الساعة السادسة . بدأت الحانة الشعبية تستقبل روادها من الموظفين . هم يغادرون مكاتبهم في السادسة إلاّ الربع ، فيتجه كل صنف وجهة معيّنة ، هذا يعود إلى البيت سريعا ، لا يضيّع ثانية واحدة خوفا من زوجته التي تحاسبه حسابا عسيرا على كلّ دقيقة تأخير ، و ذاك يمضي إلى المسجد يؤدّي صلاة المغرب حاضرة ، و صلاة العصر قضاء ، و يظل هناك في انتظار صلاة العشاء ، فيؤديها ثمّ يعود أدراجه إلى البيت راضيا مرضيا ، و ثالث يسرع إلى المقهى حيث حجز أصدقاؤه طاولة للعب الورق ، فيغرق هناك ساعة أو ساعتين ، ثم ينقلب إلى البيت و قد أزال عن نفسه هموم يوم من العمل . و رابع و هو صنف أصحابنا يتجه إلى الحانة .
هم ثلاثة رفاق يتخذون كل يوم مكانهم حول طاولة معروفة سلفا أصبحت بحكم العادة و المواظبة وقفا عليهم ، لا يقربها أحد . هذا دأبهم لا يخالفونه إلاّ في أيام الجمع و الأعياد و شهر رمضان المعظم . إذ تغلق الحانات أبوابها لإجراء إصلاحات ، أو لتنظيف شامل يطال الطاولات و الكراسي و الأرضية و الأواني .
وصل بوريشة أوّلا ، هو صحافي في جريدة " صوت الحق " المستقلّة ، اتخذ مكانه و نادى النادل ليمرر خرقة القماش المبللة على سطح الطاولة يزيل غبارا لا يراه ، ثم حدّد له طلباته من الباعة المصطفين على طول الحائط الخارجي للحانة يعرضون أنواعا من المآكل . هذا نصف رأس مصلي ، و هذا صحن غلال موسمية ، و هذه مكسرات ، و هذا فول مطبوخ ، هذا صحن كبدة ... كلّ الأصناف متوفرة ، و الخدمة سريعة كالبرق .
ذهب النادل و عاد بصينيته عليها قوارير تقف جنبا إلى جنب ، فتح واحدة و وضعها أمام بوريشة ، و مضى يزود بقية الطاولات بالقوارير الخضراء . هو يأخذ الثمن مباشرة ، لا ينتظر انتهاء الحريف من الشرب ليتحاسب معه . يعرف أنّ بعضهم يتعمّد الانصراف دون أن يدفع ، و بعضهم يتجاوز إمكانياته المالية ، فلا يجد المبلغ الكامل ليسدد شربه ، و النادل يعرف أنّ ما تبقى سيخصم من أجرته . لا يثق إلاّ ببوريشة و رفاقه ، يتركهم يشربون ثم يقبض الثمن كاملا و معه مبلغ إضافي هبة " بور بوار " في آخر الجلسة . هؤلاء موظفون و حساباتهم مضبوطة ، و هم يشربون كلّ يوم نفس العدد من القوارير ، ينظمون حياتهم و لا يتركون أمورهم فوضى . أمّا بقية الرواد فكثير منهم يعمل باليوم و لا يضمن أن يجد كلّ يوم ثمن البيرّة فيشرب و يدفع بعض الثمن و يُبقى البعض الآخر نسيئة حتّى يجد عملا . لقد عانى منهم النادل كثيرا ، فقرّر ألاّ يضع قارورة بيرة واحدة على طاولة أحدهم إلاّ بعد أخذ ثمنها . حتّى بعض الموظفين يخادعه في الحساب أحيانا ، و لكنّه يعرف كيف يسترجع حقّه منهم .
بدأت الصحون تتوافد على طاولة بوريشة عندما وصل عبد الحق الأستاذ بالمدرسة الإعدادية ، كثيرا ما يأتي مباشرة من المدرسة بمحفظته ، يؤمّنها لدى حميّد الذي يقف خلف " الكونتوار " يمدّ النادل بالبضاعة و يقبض منه الثمن مسبقا . و حميّد هو الذي يذكّر عبد الحق بمحفظته قبل أن يغادر . و إذا نسي حميّد أو كان منشغلا بأمر ما عاد عبد الحق وتركها ، و لا يتذكرها إلا في اليوم التالي . حصل ذلك أكثر من مرّة . سلّم المحفظة إلى حميّد و أخذ مكانه إلى الطاولة و جاءه النادل فوضع أمامه قارورتين و أضاف واحدة لبوريشة . و ما لبث سلطان أن أطلّ بقامته الفارعة فعاد النادل إلى الطاولة يزودها . هو موظف في البريد ، لا يترك مكتبه إلاّ بعد تصفية حساباته مع القابض . " البريد أموره منظمة ، لا بدّ من ضبط الحسابات يوميا ، ما صرف و ما قبض . لا مجال للخطأ " . هذا ما يقوله سلطان كلّما سئل عن سبب تأخره .
اكتمل الجمع ، ثلاثة رفاق ندماء ، في أعمار متقاربة ، ليس منهم متزوج إلاّ عبد الحق ، تزوج من زميلة له في الوظيفة ، يقول عنها إنّها متفهّمة ، لا ترى في الشرب ضيرا ، المهمّ عندها ألاّ يلتفت إلى النساء .
ينطلق الشرب و الحديث . يتطرّقون إلى جلسة يوم الأمس فيثنون عليها و يغدقون عبارات الإعجاب على طريقتهم في الشرب ، و يعبّرون عن رضاهم عن أنفسهم في انضباطهم و انتظامهم و عدم تجاوزهم الحدّ المعقول ، حتّى أنّهم لا يذكرون كلمة السكر أبدا . يقولون " نحن نشرب ، و نفهم قيمة الشراب كالأوروبيين ، شربُنا فنّ " . و يمدحون من صنع الشراب و اهتدى إليه ، و يعتبرون أنّه أعظم اكتشاف حققه الإنسان في التاريخ ، و يبررون ما يذهبون إليه بأنّ الخمرة موجودة في الجنة ضمن أشياء أخرى جزاء للمؤمنين الصادقين . " هل ثمّة دليل أكبر من ذلك على أنّها نعمة " . و يتحدّث الأستاذ عن قدم الخمرة في التاريخ و أنّ كل الشعوب عرفتها و صنعتها ، و قال إنّ الإنسان البدائي كان له منها نصيب ، فقد عُرفت منذ آلاف السنين قبل الميلاد ، " كل الحضارات عرفت الخمرة ، حتّى أجدادنا العرب في الجاهلية . يشهد على ذلك الشعر الجاهلي ، و لم تنقطع من الحضارة العربية حتّى بعد مجيء الإسلام ، بل ربّما ازدادت انتشارا و رواجها لأنّ تحريمها أغرى الناس بها " . تساءل سلطان عن الحكمة من منع بيعها في أيام الجمعة و الأعياد و هي موجودة في بقية أيام السنة . أجابه بوريشة " هذا قانون قديم يعود إلى عهد البايات ، و قد استمر العمل به . ألا تعلم أنّ من حق عون الأمن أن يدخل هذا المحل و يتهم كل الشاربين . القانون لا يحاسب من يبيع لأنّ له ترخيصا ، و لكنّه يحاسب الشارب لأنّ القانون يحرّم شرب الخمرة على المسلمين " . ابتسم سلطان و زمّ شفتيه مستغربا هذا منطق .
قال الأستاذ :
ـ نحن لسنا أفضل و لا أدنى من غيرنا ، البلاد كلّها تشرب ، و إذا طبقوا القانون سيتحول أغلب سكان البلاد إلى السجن و يبقى القليل منهم خارجه . و أظنّهم سيلحقون بنا لأنّهم لن يستطيعوا فعل شيء بدوننا .
أغرقوا في الضحك لهذه الصورة . تصوّروا السجن يتحوّل إلى بلاد يمارس فيها الناس حياتهم بصورة عادية ، سيكون هناك إدارات و بنوك و مدارس و مستشفيات و سيارات تجول و حظائر بناء و ملاعب كرة قدم و مباريات و تصفيات ، و حانات ، و جماعة قليلة تعيش خارجه .
أضاف بوريشة :
ـ لن نشعر آنذاك أنّنا في سجن ، بل الذين سيبقون في الخارج هم الذين سيشعرون أنهم سجناء .
أقبل النادل يزودهم بالقوارير الملأى و يرفع من أمامهم الفارغة .
قال عبد الحق :
ـ لقد أعجبتني كثيرا تلك النكتة التي رويتها يا بوريشة . ظللت أضحك طوال اليوم ، حتّى زوجتي صفيّة استغربتْ منّى عندما وجدتني أضحك وحدي أنا جالس إلى المكتب أصحح أوراق التلاميذ ، لم أستطع أن أرويها لها لأنها قبيحة جدّا . في القسم لم أتمالك نفسي عن الضحك أيضا و كان التلاميذ يتساءلون و لا يفهمون شيئا .
قال سلطان :
ـ البيرة أمس كانت رائعة ، أظن أنّها كمية كانت موجّهة إلى النزل الفاخرة ، أتعرفان أنّ البيرّة التي توجّه إلى النزل السياحية من نوع ممتاز ؟ سمعت ذلك من صديق يعمل في معصرة البيرة نفسها .
لم يردّ عليه مرافقاه . انتقل الحديث إلى العمل . كلّ يستعرض ما اعترضه من مشاكل و صدامات ، و ما وقع في العمل من نوادر . يتناوبون الكلام ، لكن حظ كل منهم من الوقت يختلف ، فبوريشة يحتكر الكلام أكثر من رفيقيه ، و سلطان لا يتكلّم إلاّ قليلا ، يكتفي غالبا بالسماع و يشاركهما الضحك، أمّا عبد الحق فوسط بين هذا و ذاك ، لكنّه يتميّز بأسلوبه الخاص في الكلام ، يتقمّص و هو يخاطب رفيقيه شخصية الأستاذ ، فيكون كلامه رصينا هادئا ، يميل إلى الشرح و الإيضاح و الاستدراك و يكثر من كلمة " فهمتوا " يصوغها استفهاما و لا ينتظر جوابا . يدور كلامه في الغالب على التعليم و التلاميذ و الزملاء و الإدارة و الأولياء ، يتهم الجميع بالتسيّب و انعدام المسؤولية ، و يرمي زملاءه الجدد بالجهل و قلة التكوين ، و الجري وراء كسب المال بالدروس الخصوصية " لم أر واحدا منهم يقتني كتابا جديدا ، كلّهم يكتفي بما تعلّمه في الجامعة ، لا يتابعون ما جدّ من نظريات و دراسات حديثة . بعد سنوات قليلة ستتجاوزهم الأحداث و يصبحون من التاريخ القديم ، مهنة التعليم تتطلّب تكوينا مستمرّا . " كثيرا ما يجلب معه نماذج من أخطاء التلاميذ ، و أخطاء زملائه في مادّة اللغة الفرنسية يعرضها على رفيقيه موضحا وجه الخطأ فيها و وجه الصواب .
قال بوريشة :
ـ جئتكم اليوم بأخبار طازجة و سارّة ، لم تنشر بعد ، أخذتها من الفاكس مباشرة و أنا خارج من الجريدة ، ستنشر غدا ، إنّه السبق الصحفي و أكثر من ذلك : إسرائيل قبلت حل الدولتين ، و تقسيم القدس لتكون عاصمتين فلسطينية و إسرائيلية . الولايات المتحدة ستخرج من العراق في ظرف ثلاثة أشهر ، و للخبر بقية . و لكنّها لن تغادر المنطقة ، لأنّها تعتزم غزو إيران و تحويل كلّ ثقلها إلى هذا البلد الذي أصبح في نظرها يمثل أكبر خطر على أمنها القوميّ في منطقة الخليج و الشرق الأوسط .
ابتسم عبد الحق ساخرا و قال :
ـ يا أخي من أين تأتي جريدتكم بهذه الأخبار ، لقد تابعنا أخبارها في حرب الخليج فكنّا نحن في واد و الوقائع في واد آخر حتى انكشف الأمر عن هزيمة تاريخية ، و حتّى عندما بدأت بوادر الهزيمة تظهر كانت جريدتكم توهمنا بأنّ ذلك ليس إلاّ خطة تكتيكية . صدقناها فكانت هزيمتنا بحجم الكارثة . أنا لم أعد أصدّق جريدتكم ، أنت تقول إنّها تستقي أخبارها من وكالات الأنباء العالمية و أنّ لكم مراسلين دائمين في المناطق الساخنة من العالم . و لا أظنّكم تستقون إلاّ من وكالة * الغرياني ، أو وكالة * الهناء في نهج زرقون ، أو لعلّكم على اتصال دائم بإذاعة قالوا .
كتم بوريشة غيظه ، و نظر إلى سلطان كأنّما يحتج على صمته و عدم تصديه لعبد الحق . حرّك سلطان رأسه موافقا على غيظ بوريشة و لم يفه بكلمة واحدة . ظلّ ملتزما الصمت . و لكنّ ذلك كان كافيا ليقلّل من غضب بوريشة ، فعاد يكمل عرضه :
ـ اسمعا هذا أهم خبر ، ستطيران من شدة الفرح . الدولة تقرّر رفع أجور الموظفين بنسبة عشرة بالمائة دفعة واحدة .
وجم رفيقاه و اتسعت حدقتاهما و ثبت بصرهما حتى كاد النفس ينقطع . ابتلع سلطان ريقه ، و قال و هو بين أمل و يأس :
ـ هل أنت واثق يا أخي ، أحسّ كأنّني سيغمى عليّ من الفرح . أنت و الله تستحق قبلة على جبينك ، قام و قبّله على جبينه ، و قال لعبد الحق :
ـ قم يا أخي قبّله .
قام عبد الحق وقبّل بوريشة في جبينه و عاد كلّ منها إلى الجلوس .
قال عبد الحق :
ـ و الله حتى لو كان الخبر كاذبا فأنت تستحق عليه الشكر ، منذ متى لم نسمع بخبر كهذا ؟
قال سلطان :
ـ لك علي ثماني قوارير بيرّة إذا صح النّبأ ، و إذا لم يصحّ لن أطالبك بالتعويض ، يكفي أنّك أفرحتنا .
قال بوريشة :
ـ استعد للدفع إذا لأنّ الخبر صحيح مائة بالمائة ، و غدا ستقرؤونه في الصحف الأخرى .
نادى عبد الحق النادل ليضع أمامهم مزيدا من القوارير .
أصبح للبيرة طعم آخر بعد سماعهم الخبر . هم مستعدّون أن يشربوا ضعف الكمية اليوم .
صبّ كل منهم السائل الذهبي في كأسه و نقل الكأس إلى الشفتين في حركة توحي بلذة وانتشاء وليدين .
ساد الصمت قليلا كاّنهم يستمرئون الخبر و البيرة معا و بنفس الحاسة ، و راح كلّ منهم يقوم بعمليات حسابية ذهنية لما سيوفّره من الزيادة ، و مقدار ما سيزيده من القوارير يوميا .
عادوا إلى الكلام ، فتطرقوا إلى الأسباب التي دعت الدولة إلى هذه الزيادة غير المنتظرة ، و التي ستكلّف الميزانية نفقات كثيرة إذ عدد الموظفين يحسب بالملايين ، و إلى الموارد الجديدة التي توفّرت للدولة لتقدم على هذه الخطوة . استقرّ عندهم الرّأي على أنّ صادرات البترول و الفسفاط قد شهدت ارتفاعا في الحجم و في السعر في المدّة الأخيرة ، إضافة إلى أنّ الصابة هذه السنة وافرة ، و هذا من شأنه أن ينعش الاقتصاد و يزيد في الثروة الوطنية . و لا بدّ أن الدولة قد قامت بدراسة دقيقة لهذه الزيادات و كيفية تغطيتها . الدولة لا تقدم على شيء كهذا إلاّ بعد دراسة دقيقة .
سمح الجماعة لأنفسهم بزيادة قارورة لكلّ منهم على المعتاد هذه الليلة على حساب الزيادة المنتظرة ، و لسان حالهم يقول سنغطي النقص في المصروف الشهري بالزيادة القادمة . حتى إذا لم ندفع للجزار أو الخضار أو العطار المبلغ كاملا سيقبل عندما يسمع بالزيادة في الأجور . ثم خرجوا على أن يلتقوا غدا في نفس الموعد و المكان .
في الصباح و في طريقهما إلى العمل اشترى كل من سلطان و عبد الحق جريدة " الصدق " و هي جريدة شبه رسمية ، لم يعرف عنها أنّها تأتي بأخبار غير ثابتة خاصّة إذا تعلّق الأمر بالأخبار الوطنية ، فهي تأخذ أخبارها مباشرة من مراكز السلطة ، تستجوب الوزراء و كتاب الدولة و المديرين العامين و هم يصرحون لها بكل جديد . أمّا بوريشة فلم يكن في حاجة إلى اقتناء صحيفة ، لا يثق إلاّ بصحيفته . قرأ كلّ من عبد الحق و سلطان العناوين الرئيسية في الصفحة الأولى بحثا عن الخبر الأهم . لم يخب ظنهما الخبر صحيح لا شكّ في ذلك . ها هو مكتوب بخط بارز على يمين الصفحة الأولى ، و على اليسار خبر آخر : الزيادة في الأسعار " قررت الدولة الزيادة في أسعار المواد الغذائية بنسبة خمسة في المائة ، و في المحروقات بنسبة سبعة في المائة ابتداء من تاريخ اليوم ".
لم يركزا كثيرا على الخبر الثاني ، تركا أمر التثبت منه و فهمه لفترة لاحقة .
عندما اجتمعوا بعد العمل في الحانة ، أخرج منهم هاتفه الجوال و فتح الحاسبة . انطلقوا في عمليات جمع و ضرب و طرح و قسمة . انتهوا إلى نتيجة واحدة : ابتداء من الشهر القادم لن يتمكنوا من توفير ثمن البيرة .
و هم يهمّون بمغادرة الحانة رأوا على قناة الجزيرة خبرا عاجلا . فمضوا يلعنون أمريكا و إسرائيل و الزيادات في الأجور .
ماي 2010
* كلمة " وكالة " تعني في الدارجة التونسية فندقا متواضعا
هم ثلاثة رفاق يتخذون كل يوم مكانهم حول طاولة معروفة سلفا أصبحت بحكم العادة و المواظبة وقفا عليهم ، لا يقربها أحد . هذا دأبهم لا يخالفونه إلاّ في أيام الجمع و الأعياد و شهر رمضان المعظم . إذ تغلق الحانات أبوابها لإجراء إصلاحات ، أو لتنظيف شامل يطال الطاولات و الكراسي و الأرضية و الأواني .
وصل بوريشة أوّلا ، هو صحافي في جريدة " صوت الحق " المستقلّة ، اتخذ مكانه و نادى النادل ليمرر خرقة القماش المبللة على سطح الطاولة يزيل غبارا لا يراه ، ثم حدّد له طلباته من الباعة المصطفين على طول الحائط الخارجي للحانة يعرضون أنواعا من المآكل . هذا نصف رأس مصلي ، و هذا صحن غلال موسمية ، و هذه مكسرات ، و هذا فول مطبوخ ، هذا صحن كبدة ... كلّ الأصناف متوفرة ، و الخدمة سريعة كالبرق .
ذهب النادل و عاد بصينيته عليها قوارير تقف جنبا إلى جنب ، فتح واحدة و وضعها أمام بوريشة ، و مضى يزود بقية الطاولات بالقوارير الخضراء . هو يأخذ الثمن مباشرة ، لا ينتظر انتهاء الحريف من الشرب ليتحاسب معه . يعرف أنّ بعضهم يتعمّد الانصراف دون أن يدفع ، و بعضهم يتجاوز إمكانياته المالية ، فلا يجد المبلغ الكامل ليسدد شربه ، و النادل يعرف أنّ ما تبقى سيخصم من أجرته . لا يثق إلاّ ببوريشة و رفاقه ، يتركهم يشربون ثم يقبض الثمن كاملا و معه مبلغ إضافي هبة " بور بوار " في آخر الجلسة . هؤلاء موظفون و حساباتهم مضبوطة ، و هم يشربون كلّ يوم نفس العدد من القوارير ، ينظمون حياتهم و لا يتركون أمورهم فوضى . أمّا بقية الرواد فكثير منهم يعمل باليوم و لا يضمن أن يجد كلّ يوم ثمن البيرّة فيشرب و يدفع بعض الثمن و يُبقى البعض الآخر نسيئة حتّى يجد عملا . لقد عانى منهم النادل كثيرا ، فقرّر ألاّ يضع قارورة بيرة واحدة على طاولة أحدهم إلاّ بعد أخذ ثمنها . حتّى بعض الموظفين يخادعه في الحساب أحيانا ، و لكنّه يعرف كيف يسترجع حقّه منهم .
بدأت الصحون تتوافد على طاولة بوريشة عندما وصل عبد الحق الأستاذ بالمدرسة الإعدادية ، كثيرا ما يأتي مباشرة من المدرسة بمحفظته ، يؤمّنها لدى حميّد الذي يقف خلف " الكونتوار " يمدّ النادل بالبضاعة و يقبض منه الثمن مسبقا . و حميّد هو الذي يذكّر عبد الحق بمحفظته قبل أن يغادر . و إذا نسي حميّد أو كان منشغلا بأمر ما عاد عبد الحق وتركها ، و لا يتذكرها إلا في اليوم التالي . حصل ذلك أكثر من مرّة . سلّم المحفظة إلى حميّد و أخذ مكانه إلى الطاولة و جاءه النادل فوضع أمامه قارورتين و أضاف واحدة لبوريشة . و ما لبث سلطان أن أطلّ بقامته الفارعة فعاد النادل إلى الطاولة يزودها . هو موظف في البريد ، لا يترك مكتبه إلاّ بعد تصفية حساباته مع القابض . " البريد أموره منظمة ، لا بدّ من ضبط الحسابات يوميا ، ما صرف و ما قبض . لا مجال للخطأ " . هذا ما يقوله سلطان كلّما سئل عن سبب تأخره .
اكتمل الجمع ، ثلاثة رفاق ندماء ، في أعمار متقاربة ، ليس منهم متزوج إلاّ عبد الحق ، تزوج من زميلة له في الوظيفة ، يقول عنها إنّها متفهّمة ، لا ترى في الشرب ضيرا ، المهمّ عندها ألاّ يلتفت إلى النساء .
ينطلق الشرب و الحديث . يتطرّقون إلى جلسة يوم الأمس فيثنون عليها و يغدقون عبارات الإعجاب على طريقتهم في الشرب ، و يعبّرون عن رضاهم عن أنفسهم في انضباطهم و انتظامهم و عدم تجاوزهم الحدّ المعقول ، حتّى أنّهم لا يذكرون كلمة السكر أبدا . يقولون " نحن نشرب ، و نفهم قيمة الشراب كالأوروبيين ، شربُنا فنّ " . و يمدحون من صنع الشراب و اهتدى إليه ، و يعتبرون أنّه أعظم اكتشاف حققه الإنسان في التاريخ ، و يبررون ما يذهبون إليه بأنّ الخمرة موجودة في الجنة ضمن أشياء أخرى جزاء للمؤمنين الصادقين . " هل ثمّة دليل أكبر من ذلك على أنّها نعمة " . و يتحدّث الأستاذ عن قدم الخمرة في التاريخ و أنّ كل الشعوب عرفتها و صنعتها ، و قال إنّ الإنسان البدائي كان له منها نصيب ، فقد عُرفت منذ آلاف السنين قبل الميلاد ، " كل الحضارات عرفت الخمرة ، حتّى أجدادنا العرب في الجاهلية . يشهد على ذلك الشعر الجاهلي ، و لم تنقطع من الحضارة العربية حتّى بعد مجيء الإسلام ، بل ربّما ازدادت انتشارا و رواجها لأنّ تحريمها أغرى الناس بها " . تساءل سلطان عن الحكمة من منع بيعها في أيام الجمعة و الأعياد و هي موجودة في بقية أيام السنة . أجابه بوريشة " هذا قانون قديم يعود إلى عهد البايات ، و قد استمر العمل به . ألا تعلم أنّ من حق عون الأمن أن يدخل هذا المحل و يتهم كل الشاربين . القانون لا يحاسب من يبيع لأنّ له ترخيصا ، و لكنّه يحاسب الشارب لأنّ القانون يحرّم شرب الخمرة على المسلمين " . ابتسم سلطان و زمّ شفتيه مستغربا هذا منطق .
قال الأستاذ :
ـ نحن لسنا أفضل و لا أدنى من غيرنا ، البلاد كلّها تشرب ، و إذا طبقوا القانون سيتحول أغلب سكان البلاد إلى السجن و يبقى القليل منهم خارجه . و أظنّهم سيلحقون بنا لأنّهم لن يستطيعوا فعل شيء بدوننا .
أغرقوا في الضحك لهذه الصورة . تصوّروا السجن يتحوّل إلى بلاد يمارس فيها الناس حياتهم بصورة عادية ، سيكون هناك إدارات و بنوك و مدارس و مستشفيات و سيارات تجول و حظائر بناء و ملاعب كرة قدم و مباريات و تصفيات ، و حانات ، و جماعة قليلة تعيش خارجه .
أضاف بوريشة :
ـ لن نشعر آنذاك أنّنا في سجن ، بل الذين سيبقون في الخارج هم الذين سيشعرون أنهم سجناء .
أقبل النادل يزودهم بالقوارير الملأى و يرفع من أمامهم الفارغة .
قال عبد الحق :
ـ لقد أعجبتني كثيرا تلك النكتة التي رويتها يا بوريشة . ظللت أضحك طوال اليوم ، حتّى زوجتي صفيّة استغربتْ منّى عندما وجدتني أضحك وحدي أنا جالس إلى المكتب أصحح أوراق التلاميذ ، لم أستطع أن أرويها لها لأنها قبيحة جدّا . في القسم لم أتمالك نفسي عن الضحك أيضا و كان التلاميذ يتساءلون و لا يفهمون شيئا .
قال سلطان :
ـ البيرة أمس كانت رائعة ، أظن أنّها كمية كانت موجّهة إلى النزل الفاخرة ، أتعرفان أنّ البيرّة التي توجّه إلى النزل السياحية من نوع ممتاز ؟ سمعت ذلك من صديق يعمل في معصرة البيرة نفسها .
لم يردّ عليه مرافقاه . انتقل الحديث إلى العمل . كلّ يستعرض ما اعترضه من مشاكل و صدامات ، و ما وقع في العمل من نوادر . يتناوبون الكلام ، لكن حظ كل منهم من الوقت يختلف ، فبوريشة يحتكر الكلام أكثر من رفيقيه ، و سلطان لا يتكلّم إلاّ قليلا ، يكتفي غالبا بالسماع و يشاركهما الضحك، أمّا عبد الحق فوسط بين هذا و ذاك ، لكنّه يتميّز بأسلوبه الخاص في الكلام ، يتقمّص و هو يخاطب رفيقيه شخصية الأستاذ ، فيكون كلامه رصينا هادئا ، يميل إلى الشرح و الإيضاح و الاستدراك و يكثر من كلمة " فهمتوا " يصوغها استفهاما و لا ينتظر جوابا . يدور كلامه في الغالب على التعليم و التلاميذ و الزملاء و الإدارة و الأولياء ، يتهم الجميع بالتسيّب و انعدام المسؤولية ، و يرمي زملاءه الجدد بالجهل و قلة التكوين ، و الجري وراء كسب المال بالدروس الخصوصية " لم أر واحدا منهم يقتني كتابا جديدا ، كلّهم يكتفي بما تعلّمه في الجامعة ، لا يتابعون ما جدّ من نظريات و دراسات حديثة . بعد سنوات قليلة ستتجاوزهم الأحداث و يصبحون من التاريخ القديم ، مهنة التعليم تتطلّب تكوينا مستمرّا . " كثيرا ما يجلب معه نماذج من أخطاء التلاميذ ، و أخطاء زملائه في مادّة اللغة الفرنسية يعرضها على رفيقيه موضحا وجه الخطأ فيها و وجه الصواب .
قال بوريشة :
ـ جئتكم اليوم بأخبار طازجة و سارّة ، لم تنشر بعد ، أخذتها من الفاكس مباشرة و أنا خارج من الجريدة ، ستنشر غدا ، إنّه السبق الصحفي و أكثر من ذلك : إسرائيل قبلت حل الدولتين ، و تقسيم القدس لتكون عاصمتين فلسطينية و إسرائيلية . الولايات المتحدة ستخرج من العراق في ظرف ثلاثة أشهر ، و للخبر بقية . و لكنّها لن تغادر المنطقة ، لأنّها تعتزم غزو إيران و تحويل كلّ ثقلها إلى هذا البلد الذي أصبح في نظرها يمثل أكبر خطر على أمنها القوميّ في منطقة الخليج و الشرق الأوسط .
ابتسم عبد الحق ساخرا و قال :
ـ يا أخي من أين تأتي جريدتكم بهذه الأخبار ، لقد تابعنا أخبارها في حرب الخليج فكنّا نحن في واد و الوقائع في واد آخر حتى انكشف الأمر عن هزيمة تاريخية ، و حتّى عندما بدأت بوادر الهزيمة تظهر كانت جريدتكم توهمنا بأنّ ذلك ليس إلاّ خطة تكتيكية . صدقناها فكانت هزيمتنا بحجم الكارثة . أنا لم أعد أصدّق جريدتكم ، أنت تقول إنّها تستقي أخبارها من وكالات الأنباء العالمية و أنّ لكم مراسلين دائمين في المناطق الساخنة من العالم . و لا أظنّكم تستقون إلاّ من وكالة * الغرياني ، أو وكالة * الهناء في نهج زرقون ، أو لعلّكم على اتصال دائم بإذاعة قالوا .
كتم بوريشة غيظه ، و نظر إلى سلطان كأنّما يحتج على صمته و عدم تصديه لعبد الحق . حرّك سلطان رأسه موافقا على غيظ بوريشة و لم يفه بكلمة واحدة . ظلّ ملتزما الصمت . و لكنّ ذلك كان كافيا ليقلّل من غضب بوريشة ، فعاد يكمل عرضه :
ـ اسمعا هذا أهم خبر ، ستطيران من شدة الفرح . الدولة تقرّر رفع أجور الموظفين بنسبة عشرة بالمائة دفعة واحدة .
وجم رفيقاه و اتسعت حدقتاهما و ثبت بصرهما حتى كاد النفس ينقطع . ابتلع سلطان ريقه ، و قال و هو بين أمل و يأس :
ـ هل أنت واثق يا أخي ، أحسّ كأنّني سيغمى عليّ من الفرح . أنت و الله تستحق قبلة على جبينك ، قام و قبّله على جبينه ، و قال لعبد الحق :
ـ قم يا أخي قبّله .
قام عبد الحق وقبّل بوريشة في جبينه و عاد كلّ منها إلى الجلوس .
قال عبد الحق :
ـ و الله حتى لو كان الخبر كاذبا فأنت تستحق عليه الشكر ، منذ متى لم نسمع بخبر كهذا ؟
قال سلطان :
ـ لك علي ثماني قوارير بيرّة إذا صح النّبأ ، و إذا لم يصحّ لن أطالبك بالتعويض ، يكفي أنّك أفرحتنا .
قال بوريشة :
ـ استعد للدفع إذا لأنّ الخبر صحيح مائة بالمائة ، و غدا ستقرؤونه في الصحف الأخرى .
نادى عبد الحق النادل ليضع أمامهم مزيدا من القوارير .
أصبح للبيرة طعم آخر بعد سماعهم الخبر . هم مستعدّون أن يشربوا ضعف الكمية اليوم .
صبّ كل منهم السائل الذهبي في كأسه و نقل الكأس إلى الشفتين في حركة توحي بلذة وانتشاء وليدين .
ساد الصمت قليلا كاّنهم يستمرئون الخبر و البيرة معا و بنفس الحاسة ، و راح كلّ منهم يقوم بعمليات حسابية ذهنية لما سيوفّره من الزيادة ، و مقدار ما سيزيده من القوارير يوميا .
عادوا إلى الكلام ، فتطرقوا إلى الأسباب التي دعت الدولة إلى هذه الزيادة غير المنتظرة ، و التي ستكلّف الميزانية نفقات كثيرة إذ عدد الموظفين يحسب بالملايين ، و إلى الموارد الجديدة التي توفّرت للدولة لتقدم على هذه الخطوة . استقرّ عندهم الرّأي على أنّ صادرات البترول و الفسفاط قد شهدت ارتفاعا في الحجم و في السعر في المدّة الأخيرة ، إضافة إلى أنّ الصابة هذه السنة وافرة ، و هذا من شأنه أن ينعش الاقتصاد و يزيد في الثروة الوطنية . و لا بدّ أن الدولة قد قامت بدراسة دقيقة لهذه الزيادات و كيفية تغطيتها . الدولة لا تقدم على شيء كهذا إلاّ بعد دراسة دقيقة .
سمح الجماعة لأنفسهم بزيادة قارورة لكلّ منهم على المعتاد هذه الليلة على حساب الزيادة المنتظرة ، و لسان حالهم يقول سنغطي النقص في المصروف الشهري بالزيادة القادمة . حتى إذا لم ندفع للجزار أو الخضار أو العطار المبلغ كاملا سيقبل عندما يسمع بالزيادة في الأجور . ثم خرجوا على أن يلتقوا غدا في نفس الموعد و المكان .
في الصباح و في طريقهما إلى العمل اشترى كل من سلطان و عبد الحق جريدة " الصدق " و هي جريدة شبه رسمية ، لم يعرف عنها أنّها تأتي بأخبار غير ثابتة خاصّة إذا تعلّق الأمر بالأخبار الوطنية ، فهي تأخذ أخبارها مباشرة من مراكز السلطة ، تستجوب الوزراء و كتاب الدولة و المديرين العامين و هم يصرحون لها بكل جديد . أمّا بوريشة فلم يكن في حاجة إلى اقتناء صحيفة ، لا يثق إلاّ بصحيفته . قرأ كلّ من عبد الحق و سلطان العناوين الرئيسية في الصفحة الأولى بحثا عن الخبر الأهم . لم يخب ظنهما الخبر صحيح لا شكّ في ذلك . ها هو مكتوب بخط بارز على يمين الصفحة الأولى ، و على اليسار خبر آخر : الزيادة في الأسعار " قررت الدولة الزيادة في أسعار المواد الغذائية بنسبة خمسة في المائة ، و في المحروقات بنسبة سبعة في المائة ابتداء من تاريخ اليوم ".
لم يركزا كثيرا على الخبر الثاني ، تركا أمر التثبت منه و فهمه لفترة لاحقة .
عندما اجتمعوا بعد العمل في الحانة ، أخرج منهم هاتفه الجوال و فتح الحاسبة . انطلقوا في عمليات جمع و ضرب و طرح و قسمة . انتهوا إلى نتيجة واحدة : ابتداء من الشهر القادم لن يتمكنوا من توفير ثمن البيرة .
و هم يهمّون بمغادرة الحانة رأوا على قناة الجزيرة خبرا عاجلا . فمضوا يلعنون أمريكا و إسرائيل و الزيادات في الأجور .
ماي 2010
* كلمة " وكالة " تعني في الدارجة التونسية فندقا متواضعا