– جعفر الديري
زملائي الأربعة يحملون نعشي. هذا كل ما حظيت به من تكريم. لا أهل، لا أصدقاء، لا جيران، ولا أي من أهل الإيمان الراغبين في الثواب الجزيل.
فقط أربعة يحملون نعشا قديما، تفضل به أهل القرية الظالم أهلها، الممعنة في إذلال كل غريب يبحث عن لقمة عيشه، بعيدا عن أهله ووطنه.
ساروا في خطوات بطيئة، صامتين، واجمين، محزونين لفراقي، حتى إذا وصلوا لقبري قال أشدُّهم التصاقا بي:
- سيرتاح الآن.
ومسح دمعة عزيزة من عينه.
قال الثاني:
- بلى... سيرتاح لا شك.
وقال الثالث وكان أكثرهم مشاكسة لي:
- لقد أحببته... أقسم اني أحببته.
فعلق الرابع بالقول:
- لقد انتهى كل شيء الآن... فلتدعوا له بالمغفرة والرحمة.
أنزلوا جسدي للقبر وأهالوا عليه التراب، ثمَّ قرؤوا شيئا من الأوراد والأدعية وانصرفوا. وبقيت وحدي أتأمل قبري والحجارة الملتفة حوله، خائفا من الدخول فيه.
لا أحد في المقبرة سواي. فقط أنا الجالس عند القبر، واضعا ذقنيه على كتفيه، متسائلا: وماذا الآن؟!
اقترب عصفور من قبري، ربما أغراه مرآى الرمل الناعم. سعدت به جدا، وتمنيت لو يمكث طويلا فيه، لولا أن جاءه حجر من بعيد، جعله يفرُّ فزعا. كان طفل مشاكس، قد رمى بحجر، وأقبل مهرولا وراء العصفور. غضبت جدا، وتمنيت لو أعاقب الطفل، لكن ما باليد حيلة.
دخل شاب من الباب الكبير. امتلأت أملا بزيارته قبري، لكنه توجه لآخر، قرأ عنده شيئا من الذكر، وانصرف دون أن يعنى حتى بالنظر إلى قبري.
مكثت في مكاني قرابة الساعتين، عاجزا عن فعل شيء، حين صحوت على صوت جلبة قادمة. أسرعت لباب المقبرة. كان خلق كثير يتقدَّمون حاملين نعشا جديدا.
دخلوا المقبرة، وأنا أتابعهم بعيني، ثم توقّفوا عند الزاوية اليسرى منها. أنزلوا الميت في لحده، والتفوا حول القبر، يستمعون للأذكار. دخلت من بينهم، فوجدتهم جميعا واجمين، لا دموع ولا كلام. عجبت لأمرهم، حين سمعت أحدهم يهمس لآخر:
- أحقا مات منتحرا؟!
- يبدو ذلك. لقد حفر قبره بيده وأوصى أهله أن يدفنوه فيه، بعد أن أكد لهم أنه سيموت هذا اليوم.
- إذن فهو قانط من رحمة الله.
صاح رجل قريب منهما:
- استغفر الله يا هذا... رحمته وسعت كل شيء.
لزموا الصمت جميعا، فيما رحت أمنِّي النفس أن أجد لي رفيقا في عالمي هذا. لكني لم ألحظ أحدا!. حتى بعد أن انصرفوا، انتظرت طويلا دون فائدة.
تساءلت... ربما ذهب كما يقول الرجل إلى...
فزعت من الفكرة فزعا شديدا، وسارعت بالرجوع لمكاني عند قبري، وأنا نهب لعواطف شتى، ولم يخفف عني شيئا مما أنا فيه، غير دخول طفلة في السادسة من عمرها إلى المقبرة. كانت ابتسامتها رائعة وهي تلعب ببالونها. سرَّت عني كثيرا، حتى أزالت خوفي. سألت الله أن يطيل عمرها وأن لا تكون في مكاني إلا بعد عمر طويل ملؤه السعادة والهناء.
سمعت صوتا قويّا ينادي بالرحيل. أسرعت إلى شاطيء البحر. شاهدت سفينة ضخمة، تنتظر الإقلاع، وأناسٍ كثيرين يصعدون إليها. كان الربان يصيح:
- لا تحملوا شيئا... كل ما تحملونه سيلقى للبحر.
اقتربت منه مسلما، فتطلَّع فِيَّ لبرهة، ثم أشار بيده وقال:
- لا... لست من ركاب السفينة.
أوشكت على الهلاك تأثرا، فسارع للقول:
- أنت في الرحلة المقبلة.
انتهزت الفرصة فقلت له:
- ألا يمكنك أن تقلُّني معكم؟ أنا غريب عن هذه الديار، ولم أحظ بزيارة أحد.
فكَّر الرجل لبرهة، ثم ابتسم بمودة:
- لا بأس... لن يعترض أحد على ذلك.
ركبت السفينة أو بالأحرى طرت إليها، فمضت تشقُّ عباب البحر.
زملائي الأربعة يحملون نعشي. هذا كل ما حظيت به من تكريم. لا أهل، لا أصدقاء، لا جيران، ولا أي من أهل الإيمان الراغبين في الثواب الجزيل.
فقط أربعة يحملون نعشا قديما، تفضل به أهل القرية الظالم أهلها، الممعنة في إذلال كل غريب يبحث عن لقمة عيشه، بعيدا عن أهله ووطنه.
ساروا في خطوات بطيئة، صامتين، واجمين، محزونين لفراقي، حتى إذا وصلوا لقبري قال أشدُّهم التصاقا بي:
- سيرتاح الآن.
ومسح دمعة عزيزة من عينه.
قال الثاني:
- بلى... سيرتاح لا شك.
وقال الثالث وكان أكثرهم مشاكسة لي:
- لقد أحببته... أقسم اني أحببته.
فعلق الرابع بالقول:
- لقد انتهى كل شيء الآن... فلتدعوا له بالمغفرة والرحمة.
أنزلوا جسدي للقبر وأهالوا عليه التراب، ثمَّ قرؤوا شيئا من الأوراد والأدعية وانصرفوا. وبقيت وحدي أتأمل قبري والحجارة الملتفة حوله، خائفا من الدخول فيه.
لا أحد في المقبرة سواي. فقط أنا الجالس عند القبر، واضعا ذقنيه على كتفيه، متسائلا: وماذا الآن؟!
اقترب عصفور من قبري، ربما أغراه مرآى الرمل الناعم. سعدت به جدا، وتمنيت لو يمكث طويلا فيه، لولا أن جاءه حجر من بعيد، جعله يفرُّ فزعا. كان طفل مشاكس، قد رمى بحجر، وأقبل مهرولا وراء العصفور. غضبت جدا، وتمنيت لو أعاقب الطفل، لكن ما باليد حيلة.
دخل شاب من الباب الكبير. امتلأت أملا بزيارته قبري، لكنه توجه لآخر، قرأ عنده شيئا من الذكر، وانصرف دون أن يعنى حتى بالنظر إلى قبري.
مكثت في مكاني قرابة الساعتين، عاجزا عن فعل شيء، حين صحوت على صوت جلبة قادمة. أسرعت لباب المقبرة. كان خلق كثير يتقدَّمون حاملين نعشا جديدا.
دخلوا المقبرة، وأنا أتابعهم بعيني، ثم توقّفوا عند الزاوية اليسرى منها. أنزلوا الميت في لحده، والتفوا حول القبر، يستمعون للأذكار. دخلت من بينهم، فوجدتهم جميعا واجمين، لا دموع ولا كلام. عجبت لأمرهم، حين سمعت أحدهم يهمس لآخر:
- أحقا مات منتحرا؟!
- يبدو ذلك. لقد حفر قبره بيده وأوصى أهله أن يدفنوه فيه، بعد أن أكد لهم أنه سيموت هذا اليوم.
- إذن فهو قانط من رحمة الله.
صاح رجل قريب منهما:
- استغفر الله يا هذا... رحمته وسعت كل شيء.
لزموا الصمت جميعا، فيما رحت أمنِّي النفس أن أجد لي رفيقا في عالمي هذا. لكني لم ألحظ أحدا!. حتى بعد أن انصرفوا، انتظرت طويلا دون فائدة.
تساءلت... ربما ذهب كما يقول الرجل إلى...
فزعت من الفكرة فزعا شديدا، وسارعت بالرجوع لمكاني عند قبري، وأنا نهب لعواطف شتى، ولم يخفف عني شيئا مما أنا فيه، غير دخول طفلة في السادسة من عمرها إلى المقبرة. كانت ابتسامتها رائعة وهي تلعب ببالونها. سرَّت عني كثيرا، حتى أزالت خوفي. سألت الله أن يطيل عمرها وأن لا تكون في مكاني إلا بعد عمر طويل ملؤه السعادة والهناء.
سمعت صوتا قويّا ينادي بالرحيل. أسرعت إلى شاطيء البحر. شاهدت سفينة ضخمة، تنتظر الإقلاع، وأناسٍ كثيرين يصعدون إليها. كان الربان يصيح:
- لا تحملوا شيئا... كل ما تحملونه سيلقى للبحر.
اقتربت منه مسلما، فتطلَّع فِيَّ لبرهة، ثم أشار بيده وقال:
- لا... لست من ركاب السفينة.
أوشكت على الهلاك تأثرا، فسارع للقول:
- أنت في الرحلة المقبلة.
انتهزت الفرصة فقلت له:
- ألا يمكنك أن تقلُّني معكم؟ أنا غريب عن هذه الديار، ولم أحظ بزيارة أحد.
فكَّر الرجل لبرهة، ثم ابتسم بمودة:
- لا بأس... لن يعترض أحد على ذلك.
ركبت السفينة أو بالأحرى طرت إليها، فمضت تشقُّ عباب البحر.
الطيور لا تحب الدخول للمقابر
زملائي الأربعة يحملون نعشي. هذا كل ما حظيت به من تكريم. لا أهل، لا أصدقاء ولا جيران، ولا أي من أهل الإيمان الراغبين في الثواب الجزيل. فقط أربعة يحملون نعشًا قد
www.alayam.com