فكرة شعريّة، ورديّة في البداية، ثمّ رماديّة، ثمّ سوداء.
ومع ذلك هي حقيقيّة أيضا. النهار يعقبه الليل"
جيمس جويس (يوليسيس(
فجأة آكتسحوا كلّ وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة والمقروءة حتى أنني شعرت أن أولئك الرجال ذوي السّحنات العابسة، والجلاّبيات السوداء الطويلة، واللحي الغبراء الشعثاء التي تصل الى الصّدر، يلاحقونني طوال الوقت، فلا يتركونني في راحة بال أبدا. وهاهم معي يمشون في الشوارع الفارغة أو المزدحمة، ويتجوّلون في الحدائق، ويطوفون في المحلاّت التجاريّة المكتظّة، والتي أرتادها بين وقت وآخر لقضاء شؤوني. وها هم معي أيضا في المكتب الرمادي الكئيب بمقرّ عملي في شركة التأمين. وحتى عندما أذهب الى الشاطئ في المساء، لأروّح عن نفسي، ولأشمّ هواء صحيّا مفيدا لرئتيّ اللتين أتعبهما التدخين، أراهم يتبعونني بإلحاح وإصرار وعناد الى أن أضطرّ الى العودة مسرعا الى البيت لاهث ألأنفاس، مرتبك الخطوات، مثقل النّفس يهواجس، وهموم مرعبة. وفي الليل هم يقضّون مضجعي مثلما يفعل البقّ والبعوض في أشهر الصيّف اللاهبة فأظلّ أتقّلب على الشوك حتى طلوع الصباح من دون أن أظفر بغمضة واحدة بينما هو ينهشون لحمي، ويشربون من دمي. وذات ليلة لها وحشة الفلوات التي يقطعها المسافر وحيدا، حلمت أنهم هجموا عليّ وأنا أسير في شوارع ضيّقة فارغة تتكدس فيها أكوام من الفضلات. وفي ركن معتم، عرّوني، وفعلوا بي فعلة شنيغة ليست لي الجرأة الكافية لأروي تفاصيلها، ولا أن أصف بالدقّة اللازمة تفاعلاتها النفسيّة عليّ. نعم يا سادتي…. فعلوا بي تلك الفعلة وأنا نائم بجانب زوجتي الجميلة التي يحسدني عليها زملائي في العمل. وهذا ما تبيّنته من خلال نظراتهم، وحركاتهم، وهمساتهم عندما تأتي لآنتظاري أحيانا أمام مقرّ عملي. ولمّا أفقت من ذلك الكابوس المرعب، وجدتني ملتصقا بها، وكانت حارة مثل الجمرة، وأسفلها عار، وعضوي يلامس كفلها. تململت هي راغبة في أن افعله معها على الريق، مطلقة تلك الوحوحة التي أشتهي سماعها قبل الجماع. غير أن عضوي تضاءل وآنكمش فماآستطعت أن أثيره أبدا. وفي الصباح، لم تقبلني زوجتي مثلما آعتادت ان تفعل، وظلّت تتحاشى النّظر اليّ الى أن غادرت البيت...
وآبنتي الصّغيرة سناء ذات الخمسة أعوام، لم تعد تهرع إليّ سعيدة لتقبّلني عندما تنهض من النّوم، ولم تعد ترتمي في أحضاني عند عودتي من العمل مساء، وأصبحت ترفض رفضا قاطعا أن أحكي لها قصصا شرقيّة قبل النوم، أو أن أصاحبها الى الروضة، أو إلى حديقة الحيوانات، أو حتّى أن ألمسها مجرّد اللّمس. يكفي أن تراني حتّى تفرّ هاربة كما لو أنني وحش في أفلام الرعب. مرات أخرى تقف بعيدا عنّي، وتظلّ تنظر إليّ بريبة وحذر. فلكأنني الغريب الضالّ. فإن أنا حاولت الإقتراب منها، أو التحدث إليها، أطلقت صيحة فزع عالية تجبرني على الكفّ فورا عن محاولاتي تلك، مبتعدا عنها قدر الإمكان. وشيئا فشيئا ساءت علاقتي بزوجتي، وبآبنتي سناء، أعزّ ما عندي في الحياة، فلم أعد أقاسمهما لا الإفطار، ولا طعام الغداء، ولا طعام العشاء. وبمجرّد دخولي الى البيت، ينتابني شعور بأني شخص غير مرغوب فيه. في الليل، تفرّ آبنتي مبكّرا الى غرفتها، وقد فاضت عيناها بحزن أسود. ثمّ لا تلبث زوجتي أن تتركني أيضا. ومن دون كلام أو سلام، تدخل غرفة النوم، وتُحكم غلق الباب وكأنها تريد أن تؤكّد لي أن نومي بجانبها بات أمرا من الماضي البعيد. وهكذا أظلّ وحيدا في الصّالون حتى ساعة متأخّرة من الليل، متجنّبا إشعال التلفزيون خشية أن أشاهدهم وهو يجوبون الفيافي رافعين الرايات السوداء، أو يذبحون رجالا من الوريد الى الوريد أمام عيون أطفالهم ونسائهم، أو يقطعون الرؤوس وهم يهلّلون ويكبّرون، أو يروّعون الناس في المدن والقرى، مُصْدرين فتاوي القتل والتخريب، والسلب والسّبي في أيّ مكان يمرّون به. وقد بذلت جهودا مضنية لكي أنساهم، وأطردهم من دماغي، ومن ذاكرتي غير أني فشلت في ذلك فشلا ذريعا. فهم دائما قدّامي وورائي. وهم على يميني وعلى يساري. لكأنهم ظلّي الذي لا فكاك لي منه.
ولم يتوقّف ألأمر عند هذا الحد، بل راحت أوضاعي تسوء يوما بعد آخر جارّة إيّاي الى مهاوي سحيقة، ومعتمة. ففي مقرّ عملي، لم يعدْ زملائي في العمل يحيّوني بأدب ولطف مثلما آعتادوا أن يفعلوا على مدى السنوات العشر التي أمضيتها معهم في شركة التأمين. فإن آضطرّ أحدهم الى مخاطبتي في شأن من شؤون العمل، آقتصر على التلفّظ بجملة باردة، مختصرة للغاية حتى أني بالكاد أفهم ما يبتغيه منّي. فإن طلبت توضيحا، آنصرف عنّي مردّدا كلاما غامضا قد يكون شتيمة، أو توبيخا. عندئذ ألقي نظرة خاطفة على زملائي آلآخرين فأراهم منكبّين على العمل بتلك الجديّة المصطنعة التي تضاعف من غيضي وآضطرابي فأنصرف وأنا أرجف، وبي رغبة في أن أفرّ هاربا فلا أعود الى الشركة أبدا. لكن من حين الى آخر، أحاول أن أفتح معهم حديثا حول موضوع ما، غير أني لا ألاقي سوى الجفاء الصدود. وفي الحين يشتدّ آرتباكي، ويحمرّ وجهي خجلا وحنقاعليهم وعلى نفسي التي باتت حقيرة مثل نفس متسوّل لا يعبأالناس بتوسّلاته وشكاويه بينما سكاكين الجوع تقرّض أمعاءه. وكم من مرّة أقسمت بأغلظ الأيمان ألاّ أكرّر ذلك البتّة، لكن في اليوم التالي، أقول لنفسي”:Take it easy”. فمن المحتمل أن تعود ألأوقات السعيدة، فيزول الضّيق عن صدري، ويستعيد زملائي في العمل مودّتهم لي، فيتحدثون معي بلطف، ويضحكون عاليا للطرائف التي أرويها لهم. غير أن أملي سرعان ما يتبخّر، ومن جديد أغرق في الهواجس، والمخاوف، وتزداد عزلتي آتساعا. فقط عندما أغادر المكتب لبضع دقائق، يستعيد زملائي زهوهم، وحبّهم للحديث، فتنفجرضحكاتهم عاليا، ولا يكفّون عن ذلك إلاّ عندما يسمعون وقع خطواتي وأنا عائد الى المكتب...
ثمّ أصبحت كوابيسي شبيهة بأفلام الرعب. فكنت أرى أولئك الرجال السّود يغزون المدينة، ويغلقون ألأسواق، والمقاهي، والمطاعم، ويمنعون ألأطفال من الدخول الى المدراس، والرجال من الذهاب الى العمل، مجللّين الساحات والشوارع والحدائق العامة بالسّواد. وعلى جبهة البحر ينتشرون ليحجبوا ألأفق، ثم يخرجون النساء منتشرات الشعور يلطمن، ويبكين أزواجهم، وأبناءهم، وآباءاهم، وأقاربهم... نعم... كنت أرى كلّ هذا صورا مرعبة تتلاحق كما على الشاشة السينمائيّة. ويحدث أن أرى جبالا تتحرّك، وهضابا تتراقص، والسماء تقذف المدينة بعظام الموتى، وألأرض تتشقق فتخرج منها جثث متعفّنة،، ورؤوس مقطوعة، والجراد يهجم مثل السّحب الدهماء فيأتي على كلّ الغلاّت، وألأشجار، والنبات فإذا ألأرض صحراء جدباء ليس عليها إنس ولا حيوان. ومرّات أسمع صيحة عظيمة فأفيق ناشف الريق، وجسدي كأنه نار... وبطبيعة الحال توقظ صرخات فزعي زوجتي وآبنتي فأجد نفسي ذليلا أمامها كما لو أنني آرتبكت ذنبا شنيعا لا يمكن أن يغتفر. ولم تتحمّل زوجتي ذلك لذا أخذت تهدّدني بالطرد من البيت خوفا على نفسها، وعلى "آبنتها" مني!
**
في يوم عيد ميلادي الثامن والثلاثين، ذهبت الى مقرّ عملي تحت مطر غزير بارد. وصلت الى هناك مبلّلا وحزينا إذ أن زوجتي لم تكلّف نفسها حتى بتهنئتي بكلمات باردة، ومحايدة. حالما دخلت المكتب، رنّ الهاتف. رفعت السمّاعة وانا أرجف من خوف لا أدري سببه وإذا بالسكرتيرة سهام اللعوب التي يحلم الجميع بمضاجعتها تقول لي بصوت جافّ بإن رئيسي في العمل يرغب في التحدّث اليّ بعد نصف ساعة. وضعت السمّاعة، وبدأت أقلّب في الملفّ الذي أمامي وقد آمتدّت الرجفة الى كامل جسدي. ورغم أنني حاولت أن أقنع نفسي بأن ألأمر لا يعدو أن يكون عاديّا، بل قد تكون هناك ترقية في آنتظاري، فإنّ الخوف طوّقني حتى أحسست بأني أخنق بحبل غليظ. متخبّطا في هذا الوضع السيّئ للغاية، صعدتّ الى الطابق الثالث وكأني أقاد الى المشنقة. والتحيّة الفاترة التي ألقتها عليّ السكرتيرة سهام وهي تتحاشى النظر إليّ، زادت في تعكير مزاجي. آستقبلني رئيسي في العمل بشيء من االلطف. طلب لي قهوة، ثم راح يسألني عن أحوالي وأحوال عائلتي الصغيرة. أجبت على أسئلته بآقتضاب شديد. بعدها تفحّصني مليّا، ثمّ قال وقد بدا جديّا، صارما مثلما هو حاله في المواقف والاجتمعات الرسميّة:
- يا سيّد منصور... أنت تغيّرت كثيرا في الفترة ألأخيرة... أليس كذلك؟
لم أفهم ما يقصد بكلامه هذا. لذا بقيت صامتا أحدق فيه مثلما يحدق المتهم في قاض طرح عليه سؤالا شتّت ذهنه فلم يعد يدري كيف يجيب عليه.
أضاف هو وقدآزدادت ملامحه جديّة وصرامة:
- نعم يا سيّد منصور.... لقد تغيّرت كثيرا... ولا أخفي عليك أن التقارير التي رفعت إليّ تتفق جميعها على أن مردودك في العمل أصبح سيئا للغاية. كما تشير هذه التقارير الى أنك تقضي وقتا طويلا في قضم أظافرك، وفي الهمهمة والغمغمة.. يل وتهذي أحيانا بكلام لا يفقهه أحد من زملائك.... وفي أسبوع واحد تأخرت عن القدوم الى العمل أربع مرّات متتاليات... وحدث أن خرجت من المكتب قبل الوقت المحدّد من دون أن تحصل على آستئذان من أيّ أحد...
تراجع بجذعه الى الوراء. للحظات ظلّ يتتمعن فيّ ، ثم بشيئ من اللطف قال لي:
- هل هناك أمر يشغلك يا سيّد منصور؟
أرعبني كلامه فما تمكّنت من أن أنطق بحرف واحد!
لانت ملامحه. سمعنه يقول برقّة ولطف:
- يا سيّد منصور... لقد كنت موظّفا مثاليّا... وعلى مدى العشرة اعوام التي أمضيها هنا لم يأت منك إلاّ ما يبهج ويسرّ... وأنت تعلم جيّدا أنني نوّهت بخصالك وبمواظبتك على العمل العديد من المرأت... ليس في الخفاء وإنما أمامك وأمام زملائك... لكن في هذه المرّة أعتقد أنه يتوجّب عليّ تحذيرك قبل فوات ألأوان!
آستجمعت قواي. وباذلا أقصى ما في وسعي للدفاع عن نفسي، قلت لرئيسي في العمل:
- سيّدي.. أقسم بالله العليّ العظيم أن ما ورد في التقارير ليس صحيحا على الإطلاق... فأنا أعمل بنفس الجديّة، وبنفس الإخلاص مثلما كان ألأمر في السابق... وأبدا لم أدخل المكتب متأخرا، ولم أخرج منه قبل الساعة السادسة... لذا أقدر أن اقول بإنّ ماورد في التقارير هو مجرّد وشايات مغرضة!
مستعيدا جديته وصرامته، ردّ عليّ المدير قائلا:
- أنت تعلم، والجميع يعلمون يا سيّد منصور، أنني لا أعير آهتماما يذكر للنميمة والوشايات... هذا هو مبدئي في العمل منذ أن أصبحت على رأس هذه الشركة.. وسأظلّ على هذا المبدأ حتى النهاية... ومن دون الدخول في التفاصيل، أنصحك يا سيّد منصور أن تأخذ تحذيري مأخذ الجد... وما أتمناه هو أن تعود كما كنت من قبل!
نهض المدير. صافحني بحرارة. عدتّ الى المكتب. حالما دخلت، آنقطع زملائي عن الحديث، ليعودوا الى صمتهم ووجومهم. حشرت رأسي في الملفّات المكدّسة أمامي، وغرقت في العمل!
غادرت المكتب، ومشيت تحت المطر المتهاطل بغزارة. البرد لاذع، والإزدحام شديد، والسيّارت تزعق عاليا، والفوضى لا تحتمل. وهاربا من كلّ هذا، هرعت الى بار "القرصان" المواجه للبحر راغبا في شرب كأس قد يخفّف من توتّري وهمومي. غير أن الجرسون الملقّب ب"شمشون"، والمشهور بشراسته، منعني من الدخول. ولمّل سألته عن السّب، ضيّق ما بين عينيه، وصاح فيّ والشرّ باد على ملامحه:
- أنسيت ما فعلت قبل يومين؟
- وماذا فعلت؟
-هل تستبلهني أم فقدتّ الذاكرة؟
- لا هذا ولا ذاك!
- وإذا كيف لا تتذكر ما فعلت هنا قبل يومين؟
- وماذا فعلت؟
ظلّ ينظر اليّ حانقا، ثم قال:
- قبل يومين شربت كأسين ثم شرعت تتفوّه بكلام بذيئ، وقلبت الطاولة، ولم أخرجك من البار إلاّ بصعوية... لذا من ألأفضل ألاّ تعود إلى هنا أبدا!
- عجيا هل فعلت هذا حقّا؟
- فعلت أكثر من هذا …. غير أني لا أريد أن أطيل الحديث معك. لذا من ألأفضل أن تنصرف حينا قبل أن يصعد الدم إلى رأسي فأفعل بك فعلة لن تنساها أبدا !
آنصرفت ذليلا صاغرا. ما الذي حدث يا ترى؟حياتي تفسد وتتعفّن. أعدائي يتكاثرون. وحائط من الجفاء يفصل بيني وبين زوجتي، وآبنتي، أعزّ ما عندي في الحياة. ويوما مّا سأجد نفسي وحيدا بلا سند، ويلا صديق. وربما من دون عمل ولا مأوى. كلّ هذا ممكن. فأصحاب الجلاّبيّات والرايات السوداء يتعقّبون خطاي، ويسمّمون دمي، ويلقون بي في مغاور مظلمة، ويلوّثون روحي. وها أنا كائن عدوانيّ، فظّ الطباع، صعب المعشر، يذيء اللسان. وقد أجهدتّ نفسي أكثر من مرّة للتخلّص منه، غير أني منيت بفشل ذريع. فهم أقوياء. وكلّ شيء يشير إلى أنهم سوف يزدادون قوّة وجبروتا. حتى القوى العظمى آحتارت في أمرهم، وعجزت عن دحرهم. وآلآن هم أشباح سوداء تلاحقني في النهار كما في الليل. ماذا سأفعل؟هل أعود الى البيت حيث ينتظرني الجفاء والصدود؟... لا... لا... ألأفضل أن أفعل ذلك بعد أن تغرق زوجتي وآبنتي في النوم. وعليّ أن أكون شديد اليقظة والحذر حتى لا أتسبب في حصول ما حدث قبل نحو أسبوع على ما أظن. فقد وصلت الى البيت بعد منتصف الليل. ومن دون أن أشعل الضّوء، رحت أتلمّس طريقي في الظلام. لكن فجأة هزّت البيت رجّة عنيفة. تسمّرت في مكاني وقد آستبدّ بي رعب شديد. بعد لحظات قليلة، آشتعل الضوء، وإذا بالمزهريّة البديعة فتاتا على ألأرض. أمام غرفة النوم، كانت زوجتي تقف منفوشة الشعر، وعيناها محمرّتان من الغضب. ثمّ لم تلبث أن آنخرطت في الصراخ والعويل نادبة حظّها العاثر، وحياتها الشقيّة. أمّا أنا فقد ظللت جامدا في مكاني مثل لصّ ضبط متبّسل بجريمة!
خفّت الحركة في المدينة. أغلقت المحلاّت التجاريّة أبوابها. لكن المطر لم يكفّ عن الهطول. دخلت بار "السعادة" فوجدتّه مزدحما بالزيائن. جمبعهم يشربون، ويدخنون بنهم متبادلين الطرائف بأصوات عاليه. بين وقت وآخر ينفجرون ضاحكين، ضاربين ألأرض بأقدامهم... طلبت بيرة ورحت أشرب على الكونتوارمتمعّنا في الوجوه المتلاطمة أمامي كألأمواج. ثم لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك. ما يمكنني قوله هو أنني وجدتّ نفسي في دائرة ألأمن، وحولي ثلاث رجال شرطة يستجوبونني عن دواعي أفعال شغب قمت بها في بار "السعادة". وقد ذكروا أني صفعت الجرسون، وكسّرت كؤوسا، وشتمت زبائن، وبصقت على أحدهم، بل وسببت الجلالة، وتفوّهت بكلام بذيء...
- المعذرة أيها السادة... ولكني لا أتذكر شيئا مما ذكرتم!
مدّوا رؤوسهم بآتجاهي وقالوا بصوت واحد:
- وهل نحن نكذب عليك؟
- لا.. لا... لا أقصد ذلك ولكن صدقوني أنافعلا لا أتذكرشيئا ممّا ذكرتم!
تبادلوا النظرات. ثم قال لي من بدا لي أنهم رئيسهم:
- أنا أعرفك جيّدا يا سيّد منصور... وأعرف أنك رجل لطيف وبلا مشاكل.. لذا آستغربت أن تقدم على القيام بأفعال كهذه يمكن أن تقودك الى السجن!
- أيها السادة الكرام.. أجدّد لكم آعتذاري على ما صدر منّي... وأؤكد لكم ان ألأمر لن يتكرّر أبدا!
- أنت تعترف إذن بأنك قمت بأعمال شغب... أليس كذلك!
- المعذرة أيها السادة!
تبادلوا النظرات من جديد. ثم قال لي من بدا لي أنه رئيسهم:
- أوكي يا سيد منصور... نحن نتقبل آعتذارك وآلآن بإمكانك أن تعود الى بيتك.. وننصحك بعدم الذهاب الى البارات مستقبلا!
- شكرا أيها السادة الكرام!
عدتّ الى البيت في الساعة الواحدة صباحا. عندما آستيقظت، وجدتّ نفسي ممدّدا على الكنبة بكامل ثيابي. غير بعيد عنّي، كانت زوجتي وآبنتي سناء تنظران اليّ بآشمئزار كما لو انني كلب سائب، نتن الرائحة، تسرّب الى البيت في غفلة منهما!
**
راحت أحوالي تزداد سوءا يوما بعد آخر. ومع الناس بجميع أصنافهم كثرت خصوماتي. وفي الشركة قدّمت لي السكرتيرة قائمة بدلائل تثيت أنني أصبحت أتأخر يوميّا في القدوم الى العمل، وأنني لا أكاد أفعل شيئا في المكتب غير قضم أظافري، والحملقة في زملائي، والتلفظ بكلمات غريبة لا يفقه أحد معناها، والضحك من دون موجب... وختمت حديثها قائلة بإن رئيسي في العمل ينصحني بالراحة لمدة أسبوعين عسى أن تتحسّن حالتي فأعود الى سالف نشاطي وحيويتي...
شكرتها وخرجت. تهت في شولرع المدينة العتيقة المملوءة بأكداس الفضلات، وبالقطط، والعجائز. ورغم أن السّماء كانت صافية، والشمس مشرقة فإن البرد كان قارسا، ينفذ الى العظام. سألت نفسي أكثر من مرّة:ماذا سأفعل خلال ألأسبوعين القادمين؟هل أذهب الى قريتي هناك في أحراش وسط البلاد، والتي لم أزرها منذ أعوام عدّة؟لا... لا... لن أفعل ذلك... فمن وفاة والديّ، لم أعد قادرا على تحمّل الخصومات المتتالية بين إخوتي ألأربعة. وغالبا ما تندلع هذه الخصومات لأسباب تافهة تتعلق ببقرة، أو بشجرة زيتون، أو حتى بدجاجة. وفي كلّ خصومة، يتبادلون الشتائم بأصوات عالية، شاهرين الهراوات في الهواء. بل يتشابكون بألأيدي حتى تسيل الدماء. وأعتقد أن السبب الحقيقي لكلّ هذا هو أن دماء القبائل القديمة التي كانت تتناحر وتتقاتل طوال الوقت لا تزال تجري حارّة في عروقهم. وإذا ما ذهبت إلى هناك فسيرتابون في أمري، وسيظنون أني جئت طامعا في شيء ما. لذا سيتّحدون ضدّي لكي أعود من حيث أتيت بأقصى السرعة... لا... لا... لن أذهب الى قريتي !هل أذهب الى العاصمة؟هذه فكرة غيرمحمودة العواقب أيضا. فالحركة هناك محمومة، والناس لا يكفّون عن الركض، والتنافس، والتناحر. الواحد منهم قادر على أن يختطف منك اللقمة حتى قبل أن تصل الى فمك. لذا من ألأفضل أن أبقى هنا في هذه المدينة الشماليّة التي ألفتها، وفيها غرست جذوري. المهم هو أن أعدّ برنامجا جيّدا يملأ أيّامي وليالي فلا أحس بالوحدة، ولا بالضجر، ولا بالإحباط. المهم أيضا هو أن أبذل كلّ ما في وسعي لآستعادة علاقتي الحميمة بزوجتي، وبآبنتي. من دون ذلك سأظلّ قلقا مهموما، وستظلّ ألأشباح السوداء تطاردني، وتنغّص حياتي، وتضاعف من همومي ومن آلآمي. .. آه... كم أتمنى أن أدخل الى البيت فأجد زوجتي سعيدة ضاحكة فأقبلها، وأهمس لها بكلام عذب يزيدها جمالا وتألّقا. ثمّ لا تلبث آبنتي أن ترتمي في أحضاني فأعانقها، وأدسّ في جيبها قطعا من الشوكولاطة. بعد العشاء، أروي لها قصصا شرقيّة، وأواصل ذلك الى أن يحملها النوم الى عالم ألأحلام الجميلة. عندئذ ألتحق بزوجتي في غرفة النوم لأجدها وقد هيأت نفسها لي كما فعلت في ليلة الدخول... آه... كم سأكون سعيدا عندما تعود أوقات الصفاء والهناء التي وسمت حياتي على مدى سنوات مديدة!
قذفت بي المدينة العتيقة الى البحر فوجدتني أتأمّل مفتونا ومأخوذا المشاهد الرائعة، وألألوان البديعة التي تبدّت أمامي بينما كانت الشمس تغرب على قمم الهضاب الغربيّة. آبتهجت نفسي، وغمر النور قلبي وروحي. لبضع لحظات أحسست أن أيّام الوحدة القاسية، والهواجس المرعبة قد ولّت وإلى ألأبد. فجأة برز أمامي ميهوب معتمرا كاسكبتة زرقاء، ومرتديا قميصا من نفس اللون، وبنطلون دجينز، ومنتعلا حذاء رياضيّا أبيض من نوع "أديداس". لم أستغرب وجوده هناك إذ أنه من عشاق البحر في كلّ الفصول. وهو قليل الكلام، ودائما وحيد. وقد سمعت أهل المدينة الشماليّة يروون عنه حكايات غريبة. وهم يقولون بإنه هاجر الى أوروبا وهو في الثامنة عشرة من عمره. وهناك أمضى ما يقارب الثلاثين عاما قاطعا الإتّصال بأيّ فرد من أفراد عائلته. ومع مرور الزّمن نساه الجميع، وما عاد يذكره أحد. لكن ذات خربف، ظهر من جديد وقد آشتعل رأسه شيبا، وحفرت سنوات الغربة الطويلة ندويا على ملامحه. وفي عينيه الزرقاوين لمع بريق يختصّ به المتوحّدون بأنفسهم. فلّما أراد البعض من أقاربه التقرّب منه، فرّ منهم ليسكن بيتا متداعيا في الغابة، قريبا من البحر. وأنا آلتقيت به العديد من المرات. ومعه تحدثت في مواضيع مختلفة لكن لوقت قصير دائما. ومرة حاولت أن أتعرف على شيء من حياته الخاصة فآربدّت ملامحه. وبخطى وئيدة آبتعد عنّي وهو يهمهم غاضبا. وكان عليّ أن أعتذر له اكثر من مرّة لكي أستعيد علاقتي معه...
من دون أن يردّ على تحيّتي، قال ميهوب بصوت حزين:
- الحياة فسدت... والعلم كلّه فسد... أليس كذلك؟
ثمّ أضاف وهو يتأمّل البحر الذي أظلم أمامنا:
- نعم الحياة فسدت... والعالم كلّه فسد... وربما لن يطول الزمن لكي لا ينعم الإنسان بجمال الطبيعة التي تدمّر تدميرا منهجيّا. وألأغنياءوالفقراء يشتركون في ذلك. وبسبب كلّ هذا سوف تمحى الغابات من والوجود، وتختفي البساتين والحدائق فتصبح ألأرض جرداء قاحلة مثل صحراء الربع الخالي. وسوف ينعدم الهواء النقيّ فيموت الناس واقفين، وتجفّ ألأنهار والبحيرات، وتتحول البحار والمحيطات الى مستنقعات راكدة، نتنة الرائحة، ولا سمك فيها. ,,نعم كلّ هذا سيحصل.. والشيء الذي يثير غضبي وآمتعاضي هو أن أهل السياسة والفكر في الدول الكبيرة والغنيّة لا يزالون يمجدون ما يسمّونه ب"التقدم العلمي والتكنولوجي" غير عابئين بالخراب الذي يحدث في كلّ مكان من العالم. وها محاكم التفتيش تعود. ومن جديد تحرق الكتب، ويذبح الشعراء. وأما الحشّاشون الذين حسبنا انهم آنقرضوا فقد ظهروا مرة أخرى مسلحين بحقد أعمى، وبشراسة وعدوانيّة لم يسبق لهما مثيل. وها هم ينشرون الموت والرعب في كلّ مكان من ألأرض فلا يكاد يسلم من شرّهم أحد...
أرعبني كلامه فآبتعدت عنه وأنا أرجف. وأنا لا أتذكر ماذافعلت بعد ذلك. لكن عندما آستعدتّ وعيي وجدتّ نفسي ممدّدا في فراش وقد وضعت ضمّادات على أجزاء مختلفة من جسدي. وكل شيء من حولي يدلّ على أنني في المستشفى. ماذا حدث يار ترى؟هل دهستني سيّارة؟هلى هاجمني غرباء على الشاطئ؟هلى تخاصمت مع أحد ما الحانة؟.. وكانت هذه الأسئلة تدورفي ذهني لمّا دخل أربعة من رجال الشرطة. سلّموا عليّ ببرود، ثم جلسوا حول السرير:آثنان على اليمين وآثنان على اليسار. طرح عليّ الذي بدا لي انه رئيسهم أسئلة تتعلق بما قمت به خلال اليوم السابق فحدثتهم عن لقائي بميهوب من دون أن أشير الى ما قاله خلال لقائي به. مدّ الشرطيّ رأسه بآتجاهي وسألني:
- هل تعلم يا سيّد منصور ماذا فعلت البارحة؟
- لا أعلم سيدي!
- لقد هجمت على زوجتك بسكين ولولا الجيران الذين تدخلوا في الوقت المناسب لكنت قتلتها!
أطلقت صيحة فزع عالية، وتململت راغبا في القفز من الفراش، غير أن رجال الشرطة سمّروني في مكاني... أجهشت بالبكاء وسمعت الشرطي يقول لي:
- آهدأ يا سيد منصور... آهدأ رجاء.. فنحن لا نريد سوى مساعدتك!
- لكن كيف ولماذا فعلت هذا؟ قلت والدموع تكاد تخنقني
- نحن لا ندري يا سيد منصور... كل ما نعلم هو أننا عندما وصلنا الى بيتك وجدناك هائجا، تطلق كلاما بذيئا، وتلعن الجيران.. أما آبنتك فقد أغمي عليها من فرط الرعب!
واصلت البكاء بحرقة. ولما خفّ بكائي قال لي الشرطيّ:
- لا بدّ أن تهدأ يا سيّد منصور حتى تساعد ألأطباء على انقاذك من ألأزمة النفسيّة الحادة التي تعاني منها منذ أشهر عدة...
- أنا انسان سليم !قلت وانا أمسح دموعي
- لا... لست سليما يا سيد منصور... وجميع أفعلك وتصرفاتك تدلّ على أنك لست على ما يرام على المستوى النفسي... لذا ننصحك بأن تهدأ وإلاّ فإن حياتك سوف تسوء... وآلآن علينا أن ننصرف... وأملنا أن تستعيد عافيتك في أقرب وقت ممكن!
آنصرفوا، وبقيت وحيدا في البياض...
* الحمامات
ومع ذلك هي حقيقيّة أيضا. النهار يعقبه الليل"
جيمس جويس (يوليسيس(
فجأة آكتسحوا كلّ وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة والمقروءة حتى أنني شعرت أن أولئك الرجال ذوي السّحنات العابسة، والجلاّبيات السوداء الطويلة، واللحي الغبراء الشعثاء التي تصل الى الصّدر، يلاحقونني طوال الوقت، فلا يتركونني في راحة بال أبدا. وهاهم معي يمشون في الشوارع الفارغة أو المزدحمة، ويتجوّلون في الحدائق، ويطوفون في المحلاّت التجاريّة المكتظّة، والتي أرتادها بين وقت وآخر لقضاء شؤوني. وها هم معي أيضا في المكتب الرمادي الكئيب بمقرّ عملي في شركة التأمين. وحتى عندما أذهب الى الشاطئ في المساء، لأروّح عن نفسي، ولأشمّ هواء صحيّا مفيدا لرئتيّ اللتين أتعبهما التدخين، أراهم يتبعونني بإلحاح وإصرار وعناد الى أن أضطرّ الى العودة مسرعا الى البيت لاهث ألأنفاس، مرتبك الخطوات، مثقل النّفس يهواجس، وهموم مرعبة. وفي الليل هم يقضّون مضجعي مثلما يفعل البقّ والبعوض في أشهر الصيّف اللاهبة فأظلّ أتقّلب على الشوك حتى طلوع الصباح من دون أن أظفر بغمضة واحدة بينما هو ينهشون لحمي، ويشربون من دمي. وذات ليلة لها وحشة الفلوات التي يقطعها المسافر وحيدا، حلمت أنهم هجموا عليّ وأنا أسير في شوارع ضيّقة فارغة تتكدس فيها أكوام من الفضلات. وفي ركن معتم، عرّوني، وفعلوا بي فعلة شنيغة ليست لي الجرأة الكافية لأروي تفاصيلها، ولا أن أصف بالدقّة اللازمة تفاعلاتها النفسيّة عليّ. نعم يا سادتي…. فعلوا بي تلك الفعلة وأنا نائم بجانب زوجتي الجميلة التي يحسدني عليها زملائي في العمل. وهذا ما تبيّنته من خلال نظراتهم، وحركاتهم، وهمساتهم عندما تأتي لآنتظاري أحيانا أمام مقرّ عملي. ولمّا أفقت من ذلك الكابوس المرعب، وجدتني ملتصقا بها، وكانت حارة مثل الجمرة، وأسفلها عار، وعضوي يلامس كفلها. تململت هي راغبة في أن افعله معها على الريق، مطلقة تلك الوحوحة التي أشتهي سماعها قبل الجماع. غير أن عضوي تضاءل وآنكمش فماآستطعت أن أثيره أبدا. وفي الصباح، لم تقبلني زوجتي مثلما آعتادت ان تفعل، وظلّت تتحاشى النّظر اليّ الى أن غادرت البيت...
وآبنتي الصّغيرة سناء ذات الخمسة أعوام، لم تعد تهرع إليّ سعيدة لتقبّلني عندما تنهض من النّوم، ولم تعد ترتمي في أحضاني عند عودتي من العمل مساء، وأصبحت ترفض رفضا قاطعا أن أحكي لها قصصا شرقيّة قبل النوم، أو أن أصاحبها الى الروضة، أو إلى حديقة الحيوانات، أو حتّى أن ألمسها مجرّد اللّمس. يكفي أن تراني حتّى تفرّ هاربة كما لو أنني وحش في أفلام الرعب. مرات أخرى تقف بعيدا عنّي، وتظلّ تنظر إليّ بريبة وحذر. فلكأنني الغريب الضالّ. فإن أنا حاولت الإقتراب منها، أو التحدث إليها، أطلقت صيحة فزع عالية تجبرني على الكفّ فورا عن محاولاتي تلك، مبتعدا عنها قدر الإمكان. وشيئا فشيئا ساءت علاقتي بزوجتي، وبآبنتي سناء، أعزّ ما عندي في الحياة، فلم أعد أقاسمهما لا الإفطار، ولا طعام الغداء، ولا طعام العشاء. وبمجرّد دخولي الى البيت، ينتابني شعور بأني شخص غير مرغوب فيه. في الليل، تفرّ آبنتي مبكّرا الى غرفتها، وقد فاضت عيناها بحزن أسود. ثمّ لا تلبث زوجتي أن تتركني أيضا. ومن دون كلام أو سلام، تدخل غرفة النوم، وتُحكم غلق الباب وكأنها تريد أن تؤكّد لي أن نومي بجانبها بات أمرا من الماضي البعيد. وهكذا أظلّ وحيدا في الصّالون حتى ساعة متأخّرة من الليل، متجنّبا إشعال التلفزيون خشية أن أشاهدهم وهو يجوبون الفيافي رافعين الرايات السوداء، أو يذبحون رجالا من الوريد الى الوريد أمام عيون أطفالهم ونسائهم، أو يقطعون الرؤوس وهم يهلّلون ويكبّرون، أو يروّعون الناس في المدن والقرى، مُصْدرين فتاوي القتل والتخريب، والسلب والسّبي في أيّ مكان يمرّون به. وقد بذلت جهودا مضنية لكي أنساهم، وأطردهم من دماغي، ومن ذاكرتي غير أني فشلت في ذلك فشلا ذريعا. فهم دائما قدّامي وورائي. وهم على يميني وعلى يساري. لكأنهم ظلّي الذي لا فكاك لي منه.
ولم يتوقّف ألأمر عند هذا الحد، بل راحت أوضاعي تسوء يوما بعد آخر جارّة إيّاي الى مهاوي سحيقة، ومعتمة. ففي مقرّ عملي، لم يعدْ زملائي في العمل يحيّوني بأدب ولطف مثلما آعتادوا أن يفعلوا على مدى السنوات العشر التي أمضيتها معهم في شركة التأمين. فإن آضطرّ أحدهم الى مخاطبتي في شأن من شؤون العمل، آقتصر على التلفّظ بجملة باردة، مختصرة للغاية حتى أني بالكاد أفهم ما يبتغيه منّي. فإن طلبت توضيحا، آنصرف عنّي مردّدا كلاما غامضا قد يكون شتيمة، أو توبيخا. عندئذ ألقي نظرة خاطفة على زملائي آلآخرين فأراهم منكبّين على العمل بتلك الجديّة المصطنعة التي تضاعف من غيضي وآضطرابي فأنصرف وأنا أرجف، وبي رغبة في أن أفرّ هاربا فلا أعود الى الشركة أبدا. لكن من حين الى آخر، أحاول أن أفتح معهم حديثا حول موضوع ما، غير أني لا ألاقي سوى الجفاء الصدود. وفي الحين يشتدّ آرتباكي، ويحمرّ وجهي خجلا وحنقاعليهم وعلى نفسي التي باتت حقيرة مثل نفس متسوّل لا يعبأالناس بتوسّلاته وشكاويه بينما سكاكين الجوع تقرّض أمعاءه. وكم من مرّة أقسمت بأغلظ الأيمان ألاّ أكرّر ذلك البتّة، لكن في اليوم التالي، أقول لنفسي”:Take it easy”. فمن المحتمل أن تعود ألأوقات السعيدة، فيزول الضّيق عن صدري، ويستعيد زملائي في العمل مودّتهم لي، فيتحدثون معي بلطف، ويضحكون عاليا للطرائف التي أرويها لهم. غير أن أملي سرعان ما يتبخّر، ومن جديد أغرق في الهواجس، والمخاوف، وتزداد عزلتي آتساعا. فقط عندما أغادر المكتب لبضع دقائق، يستعيد زملائي زهوهم، وحبّهم للحديث، فتنفجرضحكاتهم عاليا، ولا يكفّون عن ذلك إلاّ عندما يسمعون وقع خطواتي وأنا عائد الى المكتب...
ثمّ أصبحت كوابيسي شبيهة بأفلام الرعب. فكنت أرى أولئك الرجال السّود يغزون المدينة، ويغلقون ألأسواق، والمقاهي، والمطاعم، ويمنعون ألأطفال من الدخول الى المدراس، والرجال من الذهاب الى العمل، مجللّين الساحات والشوارع والحدائق العامة بالسّواد. وعلى جبهة البحر ينتشرون ليحجبوا ألأفق، ثم يخرجون النساء منتشرات الشعور يلطمن، ويبكين أزواجهم، وأبناءهم، وآباءاهم، وأقاربهم... نعم... كنت أرى كلّ هذا صورا مرعبة تتلاحق كما على الشاشة السينمائيّة. ويحدث أن أرى جبالا تتحرّك، وهضابا تتراقص، والسماء تقذف المدينة بعظام الموتى، وألأرض تتشقق فتخرج منها جثث متعفّنة،، ورؤوس مقطوعة، والجراد يهجم مثل السّحب الدهماء فيأتي على كلّ الغلاّت، وألأشجار، والنبات فإذا ألأرض صحراء جدباء ليس عليها إنس ولا حيوان. ومرّات أسمع صيحة عظيمة فأفيق ناشف الريق، وجسدي كأنه نار... وبطبيعة الحال توقظ صرخات فزعي زوجتي وآبنتي فأجد نفسي ذليلا أمامها كما لو أنني آرتبكت ذنبا شنيعا لا يمكن أن يغتفر. ولم تتحمّل زوجتي ذلك لذا أخذت تهدّدني بالطرد من البيت خوفا على نفسها، وعلى "آبنتها" مني!
**
في يوم عيد ميلادي الثامن والثلاثين، ذهبت الى مقرّ عملي تحت مطر غزير بارد. وصلت الى هناك مبلّلا وحزينا إذ أن زوجتي لم تكلّف نفسها حتى بتهنئتي بكلمات باردة، ومحايدة. حالما دخلت المكتب، رنّ الهاتف. رفعت السمّاعة وانا أرجف من خوف لا أدري سببه وإذا بالسكرتيرة سهام اللعوب التي يحلم الجميع بمضاجعتها تقول لي بصوت جافّ بإن رئيسي في العمل يرغب في التحدّث اليّ بعد نصف ساعة. وضعت السمّاعة، وبدأت أقلّب في الملفّ الذي أمامي وقد آمتدّت الرجفة الى كامل جسدي. ورغم أنني حاولت أن أقنع نفسي بأن ألأمر لا يعدو أن يكون عاديّا، بل قد تكون هناك ترقية في آنتظاري، فإنّ الخوف طوّقني حتى أحسست بأني أخنق بحبل غليظ. متخبّطا في هذا الوضع السيّئ للغاية، صعدتّ الى الطابق الثالث وكأني أقاد الى المشنقة. والتحيّة الفاترة التي ألقتها عليّ السكرتيرة سهام وهي تتحاشى النظر إليّ، زادت في تعكير مزاجي. آستقبلني رئيسي في العمل بشيء من االلطف. طلب لي قهوة، ثم راح يسألني عن أحوالي وأحوال عائلتي الصغيرة. أجبت على أسئلته بآقتضاب شديد. بعدها تفحّصني مليّا، ثمّ قال وقد بدا جديّا، صارما مثلما هو حاله في المواقف والاجتمعات الرسميّة:
- يا سيّد منصور... أنت تغيّرت كثيرا في الفترة ألأخيرة... أليس كذلك؟
لم أفهم ما يقصد بكلامه هذا. لذا بقيت صامتا أحدق فيه مثلما يحدق المتهم في قاض طرح عليه سؤالا شتّت ذهنه فلم يعد يدري كيف يجيب عليه.
أضاف هو وقدآزدادت ملامحه جديّة وصرامة:
- نعم يا سيّد منصور.... لقد تغيّرت كثيرا... ولا أخفي عليك أن التقارير التي رفعت إليّ تتفق جميعها على أن مردودك في العمل أصبح سيئا للغاية. كما تشير هذه التقارير الى أنك تقضي وقتا طويلا في قضم أظافرك، وفي الهمهمة والغمغمة.. يل وتهذي أحيانا بكلام لا يفقهه أحد من زملائك.... وفي أسبوع واحد تأخرت عن القدوم الى العمل أربع مرّات متتاليات... وحدث أن خرجت من المكتب قبل الوقت المحدّد من دون أن تحصل على آستئذان من أيّ أحد...
تراجع بجذعه الى الوراء. للحظات ظلّ يتتمعن فيّ ، ثم بشيئ من اللطف قال لي:
- هل هناك أمر يشغلك يا سيّد منصور؟
أرعبني كلامه فما تمكّنت من أن أنطق بحرف واحد!
لانت ملامحه. سمعنه يقول برقّة ولطف:
- يا سيّد منصور... لقد كنت موظّفا مثاليّا... وعلى مدى العشرة اعوام التي أمضيها هنا لم يأت منك إلاّ ما يبهج ويسرّ... وأنت تعلم جيّدا أنني نوّهت بخصالك وبمواظبتك على العمل العديد من المرأت... ليس في الخفاء وإنما أمامك وأمام زملائك... لكن في هذه المرّة أعتقد أنه يتوجّب عليّ تحذيرك قبل فوات ألأوان!
آستجمعت قواي. وباذلا أقصى ما في وسعي للدفاع عن نفسي، قلت لرئيسي في العمل:
- سيّدي.. أقسم بالله العليّ العظيم أن ما ورد في التقارير ليس صحيحا على الإطلاق... فأنا أعمل بنفس الجديّة، وبنفس الإخلاص مثلما كان ألأمر في السابق... وأبدا لم أدخل المكتب متأخرا، ولم أخرج منه قبل الساعة السادسة... لذا أقدر أن اقول بإنّ ماورد في التقارير هو مجرّد وشايات مغرضة!
مستعيدا جديته وصرامته، ردّ عليّ المدير قائلا:
- أنت تعلم، والجميع يعلمون يا سيّد منصور، أنني لا أعير آهتماما يذكر للنميمة والوشايات... هذا هو مبدئي في العمل منذ أن أصبحت على رأس هذه الشركة.. وسأظلّ على هذا المبدأ حتى النهاية... ومن دون الدخول في التفاصيل، أنصحك يا سيّد منصور أن تأخذ تحذيري مأخذ الجد... وما أتمناه هو أن تعود كما كنت من قبل!
نهض المدير. صافحني بحرارة. عدتّ الى المكتب. حالما دخلت، آنقطع زملائي عن الحديث، ليعودوا الى صمتهم ووجومهم. حشرت رأسي في الملفّات المكدّسة أمامي، وغرقت في العمل!
غادرت المكتب، ومشيت تحت المطر المتهاطل بغزارة. البرد لاذع، والإزدحام شديد، والسيّارت تزعق عاليا، والفوضى لا تحتمل. وهاربا من كلّ هذا، هرعت الى بار "القرصان" المواجه للبحر راغبا في شرب كأس قد يخفّف من توتّري وهمومي. غير أن الجرسون الملقّب ب"شمشون"، والمشهور بشراسته، منعني من الدخول. ولمّل سألته عن السّب، ضيّق ما بين عينيه، وصاح فيّ والشرّ باد على ملامحه:
- أنسيت ما فعلت قبل يومين؟
- وماذا فعلت؟
-هل تستبلهني أم فقدتّ الذاكرة؟
- لا هذا ولا ذاك!
- وإذا كيف لا تتذكر ما فعلت هنا قبل يومين؟
- وماذا فعلت؟
ظلّ ينظر اليّ حانقا، ثم قال:
- قبل يومين شربت كأسين ثم شرعت تتفوّه بكلام بذيئ، وقلبت الطاولة، ولم أخرجك من البار إلاّ بصعوية... لذا من ألأفضل ألاّ تعود إلى هنا أبدا!
- عجيا هل فعلت هذا حقّا؟
- فعلت أكثر من هذا …. غير أني لا أريد أن أطيل الحديث معك. لذا من ألأفضل أن تنصرف حينا قبل أن يصعد الدم إلى رأسي فأفعل بك فعلة لن تنساها أبدا !
آنصرفت ذليلا صاغرا. ما الذي حدث يا ترى؟حياتي تفسد وتتعفّن. أعدائي يتكاثرون. وحائط من الجفاء يفصل بيني وبين زوجتي، وآبنتي، أعزّ ما عندي في الحياة. ويوما مّا سأجد نفسي وحيدا بلا سند، ويلا صديق. وربما من دون عمل ولا مأوى. كلّ هذا ممكن. فأصحاب الجلاّبيّات والرايات السوداء يتعقّبون خطاي، ويسمّمون دمي، ويلقون بي في مغاور مظلمة، ويلوّثون روحي. وها أنا كائن عدوانيّ، فظّ الطباع، صعب المعشر، يذيء اللسان. وقد أجهدتّ نفسي أكثر من مرّة للتخلّص منه، غير أني منيت بفشل ذريع. فهم أقوياء. وكلّ شيء يشير إلى أنهم سوف يزدادون قوّة وجبروتا. حتى القوى العظمى آحتارت في أمرهم، وعجزت عن دحرهم. وآلآن هم أشباح سوداء تلاحقني في النهار كما في الليل. ماذا سأفعل؟هل أعود الى البيت حيث ينتظرني الجفاء والصدود؟... لا... لا... ألأفضل أن أفعل ذلك بعد أن تغرق زوجتي وآبنتي في النوم. وعليّ أن أكون شديد اليقظة والحذر حتى لا أتسبب في حصول ما حدث قبل نحو أسبوع على ما أظن. فقد وصلت الى البيت بعد منتصف الليل. ومن دون أن أشعل الضّوء، رحت أتلمّس طريقي في الظلام. لكن فجأة هزّت البيت رجّة عنيفة. تسمّرت في مكاني وقد آستبدّ بي رعب شديد. بعد لحظات قليلة، آشتعل الضوء، وإذا بالمزهريّة البديعة فتاتا على ألأرض. أمام غرفة النوم، كانت زوجتي تقف منفوشة الشعر، وعيناها محمرّتان من الغضب. ثمّ لم تلبث أن آنخرطت في الصراخ والعويل نادبة حظّها العاثر، وحياتها الشقيّة. أمّا أنا فقد ظللت جامدا في مكاني مثل لصّ ضبط متبّسل بجريمة!
خفّت الحركة في المدينة. أغلقت المحلاّت التجاريّة أبوابها. لكن المطر لم يكفّ عن الهطول. دخلت بار "السعادة" فوجدتّه مزدحما بالزيائن. جمبعهم يشربون، ويدخنون بنهم متبادلين الطرائف بأصوات عاليه. بين وقت وآخر ينفجرون ضاحكين، ضاربين ألأرض بأقدامهم... طلبت بيرة ورحت أشرب على الكونتوارمتمعّنا في الوجوه المتلاطمة أمامي كألأمواج. ثم لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك. ما يمكنني قوله هو أنني وجدتّ نفسي في دائرة ألأمن، وحولي ثلاث رجال شرطة يستجوبونني عن دواعي أفعال شغب قمت بها في بار "السعادة". وقد ذكروا أني صفعت الجرسون، وكسّرت كؤوسا، وشتمت زبائن، وبصقت على أحدهم، بل وسببت الجلالة، وتفوّهت بكلام بذيء...
- المعذرة أيها السادة... ولكني لا أتذكر شيئا مما ذكرتم!
مدّوا رؤوسهم بآتجاهي وقالوا بصوت واحد:
- وهل نحن نكذب عليك؟
- لا.. لا... لا أقصد ذلك ولكن صدقوني أنافعلا لا أتذكرشيئا ممّا ذكرتم!
تبادلوا النظرات. ثم قال لي من بدا لي أنهم رئيسهم:
- أنا أعرفك جيّدا يا سيّد منصور... وأعرف أنك رجل لطيف وبلا مشاكل.. لذا آستغربت أن تقدم على القيام بأفعال كهذه يمكن أن تقودك الى السجن!
- أيها السادة الكرام.. أجدّد لكم آعتذاري على ما صدر منّي... وأؤكد لكم ان ألأمر لن يتكرّر أبدا!
- أنت تعترف إذن بأنك قمت بأعمال شغب... أليس كذلك!
- المعذرة أيها السادة!
تبادلوا النظرات من جديد. ثم قال لي من بدا لي أنه رئيسهم:
- أوكي يا سيد منصور... نحن نتقبل آعتذارك وآلآن بإمكانك أن تعود الى بيتك.. وننصحك بعدم الذهاب الى البارات مستقبلا!
- شكرا أيها السادة الكرام!
عدتّ الى البيت في الساعة الواحدة صباحا. عندما آستيقظت، وجدتّ نفسي ممدّدا على الكنبة بكامل ثيابي. غير بعيد عنّي، كانت زوجتي وآبنتي سناء تنظران اليّ بآشمئزار كما لو انني كلب سائب، نتن الرائحة، تسرّب الى البيت في غفلة منهما!
**
راحت أحوالي تزداد سوءا يوما بعد آخر. ومع الناس بجميع أصنافهم كثرت خصوماتي. وفي الشركة قدّمت لي السكرتيرة قائمة بدلائل تثيت أنني أصبحت أتأخر يوميّا في القدوم الى العمل، وأنني لا أكاد أفعل شيئا في المكتب غير قضم أظافري، والحملقة في زملائي، والتلفظ بكلمات غريبة لا يفقه أحد معناها، والضحك من دون موجب... وختمت حديثها قائلة بإن رئيسي في العمل ينصحني بالراحة لمدة أسبوعين عسى أن تتحسّن حالتي فأعود الى سالف نشاطي وحيويتي...
شكرتها وخرجت. تهت في شولرع المدينة العتيقة المملوءة بأكداس الفضلات، وبالقطط، والعجائز. ورغم أن السّماء كانت صافية، والشمس مشرقة فإن البرد كان قارسا، ينفذ الى العظام. سألت نفسي أكثر من مرّة:ماذا سأفعل خلال ألأسبوعين القادمين؟هل أذهب الى قريتي هناك في أحراش وسط البلاد، والتي لم أزرها منذ أعوام عدّة؟لا... لا... لن أفعل ذلك... فمن وفاة والديّ، لم أعد قادرا على تحمّل الخصومات المتتالية بين إخوتي ألأربعة. وغالبا ما تندلع هذه الخصومات لأسباب تافهة تتعلق ببقرة، أو بشجرة زيتون، أو حتى بدجاجة. وفي كلّ خصومة، يتبادلون الشتائم بأصوات عالية، شاهرين الهراوات في الهواء. بل يتشابكون بألأيدي حتى تسيل الدماء. وأعتقد أن السبب الحقيقي لكلّ هذا هو أن دماء القبائل القديمة التي كانت تتناحر وتتقاتل طوال الوقت لا تزال تجري حارّة في عروقهم. وإذا ما ذهبت إلى هناك فسيرتابون في أمري، وسيظنون أني جئت طامعا في شيء ما. لذا سيتّحدون ضدّي لكي أعود من حيث أتيت بأقصى السرعة... لا... لا... لن أذهب الى قريتي !هل أذهب الى العاصمة؟هذه فكرة غيرمحمودة العواقب أيضا. فالحركة هناك محمومة، والناس لا يكفّون عن الركض، والتنافس، والتناحر. الواحد منهم قادر على أن يختطف منك اللقمة حتى قبل أن تصل الى فمك. لذا من ألأفضل أن أبقى هنا في هذه المدينة الشماليّة التي ألفتها، وفيها غرست جذوري. المهم هو أن أعدّ برنامجا جيّدا يملأ أيّامي وليالي فلا أحس بالوحدة، ولا بالضجر، ولا بالإحباط. المهم أيضا هو أن أبذل كلّ ما في وسعي لآستعادة علاقتي الحميمة بزوجتي، وبآبنتي. من دون ذلك سأظلّ قلقا مهموما، وستظلّ ألأشباح السوداء تطاردني، وتنغّص حياتي، وتضاعف من همومي ومن آلآمي. .. آه... كم أتمنى أن أدخل الى البيت فأجد زوجتي سعيدة ضاحكة فأقبلها، وأهمس لها بكلام عذب يزيدها جمالا وتألّقا. ثمّ لا تلبث آبنتي أن ترتمي في أحضاني فأعانقها، وأدسّ في جيبها قطعا من الشوكولاطة. بعد العشاء، أروي لها قصصا شرقيّة، وأواصل ذلك الى أن يحملها النوم الى عالم ألأحلام الجميلة. عندئذ ألتحق بزوجتي في غرفة النوم لأجدها وقد هيأت نفسها لي كما فعلت في ليلة الدخول... آه... كم سأكون سعيدا عندما تعود أوقات الصفاء والهناء التي وسمت حياتي على مدى سنوات مديدة!
قذفت بي المدينة العتيقة الى البحر فوجدتني أتأمّل مفتونا ومأخوذا المشاهد الرائعة، وألألوان البديعة التي تبدّت أمامي بينما كانت الشمس تغرب على قمم الهضاب الغربيّة. آبتهجت نفسي، وغمر النور قلبي وروحي. لبضع لحظات أحسست أن أيّام الوحدة القاسية، والهواجس المرعبة قد ولّت وإلى ألأبد. فجأة برز أمامي ميهوب معتمرا كاسكبتة زرقاء، ومرتديا قميصا من نفس اللون، وبنطلون دجينز، ومنتعلا حذاء رياضيّا أبيض من نوع "أديداس". لم أستغرب وجوده هناك إذ أنه من عشاق البحر في كلّ الفصول. وهو قليل الكلام، ودائما وحيد. وقد سمعت أهل المدينة الشماليّة يروون عنه حكايات غريبة. وهم يقولون بإنه هاجر الى أوروبا وهو في الثامنة عشرة من عمره. وهناك أمضى ما يقارب الثلاثين عاما قاطعا الإتّصال بأيّ فرد من أفراد عائلته. ومع مرور الزّمن نساه الجميع، وما عاد يذكره أحد. لكن ذات خربف، ظهر من جديد وقد آشتعل رأسه شيبا، وحفرت سنوات الغربة الطويلة ندويا على ملامحه. وفي عينيه الزرقاوين لمع بريق يختصّ به المتوحّدون بأنفسهم. فلّما أراد البعض من أقاربه التقرّب منه، فرّ منهم ليسكن بيتا متداعيا في الغابة، قريبا من البحر. وأنا آلتقيت به العديد من المرات. ومعه تحدثت في مواضيع مختلفة لكن لوقت قصير دائما. ومرة حاولت أن أتعرف على شيء من حياته الخاصة فآربدّت ملامحه. وبخطى وئيدة آبتعد عنّي وهو يهمهم غاضبا. وكان عليّ أن أعتذر له اكثر من مرّة لكي أستعيد علاقتي معه...
من دون أن يردّ على تحيّتي، قال ميهوب بصوت حزين:
- الحياة فسدت... والعلم كلّه فسد... أليس كذلك؟
ثمّ أضاف وهو يتأمّل البحر الذي أظلم أمامنا:
- نعم الحياة فسدت... والعالم كلّه فسد... وربما لن يطول الزمن لكي لا ينعم الإنسان بجمال الطبيعة التي تدمّر تدميرا منهجيّا. وألأغنياءوالفقراء يشتركون في ذلك. وبسبب كلّ هذا سوف تمحى الغابات من والوجود، وتختفي البساتين والحدائق فتصبح ألأرض جرداء قاحلة مثل صحراء الربع الخالي. وسوف ينعدم الهواء النقيّ فيموت الناس واقفين، وتجفّ ألأنهار والبحيرات، وتتحول البحار والمحيطات الى مستنقعات راكدة، نتنة الرائحة، ولا سمك فيها. ,,نعم كلّ هذا سيحصل.. والشيء الذي يثير غضبي وآمتعاضي هو أن أهل السياسة والفكر في الدول الكبيرة والغنيّة لا يزالون يمجدون ما يسمّونه ب"التقدم العلمي والتكنولوجي" غير عابئين بالخراب الذي يحدث في كلّ مكان من العالم. وها محاكم التفتيش تعود. ومن جديد تحرق الكتب، ويذبح الشعراء. وأما الحشّاشون الذين حسبنا انهم آنقرضوا فقد ظهروا مرة أخرى مسلحين بحقد أعمى، وبشراسة وعدوانيّة لم يسبق لهما مثيل. وها هم ينشرون الموت والرعب في كلّ مكان من ألأرض فلا يكاد يسلم من شرّهم أحد...
أرعبني كلامه فآبتعدت عنه وأنا أرجف. وأنا لا أتذكر ماذافعلت بعد ذلك. لكن عندما آستعدتّ وعيي وجدتّ نفسي ممدّدا في فراش وقد وضعت ضمّادات على أجزاء مختلفة من جسدي. وكل شيء من حولي يدلّ على أنني في المستشفى. ماذا حدث يار ترى؟هل دهستني سيّارة؟هلى هاجمني غرباء على الشاطئ؟هلى تخاصمت مع أحد ما الحانة؟.. وكانت هذه الأسئلة تدورفي ذهني لمّا دخل أربعة من رجال الشرطة. سلّموا عليّ ببرود، ثم جلسوا حول السرير:آثنان على اليمين وآثنان على اليسار. طرح عليّ الذي بدا لي انه رئيسهم أسئلة تتعلق بما قمت به خلال اليوم السابق فحدثتهم عن لقائي بميهوب من دون أن أشير الى ما قاله خلال لقائي به. مدّ الشرطيّ رأسه بآتجاهي وسألني:
- هل تعلم يا سيّد منصور ماذا فعلت البارحة؟
- لا أعلم سيدي!
- لقد هجمت على زوجتك بسكين ولولا الجيران الذين تدخلوا في الوقت المناسب لكنت قتلتها!
أطلقت صيحة فزع عالية، وتململت راغبا في القفز من الفراش، غير أن رجال الشرطة سمّروني في مكاني... أجهشت بالبكاء وسمعت الشرطي يقول لي:
- آهدأ يا سيد منصور... آهدأ رجاء.. فنحن لا نريد سوى مساعدتك!
- لكن كيف ولماذا فعلت هذا؟ قلت والدموع تكاد تخنقني
- نحن لا ندري يا سيد منصور... كل ما نعلم هو أننا عندما وصلنا الى بيتك وجدناك هائجا، تطلق كلاما بذيئا، وتلعن الجيران.. أما آبنتك فقد أغمي عليها من فرط الرعب!
واصلت البكاء بحرقة. ولما خفّ بكائي قال لي الشرطيّ:
- لا بدّ أن تهدأ يا سيّد منصور حتى تساعد ألأطباء على انقاذك من ألأزمة النفسيّة الحادة التي تعاني منها منذ أشهر عدة...
- أنا انسان سليم !قلت وانا أمسح دموعي
- لا... لست سليما يا سيد منصور... وجميع أفعلك وتصرفاتك تدلّ على أنك لست على ما يرام على المستوى النفسي... لذا ننصحك بأن تهدأ وإلاّ فإن حياتك سوف تسوء... وآلآن علينا أن ننصرف... وأملنا أن تستعيد عافيتك في أقرب وقت ممكن!
آنصرفوا، وبقيت وحيدا في البياض...
* الحمامات