عيدروس سالم الدياني - في حضرة الموت.. قصة قصيرة

صيحاتٌ تشقُّ أُذنَ السماء ،تخترقُ الجدران ،لتِصلَ إِلى أَسماعِ القرية ،ثمّ تبدأُ نياحةٌ مضطربة ،أصواتٌ تعلو ثم تنخفض تدريجياً .
جلستُ بجوارِ سورٍ طينيٍٍّ مُتهالك ،لبيتِ ٍ عجوز ماتت منذ مدة ،وهو الانَ مهجورٌ ، أَسندتُ ظهرِي إليه وذراعيّ إلى رُكبتي ،تقوّس ظهري ،ورأسي يتدلّى منهُ طرفُ العمامة ،التي وضعتُها بعشوائية على رأسي .
أسمع لتلك البكائية الموسيقية ،المستنزلة للدموع ، فلفت انتباهي تلك الأوصاف الجميلة التي نعتن بها الميت !
أعرفه ، كان بخيلاً _رحمه الله -وجباناً أيضا _فالجبنُ رديف البخل _ لقد تفجّرت الدمامل في قدميه ولم يذهب إلَى الطبيب ،مع أنه يعاني صعوبةً في المشي ،كانَ يداوي قدميه بأعشاب يقطفها من الوادي . البارحة فاجأَهُ ألمٌ في صدره ، إزداد شدةً حتى أماته صباحاً . هذا ما سمعته حين أتيت بعد سماعي للصراخ المدوي ،الذي اهتزت له كل أسماع القرية .
الدكانُ الذي يملكه كان يكسب منه الكثير ،والسّلعة التي لايملكها غيرهُ يضاعفُ ثمنها .
يعشق الدراهمَ ، وبخيلاً بإنفاقه لها ، سمعت أنه كان يطعم اولاده خبزاً حافاً ..
دسست يدي بجيبِ قميصي وأخرجتُ علبةَ السجائر ،قلتُ لنفسي :سأدخنُُ سيجارة الموت ! ،
سمّيتُها سجائرَ الموت لإنني أدخّنُها الاٰن في حضرة موت جاري البخيل .
عليٌّ ابن عمّي و المُتوفى هو خالُه ،ناديته فأتى وجلس بجواري ، أحب مجالسته كثيرا ،فهو يكثر الصمتَ وأنا كثير الكلام !….بينما كنت أنفخ دخان سجائري ،وأهذي بسرد يومياتي المملَّة وتسكعي في الأسواق وبطالتَي التي طالَ أمَدُها ،كان هو صامتاً ،و يتلقفُ البكائيات التي تأتي من الداخل ،ويترجمُ النواحَ إلى مشاعرِ حزنٍ كستْ مُحيّاه ، وحين بلغ الحزنُ منتهاه ،إنفجر باكياً !
نظرتُ لهُ وابتسمت !
فالتفتَ إليّ بتعجب ،لم يكن يتوقع أن اضحك ، ربما كان يتوقع مني مواساته .
لكنني ابتسمت بسخرية !! .
-كف عن هذا ، أعرف أنك لم تكن تحبه ،و أولئك النائحات ،سيتوقفن عن النواح مع أول آنيةِ طعامٍ يلمحن بريقها . قدمتُ له شاياً :
” اشرب واجعل اليوم يمضي فحسب ”
مضت الجنازةُ يهرولون بها إلى المقبرة فقمنا نتبعها ،ومضينا في ساقيةٍ صغيرةٍ ،على ضفتيها أشجارُ النخيلِ الباسقة ،بعضها بلغ من الطول الكثير ،بحيث لم يكن لأحد أن يتسلقها ،هي الآن أعشاشاً للحداء التي تفتك بالحمامات .
بلغنا المقبرة ،فوجدنا الحفارين لم ينتهوا بعد ،فتفرقنا في المكان ،كل منا يقصد ظلاً. أشجارُ السمر تنتشر هناك بكثرة ،وقليل من السدر .
جلست تحت السمرة وأنزلتُ عمامتي وجعلتها حبوة لي أشد بها ظهري .”
جلس بجانبي رجل كهلٌ ،نحيل الجسم وذو لحية صغيرة بيضاء ،لونه يزداد سمرة بسبب الشمس المحرقة .
من هيئته يبدو أنه بدوياً ،ربما كان ماراً فرأى الناس في المقبرة فأراد أن يحظى بثواب دفن الميت .
-متى ينتهون من دفن الميت ؟
_بقي القليل ياشيخ .لِمَ العجلة ؟
_سأعيدُ هذه قبل أن يقفل المحل .فقد اشتريتها بالامس !
كانتْ بيدهِ مضخةٌ صغيرة للماء ،أنزلها من على ظهر حماره الهزيل ،تبدو قديمة ،فقلت له : ولم تعيدها ؟
_إنها لا تعمل ،لقد مدحها لي ذاك الأفاك ، كان يملك لساناً حلواً ،ولكنه غشّني ،أنا الآن متشوقٌ لأخذ حقي منه ،أتمنى أن يسرعوا في الدفن حتى ألقاه قبل أن يقفل المحل !
_ممن اشتريتها ؟
-لا أعرف اسم الرجل لكنه يملكُ أولَ دكانٍ على يمينك حين تدخل السوق ،له بابٌ صغيرٌ ،وشبه مظلم من الداخل ،فإنارته خافتة !
كان هو جاري الذي نحن على وشك مواراته الثرى .
لا أعرف ماذا أقول لهذا المسكين ،فخصمه قد مات !
،فبادرته بسؤال :
ما كنت ستفعل لو علمت أن الذي باعك ،هو من سنقوم بدفنه الآن ؟
ظهرتِ الدهشةُ على وجهه ،أحقاً مات ؟
_نعم لقد توفي البارحة ،بأزمةٍ قلبية
تلاشت ملامحُ الغضب التّي ارتسمت من قبل على وجهه ،وبدأت تتشكلُ ملامح أسىً تختلط بالشفقة .
_ياله من مسكين ، كانت الابتسامة لاتفارقه ، لقد كان مهذباً معي بالامس ،وعاملني بلطف شديد ! ،
أظنه أعطاني المضخة وهو يظنها تعمل ،…إنه بريء … ،أسأل الرب ان يغفر له .
رمى المضخة من يده وذهب ليساهم في الدفن ولسانه يلهج بالدعاء لجاري الميت .

عيدروس سالم الدياني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى