ياسر جمعة - على حوافِ النَّبض.. قصة قصيرة

يراهُ الكلُّ - إن رأوه- مجذوبًا، رثَّ الثِّياب، يُخبِّئ شعره الطَّويل، المُتَّسخ وجهه، ويصل إلى صدره الضَّامر. وهو لا يراهم، إلَّا عندما يحتاج إلى أحدهم، في دورٍ يستحيل على أيِّ من أُناس حياته القديمة، القيام به، ليتمِّم به واحدة من حكاياته الَّتي يسردها، مُهمهمًا، على روح الكون.

يتأمَّلهم، مُتَّكئًا: العاهرة وضريح الولي، هما غاية الكلِّ، ومقصدهم، حتَّى هؤلاء الَّذين يقودهم العمى؛ حيث لا ضجيج ينبعث من أرواحهم، ولا مرايا وهميَّة، تعكس آساطيرهم الزَّائفة، مثل الآخرين، وإن بدوا، في الغالب، مثل الجميع في سِمتهم، بما يحملونه، وما يحملهم من هواجسَ مرهقة، تُطلُّ من أعينهم، وهم تائهون، يُضنيهم البحث عن معنى، يركنون إليه، ويسمُّونه الأمان.

بائع التَّمر هندي المُمتلئ، القصير بصوته الكبير. بائع الفيشار النَّحيف، بصوتِه الأجشِّ. بائع الأقمشة وثياب النَّساء، بعطره الخانق. وبائع ألعاب الصِّغار.. يتفنَّن الكلُّ في النِّداء على بضائعهم، بأصواتٍ مُتداخلة، فيما يشبه الانسجام المنغَّم، الذي يتنافس، وينافس قيظ النَّهار.
- حــــــي.. الله حي.
يصدح بها صوت عريض، ذكوريّ، لامرأةٍ فاضت في ملامحها وتضاريسها الأنوثة، فترتبك الأصوات، الَّتي ما تلبث أنْ تندمجَ في وشيشٍ رويدًا... رويدًا ..يتلاشى.

تخترق الزَّحام بجسدها المكين، الأسمر، وتجلس بجواره، فيعتدل، من حيث يتَّكئ بجوار جدار الضَّريح، تُخرج من صدرها العامر سيجارةً، مقوَّسةً، تُشعلها وتناولها له، بينما يجذب منها أنفاسًا متلاحقةً، تنهر الأطفال، المتباينين في أشكالهم والأعمار، والَّذين، تعرف هي أنَّ عاهرة الضَّريح تدَّعي أنَّهم أبناءه، فينفضُّوا من حوله مذعورين.
تفرد أمامه لفَّةً من الورق بها بقايا أطعمة مختلفة، تسأله عن أحواله دون أن تنتظر منه إجابة، فهو لا يتحدَّث قطّ إلَّا مع روح الكون. تُطعمه بيدها ذات الأصابع الطِّوال، ولا تشاركه إلّا فيما يقع من فمه، عندما ينظر فجأةً إلى بطن امرأةٍ حامل، تمرُّ أمامهما.. فيقوم إليها سريعًا، قبل أنْ تُمسكَ هي به وقد دارتْ برأسها الظُّنون، ليقول لجنين الحامل ما لا يسمعه أحدًا، ويعود. تلتهم اللُّقيمة الَّتي وقعتْ من فمه، وتمسح لعابه السائل بيدها. يعود الخمول إلى عينه، فتناوله لُقيمة أخرى.

- حـــــــي.. الله حي.
تأتي على فتراتٍ متباعدة، في اللَّيل أو في النَّهار، أمام العيون التي تشتهيها وتخشاها، في يدها دائمًا ما تحمله له، تجلس بجواره فينفضُّ أطفاله من حوله، وإن كانوا على مقرُبةٍ منه يبقون. تُطعمه فيتأكَّد الطَّيبون من الباعة أنَّها أمُّه. تُشعل له سيجارة تلوَ الأخرى. يتخاطف الأطفال ما تبقَّى من الطَّعام في سعادةٍ صاخبةٍ، لا تهدأ، إلَّا عندما يسمعونها، من تحت غطائه المهترئ، وهي تقول :
- الله الله الله....
وقد رقَّ صوتها، الذي كان مخيفاً، رقَّ.. رقَّ.. فصار حانٍ، جاذباً غامضاً قليلًا.

واحد، اثنان، ثلاثة، ربَّما أكثر، تُنعشهم آهاتها الجامحة، وأنينه، في إيقاعهما المنسجم، الَّذي يخضّّب ملامحهم، وأصواتهم، بالبهجة، فيستخفُّ بهم المرح، لتمتزج آهاتهم، بتأوِّهاتها، بنداءاتهم على بضائعهم، الَّتي تتكاثف حولها النَّاس.
واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، الكلّ ينتبه، فيرونه، دون أن يظهر منه شيء إلّا جزءًا من قدمٍ مُتَّسخة، تتشابك معها في حميميَّةٍ قدمٌ بضَّةٌ، نظيفةٌ، شهيَّةٌ، من تحت الغطاء المهترئ، أحيانًا، ومع ذلك، تُشرق ملامحه القبيحة، المنفِّرة، في خيالهم، كشمسٍ تحرق قلوب بعضهم، وما يلبثوا أن ينسوه كما يريد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى