مرعباً ، ودُوي الرصاص التي انهمرت على الجميع ، كبكاءِ الله في عرشه حسرةً على حماقةِ الخَلق ، مبتلعةً الحياة ، البشر ، الرجال ، النساء والأطفال والحيوانات ، والشجر الأخضر واليابس ، مبتلعةً كل شيء ، مُحيلاً المكان إلى قفارٍ قاحلٍ لا يصلح حتى مآوى للعناكب الضالة!
تائهاً في خياله الأسود ، مبتلعاً غصةً تصاعدت إلى حلقه بصعوبةٍ قاهرة ، ناهشاً مِن مائدة ذكرياته الخربة .
تراءى له في لمحةِ خيالٍ مأساويةٍ مجنونةٍ ؛ أباه مضرجاً بدمه ، يتلوّى على أرضٍ قفرٍ ، يئن كذبيحةٍ على حافةِ اللحظةِ الأخيرة .
تراءت له أمه ، وهي تركض بجنونِ طفلةٍ ، تجثو على قدميها مبهوتةً مِن هولِ الفاجعةِ ، ناظرةً إلى لا شيء ، غير مصدقة نفسها ولا عينيها ، التي تجري حولها مِن أحداثٍ تراجيديةٍ لعينةٍ .
أمه ؛ تغوص في نشيجٍ صامتٍ ، لا تعرف ماذا تفعل وسط جحيم الحرب الذي لا تخبو ناره ، وحفلة القتل الجماعي المقدس ، حيث الرب مِن علوه يمتهن صمت القبور ، ناظراً إلى الأجساد التي تتراقص سكرى ، عند منعطفِ النهاياتِ الأليمةِ ؛ بساديةٍ فاجرة!
أمه ؛ حاسرة الرأس ، والريح تتلاعب بضفائرها ، نكاية في الحزن ، ودمعتان تشقان خديها ، غاسلان وجه الزوج الشاحب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، كابحةً تنهيدة حزن تأبى المكوث بين جدران القلب الحزين .
القلب الذي ما عاد يصلح إلى شيء ،
القلب الذي غدا محض خراب منسوج ،
القلب الذي غدا خاوياً مِن كل ما يبعث على الحياة!
ستكون هذه الحرب السعرانة ، آخِر وحوش الله غير المروضّة التي تفتكُّ بجسدِ الحياة ؛
ستكون هذه الحرب اللعينة ، آخِر مسارح العبث السماوي ؛
ستكون آخِر تهريج إلهي لإضحاك البعض وإبكاء البعض الآخر مِن حثالةِ الجنس البشري المدعاة للشتم!
وسيكون الخراب ، الحزن ، القتل والدمار ، كل ما يبعث على الحياة واللذّة الماسخة!
تراءت له أخته البكر ذي الخامسة عشرة خريفاً ، وهي تصرخ ملدوغةً بالألمِ والفجيعةِ ، على مائدةِ الجنسِ المقدس . تتلوّى كأفعى بين أحضان رجل وآخر ، تقطع حبالها الصوتية تحت وخزات الأقضبة البشرية الأكثر توحشاً في بلاد الشر الواسعة!
كيف له أن ينسى كل هذا الخراب ،
كيف له أن ينسى مشاهد الجحيم التي عاشته بنفسه ،
كيف له أن يتخلَّص مِن مشهدِ أخته الملقاة على الأرضِ القفرِ ، جثةً هامدة والدم ينساب مِن بين فخذيها .
كيف له أن ينسى رحلة النجاة المحفوفة بالمخاطر ، وهو يشق الغابات هرباً مِن نيرانِ الحرب ؛ هرباً مِن ملك الموت وأنصاف الآلهة ، هرباً مِن غضبِ الآلهة الذي لا ينتهي إلا بسفكِ الدماء ، إلا بحفلةِ تقتيلٍ جماعي!
ولكن أي هرب ؟ وأية نجاة ؟ طالما تجد نفسك في نهايةِ المطافِ بين جدران جحيم أكثر روعاً ووحشةً!
اللعنة ! أن تعيش مشاهد الجحيم ، فأنتَ ستظل رهن الجحيم مدى الحياة ، لا تقوى على الهرب منه!
على وقعِ هسيسِ أقدام المارة ، استيقظ مِن الحلم ،
عاد مِن معاركِ الذاكرةِ الخاسرة ، بأنفاسٍ لاهثة ، وذهن مشوّش مضطرب ، وجسد يتصبب عرقاً غزيراً .
جال بنظره مِن حوله بصورة مرتجلة أيضاً ، متفرّساً المكان ، إذ لا أحد مِن حوله ، لا شيء سوى الظلامِ اللاهث خلف كل شيء .
الصبية الذين كانوا يلعبون الكرة قد عادوا إلى بيوتهم بعد أن خارت قواهم ، في وقت كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة .
لم يتبقى شيء سوى طبقة حمراء كثيفة تغطي ذيل السماء ، كأزياء فتيات في سني المراهقة .
" بعد لحظاتٍ سيبتلع الظلام كل شيء" ، فكّر في ذلك .
"يجب أن أذهب" أردف ، ليحسم أمره بصورة قطعية .
إنطلق بلا تردد . بخطى حثيثة عَبَرَ عدة شوارع ومنعطفاتٍ خطيرةٍ تدعو للضجر أو الخوف ، لا يهم .
"يا لحظي الجميل ، القمر مُنير اليوم "، صرّح في سرّه .
فهو يعرف جيداً عن ظهرِ تجربةٍ ، متاعب الرحلات الليلية في مدينة أشباحٍ ، في مدينة ليست أكثر مِن وكرٍ لكلِّ عصاباتِ الشر .
يتذكّر جيداً الأن ، تلك الليلة البعيدة التي تدثرت بالغيوم والضباب ، وتعد الجميع بأمطارٍ ملعونة ، كيف أنه وقع في كمينِ عصابةِ لصوصٍ ، يتسلحون بأسلحة بيضاء ؛ حاول أحدهم دون أن يكلف نفسه عناء التحدّث معه ، أن يحزّ عنقه بكلِّ بساطةٍ ، لكنه بقدرةٍ مهولة ، لا يدري مِن أين له بها ؛ تمكّن مِن الفرار منهم ، بجرحٍ في أعلى الكتف .
في غرفةٍ ضيقةٍ ، مُضاء بلمبةِ غازٍ ، تبث ضوءً واهناً بالكاد يضيء الغرفة . تتوسط الغرفة طاولة صغيرة مغبَّرة ، بها منفضة سجائر وأعواد ثقاب وكتب قديمة بلا أغلفة بتاتاً . إضافة إلى كرسي قديم متهالك لا يغري أحداً بالجلوس عليه .
في إحدى زوايا الغرفة سريراً غير مرتب برويّةٍ ،
على أرضية الغرفة ، أحذية متآكلة متروكة كيفما أتفق ،
بمحاذاةِ السرير ، إلى الأعلى ، مشبك ملابس ، به بنطال جينز متسخ وقميص بلا أكمام ، وشال جميل ملفت للنظر .
ألقى بنفسه على السرير بصورة غريزية بعد أن نزع حذائه الذي بهت لونه مِن كثرةِ الإستعمال ، تاركاً نزع ملابسه الرثة إلى وقتٍ لاحقٍ ، بعد أن يأخذ قسط راحة ، بسبب الإرهاق الذي أصابه طوال ساعات النهار.
فكسب العيش - كما هو معلوم - ليس بالأمر السهل في هذه المدينة القاسية التي لا تعرف الرحمة .
تساءل في خلده ، محدّقاً في السقفِ الذي بدا له بلا معالم واضحة وسط سراب الضوء الشاحب :
" كيف تمكّن مِن العيش وسط هذا الجحيم كل هذه السنين ؟ كيف أمكنه قضاء عشر سنوات بين أوكار الشر ، حيث الموت والألم ، الشقاء والحزن ، الفاقة والفقر ؟ كيف قاوم الموت بالموت ؟ ولماذا قاوم إذن ؟ أليس الأفضل الموت مِن عيش حياة لا تشبه الحياة ،
مِن عيش حياة بطعمِ الموت ؟ " .
ناول بيده اليمنى كتاباً بلا غلاف مِن على الطاولة الصغيرة التي تقبع بجانب السرير ، تجاوز الصفحة الأولى ، ثم طفق يلتهم شِعراً رجيماً ملعوناً ، يهشّ به ضجر الوقت الراكد وعهر الحياة :
قبل أن تثقب قميص الليل
بسيجارةٍ تلفظ أنفاسها الأخيرة
وأنتَ ترمق المارة المُتعبين
عبر زجاج النافذة ؛
قبل أن يستقيم الصمت
في حنجرةِ الليل
قبل أن يستوي السكون
وتبدأ حفلة العُري المُقدس ؛
وقبل أن تدلق كأس النبيذ
دفعةً واحدة ،
وتسعل بعدها كعجوزٍ هرم ؛
تلصص على الحياة
عبر ثقب في الروح
أرتدي ثوب الجنون بفخرٍ
غير مبالٍ على تهكم العالم!
تذكَّر أن الحمقى وحدهُم مَن
يقبضون على الحقيقة طازجةً
كنهدِ فتاةٍ في العشرين!
نفث دخان سيجارته ، فتناثر في فضاءِ الغرفةِ الضيقةٍ ، راسماً خيوطاً لولبياً مِن الدخان الكثيف ، راقصاً بنشوة ، قبل أن تتلاشى في عدمِ اللا مكان!
عبدالوهاب محمد يوسف
24/10/2019
مظهره لا يسرُّ أحد ، بل ويدعو إلى النفور والتقزز أيضاً.
إذ بدا الإتساخ بادياً عليه ، لا يخفيه حتى سواد الليل .
ناظراً في البعيد ، بعينين خائرتين مِن الجوع والفقر وتسلط الحياة ، ساهماً في أقاصي الذاكرة الصدئة المكتظة بضجيجِ الحرب والفجيعة والمأساة التي تأبى أن تنتهي فصولها أبداً ، في قريبِ أجلٍ .
رغم بؤسه ، بدا على ثغره إبتسامة باهتة كضوءِ فانوسٍ في ظهيرةِ قيظٍ . لربما ذلك الإبتسامة سخريةً مِن أقدارِ الآلهة ، ونكايةً في الحرب وظلام الوجود الذي يكتنف روح الحياة ، يوماً بعد يوم ، بلا هوادة تذكر .
واضعاً رجله على الأخرى بصورة مرتجلة ، وكأنه يريد أن يُفهم المارة الذين يرمونه شزراً بنظراتِ إستعداءٍ مرةً ، والشفقة مرةً أخرى ؛ بأنه لا يبالي بشيء أبداً ، لا يكترث بهم البتة ، ولا بالحرب ، لا الله ، ولا الموت أيضاً . فهو ميتاً منذ عشر سنواتٍ مضت!
مات في ذلك الصباح الذي لم يستوضح معالمه بعد ، على وقعِ ضجيج حوافر الخيل ، والأغبرة السواد التي تصاعدت في الأعالي ، وألبست السماء ثوباً مرعباً ، ودُوي الرصاص التي انهمرت على الجميع ، كبكاءِ الله في عرشه حسرةً على حماقةِ الخَلق ، مبتلعةً الحياة ، البشر ، الرجال ، النساء والأطفال والحيوانات ، والشجر الأخضر واليابس ، مبتلعةً كل شيء ، مُحيلاً المكان إلى قفارٍ قاحلٍ لا يصلح حتى مآوى للعناكب الضالة!
تائهاً في خياله الأسود ، مبتلعاً غصةً تصاعدت إلى حلقه بصعوبةٍ قاهرة ، ناهشاً مِن مائدة ذكرياته الخربة .
تراءى له في لمحةِ خيالٍ مأساويةٍ مجنونةٍ ؛ أباه مضرجاً بدمه ، يتلوّى على أرضٍ قفرٍ ، يئن كذبيحةٍ على حافةِ اللحظةِ الأخيرة .
تراءت له أمه ، وهي تركض بجنونِ طفلةٍ ، تجثو على قدميها مبهوتةً مِن هولِ الفاجعةِ ، ناظرةً إلى لا شيء ، غير مصدقة نفسها ولا عينيها ، التي تجري حولها مِن أحداثٍ تراجيديةٍ لعينةٍ .
أمه ؛ تغوص في نشيجٍ صامتٍ ، لا تعرف ماذا تفعل وسط جحيم الحرب الذي لا تخبو ناره ، وحفلة القتل الجماعي المقدس ، حيث الرب مِن علوه يمتهن صمت القبور ، ناظراً إلى الأجساد التي تتراقص سكرى ، عند منعطفِ النهاياتِ الأليمةِ ؛ بساديةٍ فاجرة!
أمه ؛ حاسرة الرأس ، والريح تتلاعب بضفائرها ، نكاية في الحزن ، ودمعتان تشقان خديها ، غاسلان وجه الزوج الشاحب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، كابحةً تنهيدة حزن تأبى المكوث بين جدران القلب الحزين .
القلب الذي ما عاد يصلح إلى شيء ،
القلب الذي غدا محض خراب منسوج ،
القلب الذي غدا خاوياً مِن كل ما يبعث على الحياة!
ستكون هذه الحرب السعرانة ، آخِر وحوش الله غير المروضّة التي تفتكُّ بجسدِ الحياة ؛
ستكون هذه الحرب اللعينة ، آخِر مسارح العبث السماوي ؛
ستكون آخِر تهريج إلهي لإضحاك البعض وإبكاء البعض الآخر مِن حثالةِ الجنس البشري المدعاة للشتم!
وسيكون الخراب ، الحزن ، القتل والدمار ، كل ما يبعث على الحياة واللذّة الماسخة!
تراءت له أخته البكر ذي الخامسة عشرة خريفاً ، وهي تصرخ ملدوغةً بالألمِ والفجيعةِ ، على مائدةِ الجنسِ المقدس . تتلوّى كأفعى بين أحضان رجل وآخر ، تقطع حبالها الصوتية تحت وخزات الأقضبة البشرية الأكثر توحشاً في بلاد الشر الواسعة!
كيف له أن ينسى كل هذا الخراب ،
كيف له أن ينسى مشاهد الجحيم التي عاشته بنفسه ،
كيف له أن يتخلَّص مِن مشهدِ أخته الملقاة على الأرضِ القفرِ ، جثةً هامدة والدم ينساب مِن بين فخذيها .
كيف له أن ينسى رحلة النجاة المحفوفة بالمخاطر ، وهو يشق الغابات هرباً مِن نيرانِ الحرب ؛ هرباً مِن ملك الموت وأنصاف الآلهة ، هرباً مِن غضبِ الآلهة الذي لا ينتهي إلا بسفكِ الدماء ، إلا بحفلةِ تقتيلٍ جماعي!
ولكن أي هرب ؟ وأية نجاة ؟ طالما تجد نفسك في نهايةِ المطافِ بين جدران جحيم أكثر روعاً ووحشةً!
اللعنة ! أن تعيش مشاهد الجحيم ، فأنتَ ستظل رهن الجحيم مدى الحياة ، لا تقوى على الهرب منه!
على وقعِ هسيسِ أقدام المارة ، استيقظ مِن الحلم ،
عاد مِن معاركِ الذاكرةِ الخاسرة ، بأنفاسٍ لاهثة ، وذهن مشوّش مضطرب ، وجسد يتصبب عرقاً غزيراً .
جال بنظره مِن حوله بصورة مرتجلة أيضاً ، متفرّساً المكان ، إذ لا أحد مِن حوله ، لا شيء سوى الظلامِ اللاهث خلف كل شيء .
الصبية الذين كانوا يلعبون الكرة قد عادوا إلى بيوتهم بعد أن خارت قواهم ، في وقت كانت الشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة .
لم يتبقى شيء سوى طبقة حمراء كثيفة تغطي ذيل السماء ، كأزياء فتيات في سني المراهقة .
" بعد لحظاتٍ سيبتلع الظلام كل شيء" ، فكّر في ذلك .
"يجب أن أذهب" أردف ، ليحسم أمره بصورة قطعية .
إنطلق بلا تردد . بخطى حثيثة عَبَرَ عدة شوارع ومنعطفاتٍ خطيرةٍ تدعو للضجر أو الخوف ، لا يهم .
"يا لحظي الجميل ، القمر مُنير اليوم "، صرّح في سرّه .
فهو يعرف جيداً عن ظهرِ تجربةٍ ، متاعب الرحلات الليلية في مدينة أشباحٍ ، في مدينة ليست أكثر مِن وكرٍ لكلِّ عصاباتِ الشر .
يتذكّر جيداً الأن ، تلك الليلة البعيدة التي تدثرت بالغيوم والضباب ، وتعد الجميع بأمطارٍ ملعونة ، كيف أنه وقع في كمينِ عصابةِ لصوصٍ ، يتسلحون بأسلحة بيضاء ؛ حاول أحدهم دون أن يكلف نفسه عناء التحدّث معه ، أن يحزّ عنقه بكلِّ بساطةٍ ، لكنه بقدرةٍ مهولة ، لا يدري مِن أين له بها ؛ تمكّن مِن الفرار منهم ، بجرحٍ في أعلى الكتف .
في غرفةٍ ضيقةٍ ، مُضاء بلمبةِ غازٍ ، تبث ضوءً واهناً بالكاد يضيء الغرفة . تتوسط الغرفة طاولة صغيرة مغبَّرة ، بها منفضة سجائر وأعواد ثقاب وكتب قديمة بلا أغلفة بتاتاً . إضافة إلى كرسي قديم متهالك لا يغري أحداً بالجلوس عليه .
في إحدى زوايا الغرفة سريراً غير مرتب برويّةٍ ،
على أرضية الغرفة ، أحذية متآكلة متروكة كيفما أتفق ،
بمحاذاةِ السرير ، إلى الأعلى ، مشبك ملابس ، به بنطال جينز متسخ وقميص بلا أكمام ، وشال جميل ملفت للنظر .
ألقى بنفسه على السرير بصورة غريزية بعد أن نزع حذائه الذي بهت لونه مِن كثرةِ الإستعمال ، تاركاً نزع ملابسه الرثة إلى وقتٍ لاحقٍ ، بعد أن يأخذ قسط راحة ، بسبب الإرهاق الذي أصابه طوال ساعات النهار.
فكسب العيش - كما هو معلوم - ليس بالأمر السهل في هذه المدينة القاسية التي لا تعرف الرحمة .
تساءل في خلده ، محدّقاً في السقفِ الذي بدا له بلا معالم واضحة وسط سراب الضوء الشاحب :
" كيف تمكّن مِن العيش وسط هذا الجحيم كل هذه السنين ؟ كيف أمكنه قضاء عشر سنوات بين أوكار الشر ، حيث الموت والألم ، الشقاء والحزن ، الفاقة والفقر ؟ كيف قاوم الموت بالموت ؟ ولماذا قاوم إذن ؟ أليس الأفضل الموت مِن عيش حياة لا تشبه الحياة ،
مِن عيش حياة بطعمِ الموت ؟ " .
ناول بيده اليمنى كتاباً بلا غلاف مِن على الطاولة الصغيرة التي تقبع بجانب السرير ، تجاوز الصفحة الأولى ، ثم طفق يلتهم شِعراً رجيماً ملعوناً ، يهشّ به ضجر الوقت الراكد وعهر الحياة :
قبل أن تثقب قميص الليل
بسيجارةٍ تلفظ أنفاسها الأخيرة
وأنتَ ترمق المارة المُتعبين
عبر زجاج النافذة ؛
قبل أن يستقيم الصمت
في حنجرةِ الليل
قبل أن يستوي السكون
وتبدأ حفلة العُري المُقدس ؛
وقبل أن تدلق كأس النبيذ
دفعةً واحدة ،
وتسعل بعدها كعجوزٍ هرم ؛
تلصص على الحياة
عبر ثقب في الروح
أرتدي ثوب الجنون بفخرٍ
غير مبالٍ على تهكم العالم!
تذكَّر أن الحمقى وحدهُم مَن
يقبضون على الحقيقة طازجةً
كنهدِ فتاةٍ في العشرين!
نفث دخان سيجارته ، فتناثر في فضاءِ الغرفةِ الضيقةٍ ، راسماً خيوطاً لولبياً مِن الدخان الكثيف ، راقصاً بنشوة ، قبل أن تتلاشى في عدمِ اللا مكان!
عبدالوهاب محمد يوسف
24/10/2019