جعفر الديري - الآثاري والمؤرخ البحريني أحمد العبيدلي: تشخيص الجسم البشري في الأختام الدلمونية باعث على الدهشة.. تراث

كتب – جعفر الديري

أعرب الآثاري والمؤرخ البحريني أحمد العبيدلي عن اندهاشه باهتمام الأختام الدلمونية بتشخيص الجسم البشري، مؤكدا أنه من المدهش حقَّا اً أن يجد المرء في هذه الأختام كل هذا الاهتمام بالحضور البشري، ولربما كان هذا ما يعطيها ذلك الفعل المؤثر حين النظر إليها والتمعن فيها.
وأكد العدبيلي في محاضرته بمتحف البحرين الوطني حول جماليات الأختام الدلمونية، تسارع وتيرة النشر عن الأختام الديلمونية كما وكيفا، الأمر الذي مكن من الكشف عن مجموعات جيدة منها بسبب تكاثر عمليات الاستكشافات، لافتا إلى ان جهود الباحثين في تنظيم الأختام وتصنيفها ونشر قواعد بيانات عنها، أسهمت في نشر صور الأختام الديلمونية مما بات يمكن من النظر الى ناحية فنية لطالما ظلت غائبة عن جهود الدارسين.

الفردانية

وأوضح الباحث: لقد تزايد الاهتمام بالأختام الديلمونية خاصة مع الاهتمام الكبير بالفردانية في المنطقة العربية، فقد احتوى الفن المبثوث وسط هذه الأختام على فردانية مميزة ربما يحتاجها فنانون ومبدعون عرب وخليجيون على نحو الخصوص لتشمل جزء من تراثهم الذي يستوحون منه، فهذه الأختام التي أصبحت تحتل مكانة مميزة ان كان وسط المختصين أو الجهات الرسمية أو وسط الفنانين الممارسين ومسارات الثقافة الشعبية أصبح لها أثر في تمكين مطبوعات جديدة من البروز، واعادة النظر في الجوانب الجمالية والفنية كأمور رئيسية في دراسة تلك التركة وجعلها في المتناول، وتبرز ضرورة ذلك بشكل أكبر لسببين: الأول أن الأختام ضئيلة الحجم يصعب على المهتم بها أن ينظر اليها بأية حال، والثاني: انها محفورة وقصد بها أن تختم ليبرز سطحها النافر الذي يمكن لتصميمها أن تبرز للعيان والتذوق، ولذلك يمكن القول أن تلك القطع تستعصي بطبيعتها على التذوق الفني.
وحول الرؤية الآثارية والفنية للأختام، أكد العبديلي: لابد من التمييز حين النظر في أعمال وردت إلينا من حضارات مبكرة بين ما يقع ضمن اهتمام الآثاري وبين ما يعنى به الناقد أو المؤرخ الفني، ومعرفة جوانب التداخل والإفتراق بين حقلي البحث المرتبطين معاً والمختلفين في آن. فإن كان دور المؤرخ يبدأ حين ينتهي دور الآثاري كذلك الأمر بالنسبة للمعتني بشؤون الفن تاريخا أو إبداعاً، فإنه ينطلق بعد أن يزوده الآثاري بمادة يُركن إلى مصداقيتها ومدروسة قدر الإمكان.

قوة التصميم

وأوضح بخصوص تصميم الأختام: يكاد هذا الجانب أن يشكل الأمر الأكثر إغراءاً لجذب المرء لتسليط الضوء على هذا التراث الفني. فلاشيء يأسر في الختم على الأرجح أكثر من قوة التصميم التي حقنها المبدع/الحرفي في السطح الضئيل الحجم الذي لا يتعدى في غالب الأحيان بضعة سنتيمترات مربعة وتحت وطأة الشكل المستدير (أو المائل للمستدير) وهو سطح متطلب للتشكيل مقارنة مع نسق مربع أو مستطيل أو البيضاوي قطعاً. اذ لا بد من الإشارة إلى بضعة أمور. أولها أن المبدع الحرفي القديم كان واعياً لأهمية التصميم. ولو كنا أكثر دقة لقال المرء بأنه كان واعياً لحدود هذا الشكل المتاح له.
وأبدى العبيدلي اندهاشه باهتمام هذه الأختام بتشخيص الجسم البشري: كم يكون مدهشاً أن يجد المرء في هذه الأختام كل هذا الإهتمام بالحضور البشري ولربما كان هذا ما يعطيها ذلك الفعل المؤثر حين النظر إليها والتمعن فيها، اذ يرتفع استخدام البشر في شكل جماعات إلى مستوى عال في الختم (رت K16:29:03). فيقف خمسة رجال ملتحين بمآزر طويلة وهم ينظرون إلى اليسار ويمسك كل منهم بيد الآخر. فيلتصق الخمسة في مشهد كأنه مشهد تعاضد أو وقوف تضامني مشترك إزاء أمر ما. تتطاول قامة الرجال في جمال أخاذ، وفي صفاء ورزانة تذكر بقامات رجال السويسري جياكُمتي (1901-1966 ). وإذ استجاب النحّات إلى طبيعة الختم البيضاوي فساوى في مستوى الرؤوس على أنه قام بتقصير القامات من جانب الأرجل لتنسجم وانحناء المحيط. ومع ذلك تتقبل العين دون شعور بأن هناك عدم اتساق أو دقة في رسم الجسم البشري.

غياب النص

ومتعرضا لغياب النص في هذه الختام، قال العبيدي: إن النص يغيب من أختام دلمون، وبالذات ضمن المجموعة قيد الإستعراض. وترد بعض النصوص في أختام أخرى من بلاد الرافدين مثلاً لتشير إلى صاحب النص أو الإله الذي كرس الختم له. ويشكل خلو النص الدلموني مناسبة أخرى للحديث عن مميزات ربما يكون التنويه بها شيئاً ذا أهمية حين النظر إليها من زاوية تشكيلية.
بينما يرى الباحث بخصوص التنوع والوحدة أن تصميمات الأختام تمكنت من المحافظة على الوحدة عبر التفاعل مع عدد محدود من الرموز التي استخدمتها. فلقد صور منفذو الأختام أعمالهم مستخدمين فيها بشراً وحيوانات وأشكالا لأشياء طبيعية وأخرى مجردة. وكانت تلك الرموز قد استحضرت أشياء مألوفة عند الناظر لكونها من البيئة، بحيث تعزز لديه تآلفه وحميميته مع التصميم الموضوع. ولقد استحضر الفنان عدداً محدوداً من الرموز الدالة التي ظلت ضمن قدر محدود يتيح للمطلع عليها أن يتعرف على دلالاتها دون بالغ جهد.
وأضاف العبديلي بخصوص الإيقاع والفردانية والتكليفات الأولى في التاريخ: لربما كان هذا الجانب التصميمي هو أقل الجوانب صعوبة من حيث أن الأختام بطبيعة انعدام الألوان بها، ولمحدودية المدلولات الأيقونية لرسومها قد حافظت على إيقاعها وانتظام ذلك الإيقاع. بحيث أن هناك تواتراً في مكونات السطح المصمم، وإن صح ما يتوقعه الأثاريون من أن الكثير من تلك الأختام هي أختام شخصية يمتلكها الأفراد الرجال والنساء، فإنه يحق للمرء أن يتوقع أن هؤلاء الأفراد كانوا يقومون بطلب صنعها من الحرفيين المبدعين لقاء أجر معين، جاز لنا أن ننظر لها على أنها من أوائل التكليفات الفنية في التاريخ.
وحول غياب الألوان من هذه الأختام أرجع العبديلي ذلك على الأرجح لصغر حجمها، ولطبيعة استخدامها. على أن هذا الغياب يضع المبدع أمام تحدي اقتصار تعامله مع الرسم والظل وانعكاسات الضوء على نتوءات الجسم الذي سيصنع من الطين أو الشمع، وإن كانت هناك بعض الإشارات إلى احتمال أن تكون تلك الطبعات قد أنجزت في بعض الأحيان على الأقمشة أو الجلود على الخبز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى