د . جميل حمداوي - إشكالية الجـنس الأدبي..

1- تعريف الجنس الأدبي:

يعد الجنس الأدبي مبدأ تنظيميا ومعيارا تصنيفيا للنصوص ومؤسسة تنظيرية ثابتة تسهر على ضبط النص وتحديد مقوماته ومرتكزاته وتقعيد بنياته الدلالية والفنية والوظيفية من خلال مبدإ الثبات والتغير. ويساهم الجنس الأدبي في الحفاظ على النوع الأدبي ورصد تغيراته الجمالية الناتجة عن الانزياح والخرق النوعي. و يعتبر الجنس الأدبي كذلك من أهم مواضيع نظرية الأدب، وأبرز القضايا التي انشغلت بها الشعرية الغربية والعربية؛ لما للجنس الأدبي من أهمية معيارية وصفية وتفسيرية في تحليل النصوص وتصنيفها ونمذجتها وتحقيبها وتقويمها ودراستها من خلال سماتها النمطية ومكوناتها النوعية وخصائصها التجنيسية، كما أن معرفة قواعد الجنس تساعدنا على إدراك التطور الجمالي والفني والنصي وتطور التاريخ الأدبي باختلاف تطور الأذواق وجماليات التقبل والتلقي، فضلا عن تطور العوامل الذاتية المرتبطة بشخصية المبدع من ناحية الجنس والوراثة، والعوامل الموضوعية التي تحيل على بيئة الأديب وتمظهراتها الطبيعية والجغرافية والاجتماعية والتاريخية والدينية.

وإذا كان هذا هو تعريف الجنس الأدبي، فما هي تضاريسه التاريخية؟ وماهي خصائصه النوعية والشكلية؟ وما هي كذلك آليات رصد الجنس الأدبي ودراسته؟ وماهي الأسئلة التي يطرحها على القارئ والناقد معا؟ وماهي المنهجيات التي اعتمدت في مقاربة الجنس الأدبي في الغرب والعالم العربي؟

2- تاريخ الجنس الأدبي وخصائصه النوعية:

اهتمت الإنشائية الغربيةPOETIQUE – منذ القديم وما تزال- بمسألة الأجناس الأدبية. وقد ميز أفلاطون في جمهوريته بين السرد والحوار،

( ) أو بين الحكي القصصي والحكي المسرحي. فالأول يشتمل على السرد والحوار، والثاني على الحوار فقط. فالملحمة تمثل النمط الأول، والمسرحية المأساوية والهزلية تمثل النمط الثاني. على أن هناك نمطا ثالثا يشتمل على السرد فقط، هو المدائح.( )

ويعد أرسطو في كتابه فن الشعر المنظر الأول للأجناس الأدبية بدون منازع. فقد قعدها وصنفها بطريقة علمية قائمة على الوصف وتحديد السمات والمكونات، وقد قسم الأدب إلى ثلاثة أقسام: الأدب الغنائي والملحمي والدرامي.( )

وصارت قضية التجنيس في العصر الحديث من أعوص القضايا التي ناقشتها نظرية الأدب، والتصورات البنيوية والسيميائية، وما بعد البنيوية، لما لها من دور فعال في فهم آليات النص الأدبي وميكانيزماته الإجرائية قصد محاصرة النوع وتقنين الجنس دلالة وبناء ووظيفة. وقد أشار تودوروف Todorovإلى أن مسألة الأجناس" من المشاكل الأولى للبويطيقا منذ القديم حتى الآن، فتحديد الأجناس وتعدادها ورصد العلائق المشتركة بينها لم يتوقف عن فتح باب الجدال. وتعتبر هذه المسألة حاليا متصلة بشكل عام بالنمذجة البنيوية للخطابات، حيث لايعتبر الخطاب الأدبي غير حالة نوعية".( ) ويؤكد العالم ألماني كارل فيتورKARL VIETOR أن " الأجناس الأدبية هي إنتاجات فنية لأن أصلها التاريخي من أغمض الأمور".( )

هذا وإن عملية تجنيس النص الأدبي عرفت امتدادات وتطورات على مستوى التصور النظري والممارسة التطبيقية منذ شعرية أرسطو وأفلاطون مرورا بتصورات برونوتيير( ) ، وهيجل، وجورج لوكاش، وميخائيل باختين، وكريزينسكي، وفراي، وتودوروف وهامبورغر كيت HAMBURGERKÄTE ، وأستين وارين وروني ويليك وماري شايفر وفيتور وجيرار جنيت وغيرهم...

كما انتقل الجنس الأدبي من مرحلة الصفاء والنقاء النوعي مع الشعرية اليونانية إلى مرحلة وحدة الأجناس الأدبية مع الرومانسية إلى مرحلة الاختلاط والتهجين والتلاقح مع نظرية باختين. أو بكل اختصار من مرحلة الانغلاق والثبات والاستقرار إلى مرحلة الانفتاح والتكون والتغير. فهذا تزفيطان تودوروفTODOROV يؤكد أن التأملات حول الأجناس الأدبية قد كثرت فهي" قديمة قدم نظرية الأدب، ومادام كتاب أرسطو في الشعر يصف الخصائص النوعية للملحمة والتراجيديا. فقد ظهرت منذ ذلك الوقت مؤلفات ذات طبيعة متنوعة احتذت حذو أرسطو. لكن هذا النوع من الدراسات لم يحقق تقاليده الخاصة إلا ابتداء من عصر النهضة حيث تتابعت الكتابات حول قواعد التراجيديا والكوميديا والملحمة والرواية، ومختلف الأجناس الغنائية، وارتبط ازدهار هذا الخطاب، بكل تأكيد، ببنيات إيديولوجية سائدة، وبالفكر المتبناة عن الجنس الأدبي في ذلك العصر ، أعني كونه قاعدة محددة لاينبغي خرقها. صحيح أن الأجناس الأدبية كانت تنتمي إلى الأدب( أو إلى القصيدة أو إلى الفنون الجميلة)، ولكنها كانت تعتبر وحدة من مستوى أدنى تنتج عن تقطيع بإمكاننا أن نقاربه بموضوعات نظرية الأدب السابقة ولكنها مع ذلك متميزة عنها، ففي حين أن الرمز أو التمثيل أو الأسلوب المجازي هي خصائص مجردة للخطاب الأدبي (حيث يكون استيعابها نتيجة ذلك أكبر من الأدب وحده) فإن الأجناس الأدبية كانت تنتج عن نوع آخر من التحليل، إنه الأدب في أجزائه".( )

ولقد استعير مفهوم الجنس والنوع من العلوم الطبيعية، ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم الروسي فلاديمير بروب رائد التحليل البنيوي المورفولوجي للسرد الذي استفاد كثيرا من وصفات علم النبات وعلم الحيوان.

3- كيفية دراسة الجنس الأدبي وتحديده؟

لتحديد الجنس الأدبي إما نتبع منهجية وصفية تستند إلى إبراز المميزات ومواصفات الجنس الأدبي عن طريق استخلاص بنياته النوعية ومكوناته التجنيسية لمعرفة ماهو ثابت وجوهري أو ماهو عرضي متغير، وإما اللجوء إلى منهجية تفسيرية للبحث عن حيثيات التطور الأدبي وتغير الجنس واستخلاص جمالية التجنيس في النص الأدبي تقويما وتأويلا. ولابد كذلك من الاعتماد على مجموعة من الخطوات المنهجية وهي: الملاحظة والوصف والتجريب والفرضية والاستنتاج والقانون، أي ننطلق من المحسوس إلى المجرد الكلي بطريقة استقرائية، أو من الكلي المجرد إلى الجزئي والخاص بطريقة استنباطية.

4- أسئلة الجنس الأدبي:

ومن الأسئلة المحيرة المطروحة داخل الدراسات الأجناسية المتعلقة بالنص الأدبي نطرح مايلي:

1- هل من حقنا مناقشة جنس أدبي ما من غير أن نكون درسنا أو على الأقل قرأنا جميع الآثار التي تكونه؟
2- هل ثمة أجناس أدبية معدودة فقط( مثلا: أجناس شعرية، ملحمية، درامية) أو أزيد منها بكثير؟ وهل عدد الأجناس نهائي أو غير نهائي؟

وقد أجاب تودوروف عن السؤال الأول قائلا:" من أولى سمات المنحى العلمي عدم مطالبته بملاحظة كافة تميزات الظاهرة لغرض وصفها، فهو بالأحرى يعمل عن طريق الاستنباط. بحيث يتم في الواقع، جمع عدد محدود نسبيا من الوقائع، فتستخلص من فرضية عامة وتراجع على متن آثار أخرى، بتصحيحها أو ( بطرحها). فمهما كان عدد الظواهر المدروسة ( وهي هنا آثار) فإنه دائما قلما يكون مباحا لنا أن نستنبط منها قوانين كلية. إذ إن الترابط المنطقي للنظرية، لاكمية الملاحظات، هو الذي يكون على صلة وثيقة بالموضوع."( ) ويعضد قولة تودوروف ما قاله كارل بوبر KARL POPPER :" من وجهة نظر المنطقي، لامبرر بين أيدينا لاستنتاج فرضيات كلية انطلاقا من قضايا جزئية، مهما كان عددها؛ لأن كل استنتاج من هذا السبيل يمكن أن يتبدى كاذبا على الدوام: مهما كان عدد البجع البيض الذي سيكون بوسعنا ملاحظته، فإنه لايبرر استنتاج أن كل البجع أبيض".( )

أما عن السؤال الثاني فقد قدم الشكلانيون الروس مجموعة من الأجوبة ولاسيما توماشفسكي، الذي قدم حلا صحيحا نسبيا بقوله :" تتوزع الآثار إلى أقسام واسعة، وهذه بدورها تتفرع إلى صيغ وأنواع."

وفي نفس المنحى طرحت جان ماري شايفرJ.MARIE SCHAEFFER) ( ) عدة إشكاليات تتعلق بالقضية الأجناسية وصعوبة التجنيس، منها: ماذا نقصد بالجنس الأدبي؟ والأجوبة على هذا السؤال لاتؤسس إلا الاختلاف الجذري، فقد يكون:

* / أ- معيارا، ب- جوهرا مثاليا،ج- قالبا للمقدرة الأدبية، د- مجرد مفهوم للتصنيف لايناسب أي إنتاجية نصية خاصة...الخ.

*- ما العلاقة التي تربط النصوص بالأجناس الأدبية؟
*- ما العلاقة التي تربط نصا معطى بجنسه الأدبي؟
*- ماهي العلاقة الموجودة بين الظواهر التجريبية والتصورات؟
*- هل الأجناس الأدبية تساهم في تطوير جوهر الأدب؟

5- الثورة على الجنس الأدبي:

ثار موريس بلانشوM. BLANCHOT على نظرية الأجناس الأدبية، مثلما ثار عليها عالم فن الجمال الإيطالي كروشيه في دعوته القائمة على"التخلص من مفهوم الجنس ونفيه ". وهكذا كتب بلانشو في أواخر منتصف القرن العشرين:" لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس. كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد... ومن ثم فهو بعيد عن الأجناس وخارج خانات النثر والشعر والرواية والشهادة..يأبى أن ينتظم تحت كل هذا أو يثبت له مكانه ويحدد شكله...".

وينادي رولان بارت كذلك بإلغاء الحدود الموجودة بين الأجناس الأدبية، وتعويض الجنس الأدبي أو الأثر الأدبي بالكتابة أو النص . وبما أن النص يتحكم فيه مبدأ التناص واستنساخ الأقوال وإعادة الأفكار و تعدد المراجع الإحالية التي تعلن موت المؤلف فلاداعي للحديث عن الجنس الأدبي ونقائه وصفائه، مادام النص جماع نصوص متداخلة وخطابات متنوعة ومختلفة من حيث التجنيس والتصنيف. ويعني هذا أن الكتابة الأدبية هي خلخلة لمعيار التجنيس وترتيب الأنواع وتصنيف الأنماط. وفي هذا يقول رولان بارت:" إن النص لاينحصر في الأدب الجيد . إنه لايدخل ضمن تراتب، ولا حتى ضمن مجرد تقسيم للأجناس. مايحدده على العكس من ذلك هو قدرته على خلخلة التصنيفات القديمة."( )

ويلاحظ اليوم أن الكتابات الإبداعية المعاصرة سواء في الثقافة الغربية أم الثقافة العربية بدأت في خلخلة الجنس الأدبي وتحطيم معاييره النوعية ومقوماته النمطية باسم الحداثة والتجريب. فأصبحنا نتحدث عن القصيدة النثرية التي يتقاطع فيها الشعر والنثر، والقصيدة الدرامية التي ينصهر فيها الشعر والحوار المسرحي معا، كما أصبحت الرواية فضاء تخييليا لتلاقح النصوص وتداخل الخطابات والأجناس تناصا وتهجينا، دون أن ننسى المسرح الذي أصبح أب الفنون والأجناس الأدبية بامتياز.

6- منهجيات مقاربة الجنس الأدبي:

ولقد تم مقاربة الجنس الأدبي انطلاقا من زوايا منهجية متعددة. فهناك دراسات تركز على الشكل، وأخرى على المضمون، والبعض الآخر على الوظيفة. ويمكن تحديد بعض المناهج المعتمدة في تلك الدراسات فيما يلي:

أولا- المقاربة الاجتماعية: ( لوكاش- باختين- ﮔولدمان...)؛
ثانيا- المقاربة الفلسفية: (هيجل....)؛
ثالثا- المقاربة البنيوية: (تودوروف- جنيت- فلاديمير بروب- توماشفسكي...)؛
رابعا- المقاربة التطورية التاريخية: ( برونوتييرBRUNETIERE، أدينـﮔتون...)؛
خامسا- المقاربة الشكلية: ( فراي- شولز- ويليك- أوستين وارين...)؛
سادسا- المقاربة السيميائية: (كريزنسكيKRYSINSKI...).

وهناك من يصنف الأجناس الأدبية اعتمادا على الزمن ( الماضي والحاضر والمستقبل)، أو الضمائر، أو الأساليب ( السرد – الحوار)، أو الأفعال، أو الصيغ اللغوية أو حسب المواضيع ( الرواية التاريخية والرواية السياسية والرواية الاجتماعية...).

وهكذا فموضوع الجنس" يثير أسئلة مركزية في تاريخ الأدب والنقد الأدبي، وفي العلاقات الداخلية المتبادلة بينهما، وهو يطرح في سياق أدبي نوعي المسائل الفلسفية المتعلقة بالصلة بين الطبقة والأفراد الذين يؤلفونها، وبين الواحد والمتعدد، وطبيعة الكليات".( )

6- دراسة الجنس الأدبي في الحقل الثقافي العربي:

و إذا انتقلنا إلى الحقل العربي سنجد عدة دارسين اهتموا بتأريخ الأجناس والفنون والأنواع والأنماط الأدبية عن طريق تعريفها وتحديد مرتكزاتها ومكوناتها وسماتها مع ذكر النماذج التمثيلية من الثقافتين : الغربية والعربية ، والانتقال إلى دراسة بعض النصوص التي تمثل أجناسا أدبية محددة مضمونا وشكلا كما فعل محمد مندور في كتابه الأدب وفنونه( )، وعز الدين إسماعيل في كتابه الأدب وفنونه( )، وعبد المنعم تليمة في مقدمة في نظرية الأدب( )، ومحمد غنيمي هلال في الأدب المقارن( )، ;وموسى محمد خير الشيخ في نظرية الأنواع الأدبية في النقد العربي( )، وإحسان عباس في كثير من دراساته التي خصصها للتعريف بمجموعة من الفنون والأجناس الأدبية كالنقد الأدبي وفن الشعر وفن السيرة... وما قام به بعض الدارسين المحدثين من مراجعة لقضية الأجناس الأدبية على ضوء مناهج حديثة ( بنيوية، سيميائية، جمالية التلقي، نقدية تاريخية)، كما فعل عبد الفتاح كليطو في كتابه الأدب والغرابة( )، ورشيد يحياوي في كتابه مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية ( )، وشعرية النوع الأدبي( )،ومحمد برادة الذي طبق مفهوم التجنيس المستوحى من ماري شيفر في كتابه(لغة الطفولة والحلم، قراءة في ذاكرة القصة المغربية).

خاتمة:

وأخيرا، لايمكن فهم النص الأدبي وتفسيره، أو تفكيكه وتركيبه إلا من خلال التسلح بنظرية الأدب والانطلاق من مكونات الأجناس الأدبية ؛ لأنها هي التي نتكئ عليها في تحليل النصوص وتقويمها ومعرفة طبيعتها ومدى انزياحها عن المعايير الثابتة للجنس ومدى مساهمتها في تطوير الأدب و خلق حداثة أجناسية أو نوعية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى