روجيه غريب - المسير.. شعر

الذاكرةُ تقارِبُ الخامسةَ ليلاً
الأزقةُ فارغةٌ لا تملؤُها سِوى طرطقة قدميَّ
لكنَّ الأصواتُ تَزدحِمُ في راسي
الأماكنُ تجتمِعُ أمامي
ثمَّ أرتطمُ بالجدارِ- حقيقةً لمْ أراها- ربما
هي الذكرياتُ
حاكتْ نفسها ملابساً للأيامِ
أتخذتني كعنوانِ إقامةٍ
و أتخذتِ المسير وسيلةً للتصوفِ
تركيا
عاصمةُ الطقوسِ الحزينةِ الّتي تُرحِّبُ بالجثثِ
ترحبُ بالدمى المنحوتةِ على جبينِها الفاتحة
والوصيةُ الأخيرةُ كانتْ:
"أرضُنا قَذِرَةٌ مِثْلَنا"
رائحةُ دماءِ آبائي و أشلائَهُمْ اللعينةَ تعيقُ مسيري هارِباً من الوقتِ إليَّ
أكادُ لا أَقدِرُ أنْ أَشُمَّ نعشي الرّاقِدُ في عُمقِ البحرِ الأبيضِ الملطَّخِ أيضاً كالآخرينَ بالدّماءِ
في انسياب هذهِ الموجةِ
ترى الأقمشةَ المطاطيةَ سِرْبُ أَسماكٍ تتّجِهُ نحو قاعِ المحيطِ المجهولِ
اللامبالاةْ
اللااكتراثْ
اللاوجودْ
تلكَ المشانقُ هيَ الجحيمُ
هُنا حيثُ يُباعُ لنا الهواءَ المعبأَ بِسترِ النجاةِ
يباعُ لنا ضميرَهُمْ
وأَحزانَنا
مقابلَ ثمنَ منزلِ أبيْ
*** *** ***
رائحةُ هذا الصباحِ قديمةٌ قِدَمِ مئتيّ قصيدةٍ مَرَّتْ
والشاعرُ غيرُ مولودٍ
هيَ الانتفاضةُ منافقةٌ كَكُلِّ تفاصيلِ يومِكُمْ
كانتْ تجاعيدَ وجهِ جدتي كافيةٌ لإنجازِ الثورةِ
هيَ جدتي مَلِكَةُ الإرهاقِ
لكنَّ هذا السلام الزائف ما قبلَ الحربِ أغلقَ عينيها
وأنهى الاتفاقياتِ
كانتْ طقوسُ الأُلفةِ ومداعباتِها ليْ هيَ الأكثرَ ضرراً
هيَ الأكثرَ بُعداً عَنِّي
والأكثرَ تصوّفاً مع قريتِنا
بلدةُ أُمي كبودرومْ مُنافقةٌ
لكنَّها أَكثرَ خجلاً
أبحثُ عنها في الحاناتِ الممتدةِ على الشاطئِ
أبحثُ عن سبباً كيْ أتكلمَ التّركيةَ
لأَتخلّصَ مِنْ سعلَتي
دونَ غصَّةٍ
يستلقيْ اللاجئينَ بِلا كيانٍ
على هذا الشاطئِ..
شاطئُ اللاجئين العراةِ
حيثُ البردُ نبيٌّ هُنا
لا يَلْبَثَ أنْ يجلِسَ حتّى يُحدِثُني عن وَحيهِ
عن عظمتهِ
لكنّني أَشعُرُ بالصقيعِ
والجوعِ
كدودةِ أرضٍ
ثيابي مُتَّسِخةٍ
وقلبيْ سلةُ قمامةٍ
أميْ ليسَتْ هُنا لِتغسلَ بمسحوقِ وجنتيها أَيامي
أو تُلهيني بصرختِها عن صداعِ الأفكارِ
لِوِحدتي لهجةٌ محكيةٌ و شيفراتٌ هيروغليفيةٌ
الكثيرُ مِنَ الّلغاتِ
لكنَّ المعنى نفسَهُ
أبحثُ عن غرباءٍ
عن مفقودينْ
لكنْ لمْ أَجدَ سِوى أعمدةَ الكهرباءِ
و أدراجَ البيوتِ
مرميةٌ في الخارجِ مِثليْ
ربَّما الأزقةُ الواسعةُ الأكثرَ اشتياقاً لِخَطواتي
ربَّما ذاكَ الليلُ ذهبَ وحيداً
ربَّما نَفَذَتْ احتمالاتي
لكنْ نقمتي أنَّ الَجميعَ هُنا يَكرهونَ الموتَ
ينظرونَ باحتقارٍ إليهِ عندما يأتي ليدلكَ أيامَهُمْ بالنّصرِ
عصاباتُ المافيا
اللاجئون
متطوعو الصليبِ الأحمرِ
حتَّى بائعو المحارِ الأتراكِ
لا يستمعونَ إلى موسيقاهِمْ كما يَجِبْ
لا يبصِقُونَ على أَنفُسِهِمْ كما يَجِبْ
أسألُ نفسي: كم حلما يجب أن أقتل حتّى أُتاجرَ بالليلِ ؟
لمْ أكنْ أُلبِسُ الأحداثَ حقيقتَها حتّى وافتنيَ الحربُ بتفاصيلَها
هي الأشدُّ صِدقاً
وذعراً
أمشيْ
والطرقُ تَعبُرُني
الوقتٌ يٌضيعُني
القليلُ من العباراتِ لنْ توقفَ تدفقي
حُزني سيُغرقُ المدينةَ
لكننّي اِمتطيتُ دولابي الهوائيِّ و سأقطعُ البحرَ لأنجو مِنّي
و سأصل قبل جميعِ المنتشينَ إلى معتقلي سالماً مبللاً بالحزنِ
بالحقدِ
بِكُرهي للملامحِ الجميلةِ
لو كان عزيز نيسين حياً لكتبَ قِصّتي الكارثيةَ
وأضحكَ دجلَكُمْ
أطلعكُمْ على ما تبقى من التنهيداتِ
حيثُ أقيمُ
أنا
ابنُ هذا الكوكبِ اللعينِ
فرعٌ في شجرةِ جنسٍ قَذِرٍ حدَّ القرفْ
أنا
فاقدُ الأشياءِ الأكثرَ حنيناً و رقةً
أضعتُ عيوني في النظر بحثاً عن طُرُقاتِ النجاةِ
لا سبب لأحدثكم عن حبٍّ تفاوضَ والطريقِ عن وقتٍ للهدنةِ
سيحدثَكُمْ صِدقي عن براءةِ وجودِنا كفقراءٍ
عن خبثِ الحروبِ
ها هيا تركيا تتربعُ على عرشِ التَّعبِ
وتنصِّبُ الليلَ مواطناً
والموتً قاضياً
واللهُ كذبةً بيضاءً
وتنصِبَنيْ " نادلٌ"
على التُّرَهَاتِ
أبولُ
أرفعُ لافتةَ الحانةِ
درباً درباً
وطني مقبرةٌ
أنحتُ على شاهدةِ القبرِ:
نحنُ لمْ نتعاطى الموتَ كما يجبْ
كي نرويْ للحياةِ حولَ المدفأةِ في ليلٍ كئيبٍ
قصصُنا
اليدُ على الشفتينِ
نُصمٍتُ المنتشينَ
و نقبلُ أَحزانَهُمْ
و نطعنَهُمْ..
هي موجاتُ البحرِ تَهمِسُ سِرّاً
وتقولُ ليْ:" أَينَما ذهبتَ
لا تنسى هذا الأنينَ
لا تنسىْ... "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى