فيصل الزوايدي - الجـدار الأحمر ؟

ارتقى الديكُ صخرةً صغيرةً و أطلقَ صيحةً قصيرةً كـأنـه يؤدِّي واجبا ثقيلا ثـمّ همس لنـفسه قــائـلا : مــنذ أن نَقُصَت دجاجاتُ القريةِ أصبح العملُ مُـمِلا .. يـخرجُ شـيخٌ ببطءٍ من داره و يتخذُ سبيلا يـعرفُها جيدًا نـحو الجامعِ و الظلمةُ لا تزال تُلَملمُ بقايـاها بتثاقلٍ عائدةً إلـى خدرِها .. يقترب الشيخ من ساحةٍ حذوَ البُرجِ القَديـمِ ، برجٌ ترابـيُّ اللونِ قديـمٌ جـدًّا و لا يعرف أحدٌ تاريخَ بنائه و قد نال منه الإهمال منذ سنوات فتصدعت جـوانبه و تساقطت بعض حجارته و نبتـت عليه أعشابٌ ..و يلحـظُ شيخُنا وقوف جَارٍ له فـي الـمكان مبهوتًا فارتفعَ بِبَصَرِهِ إلـى حيث ينظرُ فـهَالَه ما رأى: كان جدارُ البُرجِ الـمواجِه للساحةِ أحـمرَ اللونِ .. نعم أحــمر اللون ..
في دقائـقَ قليلةٍ تـجمّعَ أهلُ القريةِ عند البُرجِ و الـجدارُ أمامهم شامخٌ بـحُمرتِهِ الـجديدةِ .. انفتح فمُ الشيخِ عن أسنانٍ صفراءَ قليلةٍ تباعَدت عندَ قولِهِ بغَيظٍ : "من الـخبيث الذي فعلَ هذا ؟ كيف استطاع أن يلطِّــخَ البرجَ و يعتـدي على تراثِ أجدادنا ؟. قال مديرُ الـمدرسةِ بعَصبيةٍ واضحةٍ : "لا يفعلُ هذا إلا الصِّبيانُ ، هـؤلاء الشياطين إنّـي أعرفهم .. لقد انتظروا انصرافَنا من صلاة العشاء البارحةَ و قاموا بـهذه الفعلةِ ".. أمَّن على قولِهِ بـعضُ الرِّجالِ لكنَّ إمامَ الـجامعِ حرّكَ رأسه يـمينًا و شـمالًا رافضًـا ذلك الرأي :" و كيفَ بلـغوا أقصى الـجِـدارِ وهو عالٍ جدًّا كما ترى ؟ و أيـن آثارُ الطِّلاءِ و رائِحـته ؟". ثـم التفت إلـى الـجمع رافعا يديه قائلا :" إنَّ هذه آية على قُدرةِ الله عزَّ و جلّ ، أرسلها إلينا ليُنَــبِّهَنا إلى وُجوبِ طاعتِه بعـد ما ظَهرَ من تَـجاهُرٍ بـمعصيته "..ارتفعت بينَ الـحاضـرينَ أصواتُ استغــفارٍ و استرحامٍ .. فـي آخرِ الـجمعِ وقفت فتاتانِ تستمعانِ إلـى ما يُقال حولـهما،و قالت إحـداهُما عابِثةً و كانت طويلةً أكثرَ من اللازم :" لِـمَ لا يكونُ اللونُ الأحـمرُ صرعةَ الـجدرانِ هذا الـموسم ؟ " أجابتـها صديقـتُها بـحركةٍ مِن رأسِـها فـقد كانت منـشغلةً بـحِوارِ عُيونٍ صامتٍ مع شـابٍ وسيمٍ على مقربة منها .. و غـير بعـيدٍ عنهـما و قَفَت بعضُ النساءِ يُثَرثِرنَ حولَ الـحدثِ و ارتفـع عـن إحداهـن قولـها :" لا يفعلُ هـذا إلا " سيدي سالـم "، لا شـكَّ أنَّـه غاضــبٌ بعد اكتشافِ جُـثَّةِ الرضيع قُربَ ضَريـحِهِ .."
انتبهَ الـجمعُ إلى صوتِ مـحرِّكِ دراجةٍ نـاريَّةٍ فقد كـان العمدةُ منصرفًـا بعد أن أخبَر من حوله بأن عليه إعلام السُّلطِ بالأمرِ خشيةَ أن يكونَ ما وقعَ جزءًا من مُــخطَّطٍ إرهابـيٍّ للاعتداءِ على أمـنِ الوطنِ و سَلامَتِـهِ ، و انطـلقت دراجَتُه بصوتِـها الـمُزعِجِ تاركةً سـحابةَ دخانٍ أسودَ سرعان ما تبدَّدَت ..
مع اشتدادِ حَرارةِ الشَّمسِ تــناقَصَ عددُ الواقفينَ أمام الـجدارِ فقد غــادَرت الفتاتان و كانت إحداهُـما تنظرُ إلى الـجدارِ نظرةَ امتنانٍ في حينِ كان فَـتًى وسيمٌ يسجِّلُ رقمَ هاتفٍ .. انصرفَت كذلك النسوةُ و ذهبت إحداهُنَّ إلى دكانٍ مـجاورٍ لتشتري شـمعتينِ تقدمُهُما إلى مـقامِ" سيدي سالـم" و خبزةٍ تُـفرِّقُها بين صغار الـحي .. و بقي شبّان يتحدَّثون بـجدِّيةٍ بالغةٍ و عبَّر أحدهم عن خطورة هذا التَّحوُّلِ و رَبَطه بثقبِ الأوزونِ و الاحتباسِ الـحراري ، أما الآخر فقال إنَّه لا بُدَّ مــن دراسةٍ أركيولوجيةٍ للبرجِ لإدراكِ سرِّ هذا التحولِ أمَّا الثالثُ فحاولَ بـحماس إقناعـهما بأن تَغيُّرَ لونِ الـجدارِ إنـما هو مؤامرةٌ صهيونيةٌ لتشويهِ الـهويةِ و طَمسِ معالـمِها..
عند الـظهيرةِ فرغ الـمكانُ من النـاسِ إلا صبِيَّيْنِ كان أحدهـما يشدُّ قطعَ خيوطٍ قصيرةٍ إلــى بعضِها فيصنعُ بـها خيطًا طويلًا يضعُهُ لـجامًا فـي فَمِ صديقِهِ و ينصرفان ضَاحِكَيْنِ ..
عندئذ ارتفعَ صوتٌ جذلانُ عن الـجدارِ يقولُ : لقد نَـجحت حيلَتي ، لقد جلبتُ انتباهَهم إلـيَّ ، غدًا سأُغَيِّرُ لونـي إلى الأُرجُوانِـيِّ ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى