آمال مختار - القبلة!.. قصة قصيرة

من أي محيط غرفت أمواج الصبر تلك لأنتظر؟

طوال ما يقارب اليوم وأنا مرابطة بالمقهى المقابل أنتظر أن يُدفع باب العمارة العتيقة ذات الطراز المعماري الايطالي القديم ليخرج من الصورة التي وُشمت في ذاكرتي الرجل الذي عشقت منذ عشرين سنة. كان الشتاء وكان البرد قاسيا مثل مجرم خارج المقهى ذو الواجهة البلورية العريضة، كانت ندف الثلج تتمازج أحيانا مع زخات المطر فيبدو المنظر من وراء الزجاج مثل لوحة عملاقة معلّقة في الفضاء،

أعشق الجلوس وحيدة في المقاهي وأعشق عزلتي في خضم ضجيج رواد المقهى من الغرباء، أشعر بحرّية لامتناهية وأغبط نفسي على ذلك الإحساس النادر الذي ينتابني فقط كلّما سافرت بعيدا عن الوطن بينما يجثم جسدي على كرسي في مقهى،

كان الشارع يمتد أمامي طويلا مستقيما تحيط به الأشجار لكأنّه رسم بالمسطرة وقياسات دقيقة للطول والعرض ! تخيلت أنّ المشهد غير واقعي وبدت لي السيارات التي تسير فيه مثل تلك التي نراها في برامج لعب الأطفال الالكترونية،

هل نحن في الواقع حقاً أم في فضاء افتراضي من صنع خيالي وهوس أحلامي؟

حلمت طويلا بلقائه بعد ذلك الغياب المفاجئ، سهرت الليالي الطوال أتقلّب على سرير الأرق وأستعيد الحكاية مشهدا مشهدا، وأتملى الصورة التي ظلت عالقة في الذاكرة تتحرك إلى الوراء لأشاهد الأحداث السريعة للحكاية القصيرة والموشومة في تلافيف الروح مثل نقش على حجر، غير أن الصورة تتوقف في كل مرّة عن الحركة عند تلك اللحظة تحديدا ولا تتقدم أبدا، أحاول دفعها إلى الأمام في كل ليلة بهوس رغبتي الجامحة في استكمال حكاية بترها القدر لكنّها لا تتقدّم، لا تتقدم !

وأراه واقفاً بقوامه الرياضي على الكورنيش، بقميصه الأبيض وسرواله الجينز الأزرق، شعره الأسود المنسدل حتى كتفيه يتطاير مع نسمات عشية صيفية ندية ووجهه الحنطي مشرق مثل شمس صباحية متألقة بضوئها البهيّ،

وأراني شابة في العشرين من عمري ارتجف داخل تنورتي السوداء القصيرة وقميصي التركوازي أمسك بمشموم الياسمين الذي أهداني إياه بخوف وآرتباك كأنما أمسك بقنبلة موقوتة ستنفجر وتبوح بسر أحلامي ما أن يراها أحدهم،

كنت أتوقع في تلك الوقفة الخاطفة على الكورنيش أن يبوح لي بمشاعر رأيتها تعتمل في أعماقه وتشعّ من عينيه طوال أسبوع العطلة الذي كنت أقضيه مع عائلتي في أحد فنادق مدينة سوسة، وكنت أظن أنّ ذلك اللقاء سيكون الأول في حكاية طويلة قدح القدر شرارتها في مطعم الفندق،

ولم أكن أعتقد البتة أنّه سيكون اللقاء الأخير أيضاً،

دعاني لشرب عصير بارد في أحد مقاهي الشاطئ المزدحمة والصاخبة بالأغاني والموسيقى الراقصة لكنني ترددت ثم رفضت خوفا من أهلي، كنت أتهيأ عند انتهاء تلك الصائفة للدخول إلى الجامعة ولم يكن في مقدوري أن أتجاوز الحدود الأخلاقية التي كانت تكبلني بها عائلتي الكبيرة والممتدة من اخوتي وأعمامي وأخوالي،

ظللنا واقفين على الكورنيش مثل ممثلين مبتدأين في فيلم حب فرنسي بارد، إلا أن القبلة التي فاجأني بها لم تكن كذلك قط، كانت قبلة خرافية،ساحرة، ذات طعم معطّر بالنعناع، شبقة وندية، كانت تنضح بعذوبة خارقة لم أتذوق مثلها في حياتي، كانت بوابة فارهة أُشرعت أمام رغبتي الجارفة لمتعة لم أكن أدرك كنهها قط، كانت زلزالا لجسدي وبركانا لمشاعري التي تدفقت حمما حارقة. كانت قبلة متوحشة بل كانت قبلة فوق كل أوصاف اللغة الممكنة،

كم دامت تلك القبلة الخارقة المفاجئة؟

كانت مثل برق؟

ثوان بالتأكيد غير أنّها ظلّت خالدة في الذاكرة، حيّة تنضح بحرارة نفَسها، بعطرها العابق برائحة البرية، بوهجها اللافح مثل هبّة دفء في الليالي الباردة،

وفي ليال البرد والأرق والوحدة كنت أتدفأ على وهج تلك القبلة اليتيمة الخاطفة التي عطّلت نمو مشاعري وتطورها كما كان يجب أن يكون واعتقلتها حبيسة في قمقم تلك القبلة،

ماذا حدث بعد تلك القبلة النادرة؟

لا شيء !! غادر هو إلى حيث لا أدري وظللت أنا مذهولة أمسك بمشموم الياسمين كالمعتوه أتملّى ظهره وكتفيه العريضين وطوله الفاره ومشيته الرشيقة وشعره الأسود المتناثر مع الهواء،

وتوقفت الصورة في الذاكرة بينما ظل نبض تلك القبلة يخفق في روحي مثل نبض الحياة،

أترشف الآن قهوتي الخامسة منذ الصباح حيث جلست في المقهى البلوري قبالة الضفة الأخرى للشارع أنتظر بلهفة أن يخترق الباب والصورة الثابتة في الذاكرة،

مرّ العمر سريعا كشهاب بحلوه القليل ومراراته الكثيرة حتى تعثّرت فيه صدفة لمّا.

علمت من زميلة لي في العمل أنها تأخذ ابنها مرّتين في الأسبوع لدراسة الموسيقى في منزل الاستاذ جلال المختص في عزف العود في وسط العاصمة، انتفض قلبي مثل عصفور في قفص صدري وتعمّدت مرافقتها ذات مرّة لأعرف العنوان، بعد أخذ ورد بيني وبين شبقي ولهفتي وعقلي وسنّي ووضعيتي قرّرت الذهاب للقائه، وتحملت رعب الانتظار طوال ذلك اليوم في المقهى، سيناريوهات عديدة تشكّلت في ذهني :

عندما يخرج من باب العمارة والذاكرة هل أركض إليه وأقول له : " هذه أنا جليلة؟

هل سيذكرني؟ هل سيذكر استغرابنا من تشابه أسمائنا؟ أم تراه نسي فتاة الكورنيش تلك البريئة الخجولة المجنونة في صمتها والتي رآها ذات صيف قديم وآختطف منها قبلة؟ هل مايزال يذكر تلك القبلة؟

هل أقدم له نفسي أم أقف أمامه وأنتظر ردّة فعله كيف ستكون؟

هل ارتمي في أحضانه وأباغته بقبلة مجنونة ومتوحشة مثلما فعل معي ذات صيف؟

كيف سيتصرّف؟ كيف أفعل؟

لست أدري !!

مشاعري متلعثمة مثل تلميذ نسي محفوظاته، وقلبي يخفق بسرعة مثل قلب عاشق سيلقى حبيبه،

بعد ساعات طويلة من الانتظار والأحلام والتسؤلات رأيته يبزغ من الباب مثل ماذا؟

مثل كهل تهدلت أطرافه، وتراخت بطنه أمامه محطمة رشاقة قوامه، وشعره الأسود ما يزال طويلا غير أنّه بات رماديا !

يلوح شاله الأحمر حول رقبته موحيا بخروجه عن القطيع في لباسه الشتوي الذي يبدو شبابيا رغم تقدم سنوات العمر الواضح من خلال التجاعيد التي غزت وجهه ومن خلال حركة المشي التي تباطأت فاقدة انطلاقتها القديمة التي كانت مثل سهم،

تسمّرت على مقعدي بينما رأيت روحي تفرّ منّي و تغادرالمقهى وتركض إليه بلهفة فتاة العشرين، تعانقه بجنوني المعتق لسنوات الصبر الطويلة، تقبله مثلما حلمت أن أفعل طوال سنوات الصبر والانتظار.. وإذا بطعم القبلة لم يكن معتّقا مثلما اعتقدت بل وصلني طعم بارد،بارد، مثل صقيع الغربة التي نقف على حافتها، كانت شفاه القبلة مثل شفاه جثة فقدت حرارتها منذ زمن، بلا روح، بلا حياة، بلا وصف،..

كم دامت قبلتي الباردة المتخيَلة؟

ثوان تحطم خلالها صرح قبلة قديمة تعتقت في الذاكرة،بينما كان هو في الأثناء يعدّل وضع آلته الموسيقية على كتفه المتهدّل ويمضي إلى حيث لا أدري... ولا أريد أن أدري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى