عمر الجملي - بيبــه

لا زلت أحتفظ في ذاكرتي بتفاصيل ذلك اليوم الربيعي الجميل. كنت برفقة اخوتي وأخواتي في جنتنا الواقعة في أطراف الواحة الكبيرة. كان من عادتنا قضاء يوم العطلة في الجنة، نساعد جدّنا في أعماله الفلاحية من ناحية، ونقضي يوما بين أحضان الطبيعة من ناحية أخرى. لذلك ترانا في انتظار اليوم الموعود على أحر من الجمر.
في ذلك اليوم كانت نوبة جنتنا لأخذ حصتها من مياه الرّي. كان ذلك يرتبط عادة بنشاط حثيث وجهود كبيرة نبذلها في سبيل ألاّ تضيع قطرة ماء واحدة، فالماء في هذه الربوع كنز لا أثمن منه ولا أغلى.
قام جدّي بتوزيعنا ـ اخوتي وأنا ـ على كل أنحاء الجنة وأمرنا بمراقبة تدفق المياه من الجدول الرئيسي الذي يشق كامل أرضها، حتّى الجداول الفرعية التي توصل المياه إلى كل نخلة بالقدر الذي تحتاجه.
وجدت نفسي في أقصى مكان من الجنة، بمحاذاة الخندق الكبير الذي تتجمع فيه مياه الريّ إذا زادت عن الحاجة، كي لا تشكل خطرا على النباتات. وهذا الخندق يمثّل في ذات الوقت حداّ طبيعيا يفصل جنتنا عن جنة جارنا، وهو لذلك عميق بطريقة تجعله صعب الاجتياز. كان المكان قصيّا، وخمنت أن الماء سيستغرق وقتا طويلا قبل أن يصل إلى حيث كنت. رحت أمضي الوقت في قطع القصب النابت على ضفتي الخندق. كنت ولازلت أحمل في داخلي احتراما عميقا لهذه النبتة العجيبة، فقد قرأت في أحد كتب جدي القديمة أن هذه النبتة التي تنتمي إلى فصيلة النجيليّات، كان يُطلق عليها في الماضي اسم النبتة السحرية. وذلك لأنهم كانوا يصنعون منها الناي فتخرج أنغاما عذبة، ويقطعونها بحيث تكون قلما يكتبون به حروفا على غاية من الروعة والجمال. وقد قال لي جدي وقتها : ألا تعتقد أن الموسيقى والكتابة من أعظم ما اخترع الإنسان؟
كنت أتخيّر النبتة الكبيرة، بحيث أتمكّن من الحصول على أكبر عدد من الأقلام، ففي مدرستنا ناد للخط العربي أحرص على تزويده بالعديد منها، فلا يزال جدّي بارعا في صناعة أقلام قادرة على كتابة الخط النسخي والرقعي والفارسي وغيرها من تنويعات الخط العربي المشهود له بالجمال والأناقة.
كنت أقلع نبات القصب وأنا أتحرك في حذر شديد مخافة السقوط في الخندق، ثم أمدها على الأرض إلى جانب أخواتها حتى كدت أحصل على كومة لا بأس بها. حين هممت بقلع آخر نبتة قصب، استرعى انتباهي وجود شيء غريب بين سيقان القصب. كان الشيء داكن اللون ومتوسّط الحجم. واقتربت أكثر حتّى يتسنّى لي تبيّنه. وسرعان ما انكشفت لي حقيقة مرّة ومؤلمة ... كلبة جارنا الدهماء جثّة لا حراك بها، وحولها خمسة من جرائها نافقة، وجثثها طافحة في ماء الخندق. أدركت بسرعة أن الكلبة غرقت مع جرائها وهي تحاول عبور الخندق. وكاد قلب الطفل الذي أحمله بين ضلوعي ينفطر لوعة على المصير الفاجع الذي لاقته هذه الكلبة المسكينة مع جرائها. لكن صوتا اقتلعني فجأة من ذهولي... كان الصوت أشبه بأنين خافت، ينبعث من مكان غير بعيد عنّي. التفتّ صوب مجرى الماء فإذا بجرو صغير يتحرّك باتّجاهي متعثرا. أسرعت إليه والتقطته في لهفة. وحينما تأكدت أنّه الناجي الوحيد من حادثة الغرق، عدوت به صوب المكان الذي يوجد فيه جدّي، وقصصت عليه الحكاية من أولّها. أخذ جدّي الجرو بين يديه وتفحّصه جيّدا وقال : « إنّها أنثى، لم يمر أكثر من أسبوع على ولادتها، فعيناها ما زالتا مغمضتين» . حوقل جدّي وتعوّذ من الشيطان وأضاف في أسف واضح : « لن تتمكن هذه الصغيرة من مواصلة العيش بسهولة».
اقترحت على جدي أن أحمل الكلبة الصغيرة إلى المنزل للعناية بها، وبذلك نكون قد ساهمنا في إنقاذها. تهللت أسارير جدي وبدا مرحبا بالفكرة، لكنه حكّ لحيته بباطن يده كمن تذكّر شيئا وقال في شيء من الأسف : « سيكون من العسير علينا إقناع والدتك بوجود الكلبة الصغيرة في المنزل، فهي لا تحبّ الحيوانات ولا تطيقها».
أفهمت جدّي أن والدتي عندما تعرف حكاية هذه الكلبة الصغيرة المنكوبة فلن تكون أقل منّا رحمة بها.
مع اختفاء آخر أشعة الشمس خلف جريد النخيل، انتهت أعمال الرّي في الجنة، فشددنا الرحال إلى المنزل، وبصحبتنا مخلوقة صغيرة، وكان من الواضح أنها استولت على اهتمام اخوتي. كنا ونحن في طريق العودة نتعاقب على حملها بين أيدينا، حتّى إذا وصلنا أسرعنا بإخفائها عن والدتنا.
جلسنا للعشاء حول جفنة الكسكسي، فوجدها جدي فرصة لمفاتحة والدتي في شأن الكلبة الصغيرة. أطرقت أمّي قليلا وقالت : « يا والدي، أنت ترى أن منزلنا يتكوّن من غرفتين، غرفة لك، وغرفة أقيم فيها مع الأطفال، فأين بربّك ستعيش هذه الكلبة؟ ثم إنّي أخاف أن يسيء أولادي معاملتها فيعذبونها، فيرتكبون بذلك ذنبا في حق حيوان بريء ».
قمت بإفهام والدتي أننا تعلمنا في المدرسة كيفية التعايش مع الحيوانات. وأن لا خطر منها إذا طبقّنا شروط حفظ الصحة بطريقة سليمة. وأني سأصنع للكلبة الصغيرة بيتا خشبيا بعيدا عن المكان الذي ننام فيه. ثم أقنعها جدي أننا لن نعذب الكلبة الصغيرة لأنها أثارت شفقتنا من جراء النكبة التي ألمّت بها. تردّدت أمي قليلا، ولكنها سرعان ما وافقت بشرط أن نحترم التزاماتنا. فرحنا للموافقة، ورأينا أن الكلبة الصغيرة لابد لها من أن تحمل اسما نناديها به. فطفق اخوتي يقترحون أسماء كثيرة لها، ولم ينل أحدها الرضا التام، حتّى كاد جدالنا يتحوّل إلى خصام. لكن جدي حسم الأمر قائلا : « لقد وجدتم الجرو في جدول ماء.... أليس كذلك ؟ في اللغة العربية يسمى مجرى الماء بيب. لذلك رأيت أنه من المناسب أن نطلق على الكلبة اسم بيبه لنتذكّر جميعا المكان الذي جاءت منه».
نال الاسم الجديد إعجاب الجميع لطرافته. ومنذ ذلك اليوم صارت الكلبة بيبه فردا من أفراد العائلة.
سكنت بيبه البيت الخشبي الذي صنعته لها، وتوليت أمر إرضاعها بنفسي، حتّى كبرت قليلا وصارت قادرة بنفسها على الأكل. منعنا عنها المراقد والمطبخ وأواني الأكل. فتعلمت ذلك بسرعة عجيبة. فكانت لا تقترب من الأماكن المحرمة عليها حتّى وإن دعوناها لذلك. ولاحظنا أنها شديدة الذكاء وسريعة التعلّم. ولم تكن فظة كبقية أبناء جنسها، فكانت تقوم بتحريك ذيلها علامة على الترحيب في وجه كل ضيف يزورنا. أما أحب شيء إلى قلب بيبه فهو الوقت الذي نقضيه معها في لعب الكرة. كانت تحب القفز والعدو، وكانت تنقض على الكرة فتحملها بين فكيها، وتهرب بها رافضة أن تعيدها إلينا إلا إذا أعطيناها قطعة حلوى. عند ذلك تنشغل عن الكرة بلعق الحلوى، وكان ذلك يثير سعادتنا وفرحنا.
مرت السنوات تباعا، وصارت بيبة كلبة تثير إعجاب كل من يراها. وتوطدت العلاقة بينها وبيننا حتّى صرنا لا نقوى على فراقها.
مرت السنوات بسرعة.... حتى كان ذلك العام الذي لن تمحى أحداثه من ذاكرتنا. جاء الشتاء في ذلك العام ممطرا على غير العادة. حتّى أن الأمطار ظلت تتهاطل أسبوعا كاملا وبلا انقطاع.
كان ذلك شيئا لم نعتده، ولم تعتده المباني الطينية التي كنا نسكنها. وسرعان ما جاءتنا الأنباء من هنا وهناك عن حدوث انهيارات في المباني القديمة، وعن تشرّد عائلات كثيرة من جراء ذلك. تحولت الأمطار الغزيرة إلى سيول عارمة، اقتلعت الأخضر واليابس في طريقها. وصار الجميع يتحدثون عن كارثة بكل المعاني.
في الليلة السابعة لنزول الأمطار ظهر التوتّر على بيبه، وأكثرت من النباح على غير عادتها، مما جعلنا نزجرها عديد المرّات لأنها أزعجتنا بذلك النباح الغريب الذي لم نسمعه منها من قبل.
حان موعد النوم، فآوينا إلى مخادعنا، وبعد أقل من ساعة غطّ الجميع في نوم عميق إلا أنا. أرقت تلك الليلة، فحالة بيبه حيرتني وطيّرت النوم من عيني. أعياني التفكير في الأمر، وتقدّم بي الليل فغفوت قليلا. لكن خربشة على الباب انتزعتني من النوم انتزاعا. أحسست بقلبي يكاد يقفز من قفصي الصدري، لكن الهدوء بدأ يعود إليّ لما عرفت في الصوت مخالب بيبه وهي تضرب بها على الباب. أسرعت إليها قبل أن تستيقظ أمّي. وجدتها مضطربة، فهدأتها، ,أعدتها إلى بيتها الخشبي. وخمنت أنها خائفة من المطر الذي كان ينزل في ذلك الوقت مدرارا.
عند الفجر أفقت على نفس الصوت. بيبه تخمش الباب بمخالبها، ولكن في إصرار عجيب. وسرعان ما بدأت في نباح شديد. استيقظ الجميع لذلك وانتابتهم الحيرة مما يحدث. واستطعنا سماع جدي يزجر بيبه كي تعود إلى مخدعها، لكنّها لم تأبه به وواصلت ما كانت بصدده. بل إنها ضاعفت من نباحها، وبدا لنا أنها في حالة هياج شديد. حين اقترب منها جدي وكان قد غادر غرفته، كشرت بيبه عن أنيابها وهاجمته بشراسة، مما حدا به إلى الفرار بجلده. هرب جدي إلى غرفته وأغلق بابها دون الكلبة الهائجة.
ساد الوجوم في غرفتنا ونظرت إلىّ أمي معاتبة وقالت : « هل رأيت ؟ لقد كاد جدك يكون ضحية لهذه الكلبة المسعورة، سأ......».
ولم تستطع أمي مواصلة حديثها. ففي تلك اللحظة انهار الباب الهرم تحت ضربات بيبه. وقفزت بيننا في الغرفة وعيناها تتقدان شررا، وكانت مكشرّة عن أنيابها. فما كان منّا إلا أن اندفعنا بكل ما أوتينا من قوّة إلى الحوش تاركين لها الغرفة اتقاء لشرها.
ما زلت أذكر ما حدث بعد ذلك بكل تفاصيله كأنه حدث منذ قليل... لا يستطيع المرء أن ينسى قطّ تفاصيل اللحظات الفاصلة بين الموت والحياة.
حين غادر آخرنا غرفة الرعب تلك. صمّ آذننا صوت رهيب أقوى بكثير من هزيم الرعد. التفتنا جميعا صوب مصدر الصوت. هالنا ما رأت أعيننا : لقد انهارت الغرفة دفعة واحدة كأنها قدّت من قش. تشبع السقف والجدران الطينية بماء المطر فانهارت الغرفة كأن قنبلة كبيرة دمّرتها.
ولولت أمي من شدّة المفاجئة، وسارعت إلى عدّنا أكثر من مرّة. وحين تأكدت أن أحدا لم يكن في الغرفة حمدت الله وبكت. خرج جدّي من غرفته مسرعا وانظم إلينا وهو لا يصدّق ما حدث.
لم ندر كم بقينا على تلك الحال، لكننا انتبهنا على صوت أختي الصغيرة وهي تبكي وتقول : « بيبه ... المسكينة... لقد انهارت الغرفة عليها....».
كان يلزمنا ذلك الصوت البريء لندرك حقيقة ما حدث .... لقد ضحّت بيبه بحياتها من أجل أن تنقذنا جميعا. شيء ما في غريزتها الحيوانيّة جعلها تحس بانهيار الغرفة فحاولت تنبيهنا لذلك. حاولت في المرّة الأولى فلم تفلح، مما اضطرّها إلى استعمال ذلك الأسلوب الذي أرعبنا. لكنها نجحت في مسعاها وأنقذتنا من موت محقق بعدما دفعت المسكينة حياتها لذلك.
بعد أن أدركنا ذلك، غرقنا في حزن عميق. وساد الوجوم، غير أن صغير اخوتي انفجر بالبكاء، واستطعت على حلكة المكان أن ألمح بريق دمعة سالت على خد أمي.
ولا أعرف لماذا غمرني إحساس بأن بيبه ما زالت على قيد الحياة. فاندفعت دون أن أشعر إلى الركام، وأنا أقول : « أرجوكم ساعدوني على الحفر ... فبيبه ما زالت حيّة».
لم يحاول أحد منعي من ذلك العمل الذي أقدمت عليه، على خطورته. بل إن الجميع اندفعوا يحفرون. وبعد ساعة من العمل المضني تحت المطر الغزير، تناهى إلى مسامعنا صوت مكتوم، سرعان ما بدأ يتضّح شيئا فشيئا. ركزنا الحفر على المكان الذي كان الصوت ينبعث منه. وكم كانت مفاجئتنا كبيرة حينما قفزت بيبه إلى حضني وهي تلعق وجهي ويدي ملوحة بذيلها كأنها تشكرني على ما فعلت.
لقد اتضّح لنا فيما بعد أن في لحظة انهيار السقف، كانت بيبه واقفة بجانب الصندوق الذي كانت أمي تضع فيه أمتعتها. وبما أن السقف كان من دعامات مصنوعة من جذوع النخيل، فإن بعض الدعامات سقطت أفقيا على الصندوق، وحالت بين بيبه وبين التراب والحجارة، مشكّلة بذلك مأوى تحت الركام استطاعت بيبه أن تبقى فيه بسلام حتّى لحظة إنقاذها.
لقد سمعنا قبل ذلك وبعده عن الكلاب التي يضرب بها المثل في الوفاء. لكن بيبه بقيت في نظرنا أروع الكلاب وأوفاها.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى