غوستاف لوبون - اللغة العربية.. ترجمة عادل زعيتر

تُعد اللغة العربية من اللغات السامية، وتُشبه اللغة العبرية كثيرًا، وتختلف في مخارجها عن أكثر اللغات الأوربية، فيجد الأجانب صعوبةً كبيرة في النطق بها.
ونجهل تاريخ نشوء اللغة العربية كما نعرفها الآن، ولكننا نعلم من الشعر العربي الذي قيل قبل ظهور مُحَمَّدٍ بقرنٍ واحد أن اللغة العربية كانت قد وَصَلت إلى درجة كمالها الحاضر.
حقًّا، تشتمل اللغة العربية على لهجاتٍ كثيرة، ولكن كتَّاب المسلمين أجمعوا على أن لهجة قبيلة مُحَمَّد تمتاز بأنها أفصحُ لهجات العرب، وكان من تأثير القرآن أن جعل من اللهجة التي كُتِب بها لغة عامَّة.
واللغة العربية من أكثر اللغات انسجامًا، وهي، لا ريب، مختلفة اللهجات في سورية وجزيرة العرب ومصر والجزائر وغيرها، ولم يكن هذا الاختلاف في غير الأشكال، فترى المراكشي يفهم بسهولة لهجة المصريين أو لهجة سكان جزيرة العرب مثلًا، مع أن سكان القرى الشمالية الفرنسية لا يفهمون كلمةً من لهجات سكان القرى الجنوبية في فرنسة، واسمع ما قاله الرحالة بُرْكُهارْد الذي يُعد حُجَّةً في هذا الموضوع:
تجد اختلافًا كبيرًا، لا ريب، في لهجات اللغة العربية العامية أكثرَ مما في أية لغة أخرى على ما يحتمل، ولكنه لا يصعب عليك أن تفهمها جميعها إذا ما تعلَّمت إحداها، وذلك على الرغم من اتساع البلدان التي يتكلم أهلوها بها، وهي الواقعة بين مدينة مُغَادر (الصُّوَيرة) ومدينة مسقط، وقد يكون لاختلاف طبيعة البلدان تأثيرٌ في اختلاف تلك اللهجات التي هي عذْبةٌ في أودية مصر والعراق الدنيا، وجافَّةٌ في سورية وجبال بلاد البربر، وأعظم فَرْقٍ، كما أعلم، هو ما بين لهجة المغاربة في مراكش ولهجة الأعراب بالقرب من مكة في الحجاز، ولكن هذا الفَرق بين تَيْنِك اللهجتين لا يزيد على اختلاف لَهْجَة فلاحي سوآب (جَنوب ألمانية) عن لهجة فلاحي سكسونية (شمال ألمانية).
ولم تتحوَّل اللغة العربية، إذن، إلا قليلًا منذ زمن مُحَمَّد، ولكنه طرأ تغييرٌ كبير على الخط، فالخط الأول المعروف بالخط الكوفي، الذي رُوِي أنه اختُرع في مدينة الكوفة، كان صَعبَ القراءة لخلوِّه من حروف العلة، فتحوَّل هذا الخط حوالي القرن الثامن من الميلاد بإدخال أصول الشكل والحركات إليه مع المواظبة على استعمال الخط الكوفي في الكتابات، فجَعَلَ هذا من العسير كثيرًا أن يُستدل على قِدَم هذه الكتابات مما عليها من الحروف المنقوشة.
وما قلناه في فصل آخر عن الدين نقول مثله عن اللغة العربية، فمع أن الفاتحين الذين ظهروا قبل العرب لم يستطيعوا أن يَفْرِضوا على الأمم المغلوبة لغاتِهم قَدَرَ العربُ، بالعكس، على فَرض لغتهم عليهم، ولما صارت اللغة العربية عامةً في جميع البلاد التي استولَوا عليها حلَّت محلَّ ما كان فيها من اللغات، كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية … إلخ، وكان للغة العرب مثل ذلك الحظ زمنًا طويلًا، حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، أي ظلت اللغة العربية في بلاد فارسَ لغةَ أهل الأدب والعلم، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية، وكُتِب ما عرفته بلاد فارس من علم الكلام والعلوم الأخرى بلغة العرب، وللغة العربية في هذا الجزء من آسية شأنٌ كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتحل الترك أنفسُهم، وهم الذين قهروا العرب، الخط العربي، ولا تجد في تركية إنسانًا على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة.
ولم يَشِذَّ عن ذلك سوى الأمم اللاتينية الأوربية التي لم تَقُم اللغة العربية مقام لغاتها القديمة، ومع ذلك فإن اللغة العربية ذات أثر عميق في اللغات اللاتينية، وقد ألَّف دوزي وأَنْجِلْمَن مُعجمًا في الكلمات الإسپانية والپرتغالية المشتقَّة من اللغة العربية.
وترَكَت لغة العرب أثرًا مهمًّا في فرنسة نفسِها، وذكر سيديُّو، والحق ما ذكر، «أن اللهجات السائدة لولاية أوڨِرن وولاية ليموزان الفرنسيتين محشوَّةٌ بالكلمات العربية، وأن أسماء الأعلام فيهما ذاتُ مسحة عربية.»
قال هذا المؤلف: ومن الطبيعي أن تقتبس فرنسة وإيطاليا من العرب، الذين كانوا سادة البحر المتوسط منذ القرن الثامن من الميلاد، أكثرَ الاصطلاحات البحرية مثل: Amiral وEscadre وCorvette وFrégate وFlotte وCaravelle وFelouque وChaloupe وSloop وBarque وChiourme وDarse وCalfat وEstacade ولا سيما البوصلة Boussole التي عُزيَ أمرُها إلى أهل الصين على غير حق، وأن تَقْتَبِس جيوشهما ألقابَ ضباط جيوش المسلمين، وتعابير وَغَى الحرب، واستعمال بارود المدافع والقنابل والحرَّاقات والقذائف، وأن تأخذ عن حكومة بغداد وحكومة قرطبة التعابير الإدارية مثل: Syndic وAides وGabelle وTaille وTarif وDouane وBazar، وأن يُقَلِّد ملوك الأسرة الثالثة الفرنسية العرب في شيء فيأخذوا عنهم معظم اصطلاحات الصيد مثل: Chasse وMaute وLaisse وCurée وHallali وCore de Chasse وFanfares، وكذلك كلمة: Tournoi التي عدها علماء اللغة المعاصرون مشتقة من كلمة Torneamentium، وأهم من ذلك كله اصطلاحات العلوم التي اقتبسناها من العرب، فعلم الفلك عندنا مملوء بالتعابير العربية مثل: Azimuts وZénith وNadir، وبالاصطلاحات العربية لأجزاء الأسطرلاب مثل: Alidade وAlancabuth وبأسماء الكواكب مثل: Aldébaran وRigel وAlthair وWéga وAcarnar وAghol، وقل مثل ذلك عن الرياضيات حيث أخذنا عن العرب الاصطلاحات: Chiffres، Zéro وAlgébre إلخ، وقُلْ مِثلِه عن الكيمياء حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات: Alchimie وAlcool وAlcali وAlambic إلخ، وقُل كذلك عن التاريخ الطبيعي والطب حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات: Bol وElixir وSirops وJuleps وSorbet وMirobolans إلخ، والكلمة: Haschich التي اشتُقت منها الكلمة: Assassins.
وزعم مؤلف أحد المعجمات الاشتقاقية الفرنسية الذي أُلِّف حديثًا أن إقامة العرب بجنوب فرنسة لم تُسفر عن أثر، لا في اللهجات، ولا في اللغة، فقلةُ قيمة هذا الرأي تبدو مما قلناه آنفًا، ومن العجيب أن يكرر بعض المثقفين مِثل هذا الزعم.
واللغة العربية غنية جدًّا، وزاد غناها بما أضيف إليها، دائمًا، من التعابير الجديدة التي تسربت فيها من اللهجات التي اتصلت بها، وانظر إلى المعجم الذي ألَّفه ابن سِيده المتوفَّى سنة ١٠٦٥م تجده مشتملًا على عشرين مجلدًا.


- حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى