بسمة الشوالي - ردّة

اِتّخذتُ مكاني المعهود من قارعة الانتظار ومقعد الصّبر المتهالك يتخلخل تحتي وأمواج البحر تتضرّم كأشواقي.
كان موعد تلاقينا الخامسة تماما من مساء الرّابع من ماي سنة أربع وألفيْن . ثلاث سنوات مرّت على افتراقنا. أحسب أنّي لو رأيته الآن لظننت أنّي لم أغادره إلاّ غيبة وعي قصيرة وأنّي بَعْدُ إلى جانبه في اليوم ذاته والزّمن نفسه.
نظرتُ في ساعتي. عقاربها كسلى متبرّمة الحركة كمن يغادر دَوْح الأحلام الجميلة.
ما تزال ساعة أخرى على موعد وصوله ، وأنا السّابقة بالمجيء أخاتل رجفة شوقي وأمنح وجهي المتلعثم فرصة إضافيّة ليستعيد بريق المساحيق والألوان التي تُوَشِّحه ، وأمطّط حينا فآخر فستاني ليطول قليلا.

المدينة تزدحم حركة وتضجّ بالنّاس، والشّاطئ أزواج عشق يروحون ويغدون. في غيابك لم تتغيّر ملامح المدينة بما يدهشك يا قيس . كلّ شيء ظلّ على حاله سوى استفحال شكوى الزّمن على الأفواه.

كنتُ أنيقة جدّا هذا اليوم، عارية الذّراعين والرّكبتين كما لم يَعْتدْ أن يراني، والهواء الغريب يتسلّل إلى جسمي من شقّ الثوب على صدري، وبَشَرَتي التي لم تعرف كهذا السّفور من قبل يترجرج بياضها مبقّعا بالخجل ..
اِِلْتَفَتُّ حولي كثيرا لأرصد اللّعنات التي أحسبها ترقبني ، غير أنّي سرعان ما اطمأننت وعراء الرّكب والأذرع متفشّ حولي ، والشّعور منسدلة تغمر وجوها شبه متلاصقة يحفحف بينها هوى فضائيّات الغناء الرّاقصة تبثها الهوائيّات الرّابضة على السّطوح من الذّرى الشّاهقة إلى مرابض الحمير ومعالف الأبقار في ربوعنا الحجريّة .
لكأنّ هؤلاء الصّبايا خرجن مثلي إلى مواعيدهنّ من سيناريو أغنية عربيّة تركتهنّ كما تركتني، بعد دقائق من الفرجة ، مفغورة الحواسّ والشّهوات بين دهشة ودهشة ، وشبَه ما تلبس المغنّية الحسناء اخترت فستاني ودفعت في ثمنه وثمن الحذاء ومحفظة اليد ما استطعت أن أكنِز من أجرة عملي في الحقول . حتى انثناءات جسدها الرّشيق على مسرح اللّقاء حفظتها وأدّيتها فشهدت لي المرآة بالمَيَس الكافي لاحتكار وجهه المنصرف عنّي مدّة ثلاث سنين تامّات الوجع مكتملات الأسى ..
أتلهّف لوقع المفاجأة عليه . سيعلم أنّي خرجت من قماط الخجل لأجله وأنّي غيّرت الكثير من عاداتي لأستعيد شغف عينيه الذي استلبته الأجنبيّات طويلا .

مُزْنُ الذّكريات تنهمر على مكانه الخالي إلى جانبي وتثير حنين المساء لصوته.
كان على حزن كثيف صوته ذلك المساء الأخير قبل سفره ، يغرورق كلّما داهمه الضّحك، ويَكْلَحُ إذا صمت. وكان يلتهم بعينيه الصّور المتحرّكة حولنا وتفاصيل الأشياء المحيطة بنا. يبتلعني بنظرة واحدة ثمّ يزفرني فأرتاب: أتعشقني عيناه حقّا أم يتمرّن فيَّ على عشق آخر يصادفه بعد السّفر ..؟
كان البحر ، في ذلك اليوم الرّابع من شهر ماي سنة واحد وألفيْن ، يمدّ نحونا ويجزر ، وقاربه الورقيّ يترنّح على الصّفحة المائجة بكسل يحمل حبّتيْ قمح وضعهما فيه ، والنّهار ينسلخ ببطء.
نفض عنه مجلس الحجر وقام متوتّرا . نزع حذاءه وجوْربيْه . مشى حتى الرّكبتين في الماء . قذف البحرَ بحفنة أرض ، قمحٍ مخلوط بِحَسكٍ وتراب جافّ وحَصَب فوجئتُ به يحتفظ بها في جيْبه كأنّه قرّر فعل ذلك سلفا. اِلْتفتَ إليّ بعدئذ بصوت على أُهْبة العويل:
- أحلم يا أمل أن أزرع هذه الزّرقة المتوحّشة حقلا أخضر نرتمي عليه بملء القرّ في عظامنا ونركض فيه بلا هوادة .. تنفلِتِين من بين يديّ وأُدْرِكُكِ سريعا ..
أتُرَى لو كان بيننا وبين تلك البلدان البعيدة حقول من القمح نقطعها سعيا بدل البحار الغامضة والأجواء المتقلّبة، أكنّا نُسَمّي السّفر بين طرفيْ الحقل الواحد غربة ؟
- السّعي درجات فمن يركب حاصدة غير من يركب منجلا. والفصول دُوَلٌ، عندما يجيء الصّيف ويفتح علينا الطوب الظامئ جحور العقارب والأفاعي تلاحق أعقابنا بالعقر، سيتمنّى العاطلون عن الأمل لو تكون كلّ الحقول الجرداء بحارا غامضة تشغل يأسهم بأحلام الكنوز المدفونة في الجزر المهجورة وحُورِها العِين وقطوفها الدّانية.. أتذكر تلك العقرب التي لدغتني يا قيس ؟
- أذكر أنّي لعقت دمك بنهم ونفثت السّمّ .. لذيذ دمك .. أعطني قبلة ..
- اِحذر .. ستلدغك أفعى .. وأنا لا أحسن لعق الدّماء ..

دنا منّي. جلس إليّ . اِزورّت عيناه عن حدّ الرّصانة . اِنتهر بصمتي المرتعش. وقف . دسّ يديه في جيبيْ بنطاله وغام عنّي بعض الشرود ..
عندما انتبه إليّ صار حزنه المسائيّ صخبا واضطرابا وصرت في هواه خَفْقَ أجنحة تضرب في الجموح ويقعدها الجسم الثقيل..

- غدا ينشر البحر أشرعتي لرياح غربيّة .. غدا سفر يا أمل .. الفرح ينْتِش المخاوف النابتة بين الضّلوع ، يغسل أمكنة قعدتُ فيها منتظرة من روائح الرّكود، يصرّف أفعال الصّبر المعتلة في زمن لا تطاله حروف النّفي ولا يدخل عليه ناسخ باستدراك .. قضيتُ سنين طويلة على عَطَل يُلْهيني الصّبر بالانتظار حتى استهلكتني الأمنيات . يوما ما كدت أمزّق شهادتي العلميّة . ماذا يعني أن يناضل المرء لينجح بتفوّق إلاّ أن يعمل بتفوّق ويعيش بامتياز.. ؟ هاتان اليدان .. هذا الرّأس الذي أحمل يا أمل لم يخلق لمثل ذلك الفقر الذي أنتسب إليه حتى قعوري الرّطبة . لا تنسيْني يا أمل . سأعود إليك. رتّب صديقي أمر إقامتي هناك . وعدني بعمل محترم وأجر جيّد. أمريكا.. أمريكا.. يا سماء تتفتّح في حلمي على أرجاء الحريّة المتّسعة وأرضا تنبسط لغدي خضراء مُخْصِبة لا مسغبة ولا متربة ولا أيّام عجفاء يأكلهنّ أرق اللّيالي الفارغة .. يا نجاحي الأمثل.. أمريكا يا أرجوحة الحبّ المدلّل ..
أتصدّقين يا أمل أنّي أغادر وكر الشّقاء هذا إلى أمريكا..؟ سأعود لنتزوّج . اِنتظريني .
الغربة تجتاحني يا أمل . البكاء يدهمني .. الخوف يجدّد نسله فيَّ .. أفتقد حضن أمّي .. هدهدي ارتباكي يا أمل .. اِنسدلي عليّ حتى الغد .. لا تتركي قلبي يبيت على سفر .. قبّليني لأندفق إليك، لآمن فيك .. قد يمتلئ فمي بالملح وليس لشفتيّ ذاكرة تهديني .. قبّليني يا أمل لأعود ..

أدمع لهفة . أهمّ به فتجزرني عصا أبي العوجاء يتّكئ عليها في رعي شُوَيْهاته الهزيلة، وتتوعّدني زوجة أبي التي تتحيّن زلاّتي وتلوّح على عتبة الرّجوع بمكنسة من أعواد الطّرفاء اليابسة ..
أجمح لحظة وأُقْبِل على كسْر أطواق تكبّلني فينحلّ قارب الورق في الماء وتغرق حبّتا القمح وأعود من وعوده خالية الأمل أرتكن في خوف قصيّ من نفسي أطارح الواقع أسئلة مريرة : حبّ وسفر وبعد..؟
أتذرّع بالنّاس المارّين على مجلسنا غير عابئين وأدفع بالكلمات نحو الغموض :
- إذا اشتدّت عليكَ الغربة وأوجعكَ الحنين اُغمر حفنة من حاشية البحر المُطلّة على الوطن وافرُكها ستجدني حبّات فيها .ألستَ ستنبته قمحا ..؟
- أضمّكِ إذن فيقوى ساعداي يوم الحصاد .. شكّلي ذراعيّ على مقاس التضاريس في جسدك يا أمل وطوّقيني برائحة التّراب النّديّ مساءات الخريف من ربوعنا العطشى فلا أضرب في أرض غريبة حتى أرجع إليكِ ..

هدر البحر . زعقت باخرة هناك . اِنْذرفت مناديل الوداع وطارت أسراب الأغنيات الحزينة برسائل الأشواق الضائعة..
رَغَا الموج وانسفكت آهاته على مذابح الصّخر .. نعق الرّحيل على ظهر الباخرة التي هناك ..
يبتعد .. أراه يبتعد .. ومواسم الجدب تقترب معدّلة منبّه السّاعة على النّصب اليوميّ وأمسياتي تخلو من كلماته تَوْثر لوجهي المرهق وأنا عائدة عشايا باردة أو وامدة من تعب العمل في الحقول والمزارع ..
سقط فيَّ رَوْع . فرّخت الوساوس على ضفاف الجروح . أناخ ألم على صدري وبكت طفلة النّفس المروّعة ..
تمسّكت شديدا بمقعدي الحجريّ .. الانزلاق يدحرجني إلى مسقط الرّمل الغائص والسّراب يفتن عطشي..
أشرعت أبوابي للخوف وابتهلت بصوت راجف : ضُمّني .. ضُمّني ..
ذراعان من حديد وثير يَغُلاّني.. قلب يقرع قلبي ودمي يلتهب .. الخجل يربكني وآيات العشق تنشرح ولغتي تغدو بسيطة كالزّوال تعيث بأفعالي الصّارمة.. كلّ "لاء " إلى نَفْيٍ تتدلّى .. كلّ خوف يتلاشى.. كلّ عين تغمض .. وآلهة العشق تطوي دساتيرها وتنصرف.. وأنا.. بضمّة واحدة أجتاز العقبة وأقع في شوق جائر ينتهز ذهولي ويطوّعني ..
غِمْتُ في الذّكرى . اِستحوذت عَليّ التفاصيل الصّغيرة . المساء الغارب يغمس أذياله في الماء المورّد . الخامسة تماما . الآن موعدنا، لقاؤنا الأوّل غبّ فراق طويل مرير . الخامسة وعشر دقائق.. شوقي يتّقد . لم يأت بعد .. أنَكَثَ موعده؟ الخامسة والنّصف .. كم تمكر بي ساعتي اليدويّة، تنقر أرقام الزّمن نقرا وتعجّل بي إلى هاوية الوسواس ..
لا تسرفْ في الظنّ يا قلب هوَ ذا الحبيب يركن سيّارته الجميلة ويقبل علينا متلهّفا..

اِستغشى الكون الظّلمة فاستتر النّاس عن أوزار النّهار بالمراقد يتقلّبون فيها رَهَقا وأنينا . انطفأت الحركة إلاّ بعض الدّكاكين السّامرة . نباح الكلاب لا يفتر. السّماء بعيدة كأنّ مصابيحها لا تعني أرضنا بضياء. لكنّ بقعة الضّوء المتفجّرة في الصّدر المُترب من ساحة منزلنا أحرجت اللّيل وبعثرت الغفوات ، فهبّ النّاس من شتات المساكن يتحدّرون من كلّ نَهْدٍ ويتصاعدون من كلّ وَهْدٍ ويقبلون بالضّجيج والأسئلة إلى حفلة عرسي .

اللّيلة يُعقد قراني ثمّ يأخذني زوجي السيّد صادق إلى منزله الجميل على شاطئ البحر، نبيت عروسيْن ونصبح زوجين على سفر إلى بلد أوروبيّ لقضاء شهر العسل.

أيّ حظّ سعيد يرعاك يا أمل، لم تعرف هذه المنطقة المجدبة حفل زفاف كزفافك، ولم تحظ واحدة من فتياتها بمثل زوجك. وأيّ مأساة أنت يا قيس.. تغيب عنّي طويلا ولمّا تعود إليّ أفقدك في ليلة واحدة ولقاء وحيد ..!

كانت أفعال السّرور في منزلنا مظاهر شتّى وقوافي هازجة وأوزانا سكرى .
رائحة الشّاي المركّز تفوح من أرجاء السّاحة المفتوحة يخالطها مذاق التّراب المرشوش بألوان المشروبات. الحنّاء تتوهّج حمرة قانية مبقّعة بالسّواد في كفوف أدْمَت المَسَاحِي طراوتها وأكل الأديم أناملها، وينضح عطرها من شعور الصّبايا المهفهفة حرّة ، منسدلة ، طويلة حتى الأعجاز، بعد أن تخلّصت بالمناسبة من الأوشحة الكثيرة ومظلاّت السّعف المهترئة ، مثلما تخلّصت الوجوه المتبرّجة من لُزُوجَة العرق مدى ساعات العمل اليوميّة.
مذ خار عجل سمين تحت شجرة السّواك مقربة الزَّريبَة التي أنشأها أبي لقطيعه الجديد من الغنم، والبهجة تقتحم عقر الدّيار المتباعدة بفرقعة الدّرابيك ، وترخي الهرجَ حتى أواخر الاحتمال في براءة شامتة تُوغر خيبات النّساء الأخريات. خاصّة أولئك الملثّمات حتى العيون، محنيّات الظهور ، اللاّئي يقضين كامل اليوم منهمكات على مقابض المساحي الخشنة يعزقن الأراضي الجافّة ويسقينها من صباهنّ المنزوف عرقا غزيرا مقابل أجور زهيدة يكْفُلْنَ بها عيالا لا يبالون بغير الإدام يغمّسون فيه طيشهم ، ويَعُلْنَ رجالا يلعبون الورق على مرمى الحنفيّة العموميّة ويتلمظون أطراف شواربهم حسرة على العابرات بهم .. رجالا يتأفّفون ليلا من أجسادهنّ المشقيّة ، ويزْوَرُّون عن ندوب العمل في أطرافهنّ المكشوفة ، فإذا طلع النّهار تعلّقوا بنهْدَة صدورهنّ المنطوية على صُرَر النّقود.

ثنيْتُ صدري أستخفي عن العيون التي تنبش فيّ واعتصمت بعض الوحدة بغرفة أمّي متذرّعة بزينة وجهي التي أفسدها دمع عروس ستغادر منزل والديها إلى بلد بعيد .
ليس غيري يعرف سبب البكاء الحقيقيّ..
كان قلبي يخرج عن طوْع المناسبة السّعيدة بين الذّكرى والأخرى ويتشيّع لحزب الأفكار المناوئة لهذا الفرح الانتهازيّ الذي ينمو على حوافّ جرحي ..
قيس حبيبي كم أحنّ إليك وأصبو .. بضعة أشهر لا تكفي لنسيانك .. لا يكفي العمر الباقي بأكمله لذلك.. أشعر بذراعيك يلتهبان على محيط الشّوق من جسدي وأنفاسك تفحّ في أذنيّ .. أستعيد تفاصيل تلك الأمسية التي الْتقيْتك فيها إثر عودتك من أمريكا فيدهمني الدّوار.. أرتجف.. يَعْتِم وجهي.. أتوه عن الحاضرات هائمة في زمن الأسئلة اليتيمة تقرع أبواب الأجوبة جميعها وتبيت على الطّوى..
قيس .. لِمَ اخترتُ هجرك ولم أمنحك متعة لعْق جرح كنت أنت مبضعه هذه المرّة ..؟ اُعذرني قيس ، قلبي أنكرك .. عدتَ من غربتك منقوصا منك كما لو كنتَ إشاعة تروّج كَذِبا خبر عودتك الفعليّة.
أجسدي الموجوع.. توْصَبُ من حُبّه اخترق حُصُونك اختراقا جميلا أم تشكو شوقه المتوحّش انتهك سُمعتك وخلاّك هِدَما يرتاح عليها العابرون شهواتٍ ، فكلّ يطمع أن ينزل بك بعض المُتع السّائحة ويمضي عنك بلا ضرر يلحقه..؟
أجسدي الملفوف على مَشَق قدود الشاشة وفاتنات الإشهار .. دمار ذلك الذي حصل بين ذراعيه أم غبطة نشرات الأخبار العربيّة شرقت في خبر سعيد فزهقت ..؟
عاشق أحمق أنت يا جسدي.. تلك الأغاني المصوّرة التي أغرت محاسنك بالسّفور لم تفصّل فساتين السّعادة على مقاس الأيّام المُحْدَوْدِبَة شقاء على ظهرك، والبحر الذي أغواك بالانتظار على حاشيته ليس بركة العرق اليوميّ إن نغرق تنجينا خشبة أملٍ طافية.. ضفّة البحر الثّانية ليست كضفّته الأولى وقلبه حُوَّلُ الطّبع لا حدّ فيه بين الضّحك والبكاء..
ها ضمّة واحدة ولحظات من الرّغبة المختبلة في لقاء وحيد ، عقِب بِعاد طويل وتفجّع ، جعلتاك تغادر معجم الصّفات المؤنّثة مخذولا ، وجعلتني أتوه فيك عن دقّة التّعريف، مكتفية من الصّفات بدرجة الأنثى المنتهكة ومرتبة الدّم المهدور لا يدركه أحد ويُخلي سبيله إلى الحياة إلاّ وشرب منه حدّ الارتواء .

خسرنا يا جسد ..
لا عشّاق اليوم يتسابقون إلى جنّتك الباذخة بالمودّات والهدايا والرّجاء ويُهْطلون عليك السّماء وعودا معصرات ..
فقد السّباق جائزته الكبرى ..
ماذا بقي لنا بعدُ ..؟
ليس سوى رجال كثيرين على إثر الخصر الغنِج يتهافتون على أرض مفتوحة بلا عناء يدخلونها سالمين لا عقود ولا وعود ولا خواتم تقيّد حريّة الأصابع..

تركتُه هناك ، على حاشية البحر ، مقربة مقعد الحنين الحجريّ ومضيتُ .
كان حبيبا يختصر وجهه اتّساع الأرض ، وتعْبُرُ فصولُ السّنة متلاحقة من طرف ابتسامته المزهرة إلى عَبْسَته الكريهة . وكان يقعد على سفر متململا ، يدخّن سيجاره الثّمين وينظر إليّ من برْق الخاتم المحدّب على إصبعه وسلسلة الذّهب المُدلاّة يستقرّ طرفها أعْلى بطنه المكشوف المنتفخ قليلا ..
اِكتنز جسمه في غربته وازدان عوده الأهيف بالامتلاء . لم ألحظ ذلك في البداية.
أدهشتني حركاته غير المتّزنة ، وكلامه غير المنقطع ، ونظراته التي لم تنِ لحظة عن ملاحقة الجميلات المتحرّشات بسيّارته الفخمة ، المبتسمات لجفنه الغامز باستمرار..
ما كان نوعها سيّارته ؟
لا أعلم . فات الأوان لأنتبه لها وأفكّ أشرطة الهدايا التي حدّثني عنها..
تجاوزتني أحداث كثيرة من مناسبة عودته . كان الشّوق يبلبل عقلي وعطره الجديد يختصرني في فتحة ذراعيه أنتظر أن يلقفاني من ارتباكي ويضمّاني شديدا..
تركته مكانه .
عندما فضح القمر مشهدي الرثّ ، قمت فنفضت عنّي رملا عالقا ومشطت شعري بأصابع مرتعشة . شددت مِزق فستاني المقطّع إلى صدري وأسرعت مبتعدة عن ذاكرة اللّقاء سائرة بمحاذاة الكلمات الفصيحة أتحاشى نثرها اللاّذع في الوصف.
يدي الأخرى تؤرجح حذائي ذا الكعب العالي وسيوره الجلديّة المتدلية تخطّ على الرّمل اللّدن سيرة مشوّشة لحبّ تضرّج بالنّشوة .
طعم الملح يحرش في شفتيّ وهدير الموج يرتطم بالصّخور وأنا.. أنا أخرج .. عن عذريّتي.. وأدخل اللّيل الجديد عبر أزقّته الضيّقة.. وخرائبه المنزوية.. وبقايا المحارق الخامدة ..
أمرق شوارع المدينة رصينة هادئة وأحيانا مستهترة . أجتاز الظلمة وأمخر رذاذ الضّوء المنثور من الفوانيس الكابية والرّبيع ينسحب من حقولي انسحاب المعبّد من سيري، ومواطئ قدميّ مرغية كتراب موحل أو صابون كثيف..
تتبدّى لي الأيادي ناهشة والأعين الخائرة تقتتل على بقايا الحبيب، فأنكمش في ثوبي الممزّق وأعِدّ كعبيْ الحذاء في وضع الدّفاع، وأبدي خلاعة مفتعلة تستر بدائيّة سيري اللّيليّ منفردة في طرق غامضة.

مضيت وحدي..
سقط عن وجوده إلى جانبي معناه الضّروريّ . ربّما لأنّ العشق كالنّجم البعيد نرنو له معجبين مُكبرين ويوم يفقد استحالته ويدنو من ملامسنا يصير فعلا عاديّا وحدثا متداولا قابلا للقيس والمقارنة والعمليّات الحسابيّة المختلفة ، أو ربّما لأنّي استطعت ببساطة أن أطرحه من معادلة السّير والذّهاب مفردة بين الأرقام المتزاحمة على أرصفة الوجود ..
بعد ما حدث بيننا لم يعد الصّفر في موقع النتيجة يرهقني.
لكأنّ هذا الخطّ المغلق ليس غير التفاف الفراغ على الفراغ وانطباق الحركة على شفة السّكون.. لكأنّه مجرّد صفر ينضاف أقصى اليمين من عدد القتلى المعدودين في الصّحف اليوميّة دون أن يثير اهتمام عيون اعتادت على رؤية الجثث .
يا إلهي .. يا إلهي.. كيف قال كلّ ذلك الكلام ولم يشرق ..؟ كلام.. كلام.. كلام يقرقر في رأسي لا أكاد أتذكّر أكثره.. كلام يعيث في قواعد اللّغة عبثا ولفائف مهذار من المعاني فوق قدرة سمعي المشوق لصوته على الفهم.. حركات منفعلة، طائشة، لعوب، لم أُصِبْ منها أقلّ من الدّوار .. لا حقول خضراء في غزله، لا زهور بريّة، لا سنابل تقدح الشّوْق في ساعديه ، لا ماء يفلق اليُبْس ويجري فيه بالحياة .. يا وجه الحبيب أين وجهك ..؟
- قيس من فعل بك هذا ..؟
- أمل .. أما تزالين بدويّة إلى غور أعماقك ..؟ العالم اهتزّ وأنت ثابتة ترَقِّعين أحلامك وتأملين في زواج سعيد وسقف آمن.. تعاليْ حبيبتي عن وحل العادات واعتنقي الحريّة في الحبّ .. أنت مقيّدة الإحساس بما يجعلك باردة الأطراف لا تشتعلين ولا تُشْعلين .. هناك في أمريكا كلّ شيء مختلف .. هناك ..
- لهم عاداتهم يا قيس ولنا في الحبّ ما اعتدنا.. نستحي ونستتر ونحتسب ونحبّ بلا ردّة.. و..
- بل لهم حقّ الحبّ مدى الدّنيا ولنا حقّ الجنون احتسابا وحرمانا وقوانين رَدْع تُذهب العقل وتقصف القلب.. لهم الواقع برُمّة مُتعِه وملذّاته ولنا قصص القلوب الذّبيحة ومصحّات الأجساد المعتلّة ..
صدق من قال لي منهم إنّا شعوب لا تعرف الحبّ .. لا تعرف الحياة .. ألستِ تجلسين إليّ بقيد وشرط وسياج من نار ..؟ أمل حبيبتي تعلّمي كيف تحبّين بحريّة أو أسْلمي لي نفسك أعلّمك ذلك.. ما رأيك لو نقضي اللّيلة سويّا في أحد النّزُل ..؟ لا تخافي لن تفطن زوجة أبيك لأمرك.. اِشتقت إليكِ . لا تؤجّلي حرائقي ليوم آخر ، أضرميها الآن .. أنت فاتنة هذا المساء.. أشتهيك .. تلك الشّقراوات تبَبْن.. لا طعم لهنّ ..تعاليْ وامنحي هذا الشّوق ما يستحقّ من المُتَع..
- قيس احْذر . النّاس ينتبهون إلينا . اِسْحب يدك .. قد تكون على صواب ولكنّك لا تقول كلّ الحقيقة.
ماذا حلّ بك ؟ تبدو لي كصورة مستنسخة على نحو خاطئ فأنت لا تشبه أحدا بعينه . مشرّد لا تنتمي لمكان محدّد فلا أنت منّا ولا أنت منهم .. أهذا من قسوة الغربة عليك أم تتعمّد إهانتي لتفسخ وعودا بيننا ..؟
- الغربة لا تقسو يا أمل.. الغربة لا تقسو.. إنّها تهدم .. واليد التي تعيد البناء هناك غير التي تبني هنا.. اِختلف الأمر كثيرا.. أشياء برمّتها تغيّرت .. أوراق تبعثرت. ثوابت تخلخلت . الرّيبة تفشّت بين الوجه وصورته على المرآة.. تغيّر العالم والنّاس واضطرمت مجاري الأحداث ..
ألسْتِ تَعِينَ .. ؟
عندما يتحطّم برجا التجارة العالميّة ذلك الحاديَ عشر من سبتمبر يجب أن لا يبقى برج في العالم يثير ارتفاعُه غيرة الحطام ، فربّما ينتهز برج مغمور فرصة الفناء ليظهر للعالمين أو يطّل من أحد نوافذه موظّف شامت أوعامل فاضت نفسه قهرا .. فلْتسقُطْ كلّ الأبراج حتى تلك التي في قلوبنا الفقيرة .. ولْتسْقُطْ كلّ الوجوه من عيون أحبّتها كما سقط وجهي منك..
أتعْتَبِين.. ؟
من أنا..؟ متّهم. بمَ ؟ اِسمي مريب ووجهي يُشبه مُشتبَها به.. ماذا أنا ..؟ شرّ مؤقت حتى يستبين أمري .. إرهابيّ حتى يتمّ التفتيش في كلّ حقائبي وسيرتي الأولى وأحلامي المستقبليّة..
يقولون : " اِسمك رديف الجنون وعقدة العشق الممنوع ، أنت سليل شعوب لا تفقه الحبّ . لا بدّ آتٍ تنتقم لنفسك من كلّ زوج يطارح العناق على قوارع الطرقات وتقصف حريّة الأفخاذ العارية .. "
فأتنكّر لاسمي ، وأتمسّح بأعتاب الحضارة كجَرْوٍ أليف وأعمل..
يقولون " تربة وجهك ساغبة وسواد عينيك كابٍ وندبة على ساعدك مريبة .. لا بدّ سارق أو حقود تتحيّن قتلنا "
فأرْطن بلهجة أجنبيّة ، وأبعثر هيئتي بما تقتضيه الموضة ، وأسبّ أبي ، وألعن نسبي ، وأنكر وطني ، وآتي ما يفعلون كما يحبّون أن يؤتى ..
نحن في زمن الاتّهام يا أمل .. حتى في نومي تمشي أحلامي محاصرة بفرق التّفتيش، ملاحقة بأسئلة الهويّة ، مرجومة بالتّهم القاتلة .. أتعلمين أنّ صديقي المقيم في أمريكا، ذلك الذي استضافني عنده شهورا عديدة، تعرّض للتوقيف..؟ غابت عنّي أخباره منذ قبض عليه ، بل تحاشيتُ عمْدا أخباره وجحدت جَمِيلَهُ. درأت الشّبهات قدر المستطاع . قلت في نفسي " لن تخسر الصّداقة شيئا لو تنكّر لها أحد ضحاياها وخرج منها بأقل الأضرار.. لا تعبأ الحياة إلاّ بمن يستمرّ ، فامض يا قيس ولا تسأل كيف المُضيّ ."
لم يكن لي سبب وجيه للعودة ، حتى أنتِ انقطعت عنّي أخبارك . لم أكن أثق في قدرتك على انتظاري.. لم أكن أثق في شيء ولا أفكّر إلاّ في التّواري عن تهمة الإرهاب ونزع خُلعة التّخلّف اللّتيْن تلاحقاني باللّعنة كلّما طلبت عملا..
- ولكنّك عدتَ لترهبني يا قيس.. صرت سطحيّا جدّا ،عنيفا ، نابيَ الغزل ، ساخرا ، مستهترا، تعبرني عيناك ولا تستقرّان عليّ إلاّ بمكر ثمّ تجتازني لعابرة مهتزّة الأرداف تمرّ بنا ، تلوك الكلمات بلا شهيّة ، وتطلّ على عاداتنا من شرفة شاهقة الارتفاع هازئة بالأسافل .
- ولكنّي أحبّك الآن وأريدك .. أنتِ..
- أنتَ تخيفني يا قيس .. حقاّ ترهبني .. أصابعك تنغرز في لحم ذراعيّ .. قيس أشفق أنت توجعني.. لم تكن من قبل بهذه الشدّة معي .. أرجوك دعني .. قيس.. النّاس .. تمهّل ..اِنتظر .. قيس ..

كان باب الغرفة يُطرق بشدّة فيكاد ينخلع وزوجة أبي تستعجلني الخروج. تراجعت عن موقفي من المرآة الغبشاء بقدمين راجفتين . الضّجيج في الخارج يعْرَمُ . النّبض بين جنبيّ يرزم . السيّارات تزمّر. الكلاب تشتدّ بالنّباح . جسمي يتفصّد حرارة وعرقا همولا. حركاتي تتبعثر . اِستدركت بعسر . عدت أشرف على زينة وجهي من خلال الدّمع . عادت زوجة أبي تلحّ عليّ بالإسراع . يبدو أنّ عدل الإشهاد قد وصل . هيّا يا أمل ، اِهْبِطي عن صهوة الحنين وترجّلي في الحياة الواقعيّة بابتسامة ذكيّة المكر . الحظّ يفتح لك السّعد على مصراعيْ الأمن والثّراء ويخوّل لك الزواج برجل يعْتِقُك من الفقر والبَوَار وأربابِ العمل في الحقول أو المتاجر الصّغيرة يواعدونك كلّ مساء، وعندما تتعفّفين يحرصون على ظهركِ محنيّا وأجركِ زهيدا وليلكِ خاليا من الدّفء.. اِبتسمي يا أمل، اِضحكي اللّيلة كثيرا فغدا تسافرين إلى بلد جميل لم يخطر لأحلامك أن تحلم به..

أكبَّ الشيخُ مُختار عدل الإشهاد على ورقة يخطّ بأحرف عوجاء عقد القران ويتلقّى فتورا أجوبة أبي الجذلى .
وقفتُ بين أبي الفرِح جدّا بزواجي وزوجي الذي سرّح بصره الشَّرِهَ في قوامي البذخ الفتيّ يزدهر حسنا في فستان مستورد، وراح، غير خجل من أحد، يجوب تقاطيعه من قصّيه إلى دانيه متغلغلا في المناطق الظّاهرة من مساحات الثّوب الشفّّافة.
الصّبايا المتزاحمات على مقربة من موقفي يُوَشوِشن على مسمع منّي ويُسْمِعْنني نميمتهنّ القاذعة:
- هي ليست الأجمل لتحبّ حدّ الفضيحة وتقترن بثريّ تضيء لمعة خاتمه ردْحة من أحداثنا العاتمة ويسكن على شاطئ البحر من المدينة .. المنزل فاخر .. فاخر.. قصر كالخرافة يصيب بالذّهول .. والعيش رغد ونعيم ..
- أرأيتنّ هداياه وهباته .. ؟
- هي ليست الأجمل فتتزوّج بُكرة بينما نغادر نحن مقاعد الجامعة لنُفْنِيَ أعمارنا في هذا الصُّقْع الأجدب النّائي من البلاد . نعلّق شهائدنا على جدران العَنَسِ أو نهدر شبابنا زوجاتٍ لشيخ ميسور أو أرمل يكفي ظهورنا انحناءً ويملأ أيّامنا بصراخ الأطفال ومسلسلات الحبّ المدبلجة .
- لكنّها التي شقّت صدر الثّوب وقصّرته إلى ما فوق الرّكب.. عدل جائر : تهْتِك فتظفر ونُحْصِن فنخسَر..

نظرتُ لزوجي مبتسمة لأغيظهنّ . اِلتصقت به قليلا أُثْبِت لهنّ سعادتي به وتأمّلته حينها مليّا : أنا لا أحبّ البتّة هذا الرّجل ..
ألا بُعْدا لهذه الوُعُور تجعل من العلم مظلمتنا الكبرى ومن المعرفة مسْلخنا الأجمل يجرّداننا من دِعَة الشّياه في مراعيها الشّحيحة ، وقناعةِ الأرض المجدبة بعطاء السّحب القليل ، وفخرِ أمّهاتنا الذي لا يضاهى بقراطيس الحنّاء والسّواك يأتي بها مساءً زوج ارتدّ إليها عن جفوته، وفرحتِها الكبيرة بحفيدها الذّكر من ابنها البكر ..

- ما اسم العروس ؟
أحاط زوجي ، السيّد صادق ، خصري بذراعه وقرّبني منه أكثر. كان يتصرّف بحريّة تُرْبِك عاداتنا وتُحْرِج الذّكور من أقاربي.
كان أعزب في العقد السّادس من عمره، صلبا ، قويّ الجسم ، مهيب الوجه ، فاحش الثّراء. اِعتاد على رؤيتي من شرفته البحريّة طيلة سنوات الوحدة أرتاد مجلس الصّبر من الشاطئ يوم السّبت من كلّ أسبوع إلاّ أيّام القرّ الشّديدة كما كنّا نفعل أنا وقيس قبل سفره .
كان يراقبني بصمت وينتظر لحظة سقوطي الذّهبيّة . يوم عرض عليّ الزّواج ، حين كان قيس مسافرا ، سخرت من شيبته تشتري صباي الفاتن بحفنة من مال . كان قيس يختزل أحلام الثّراء كلّها. لكأنّ هذا الرّجل كان يعلم أنّ المسافر الفقير إذا اغتنى قليلا يبادر إلى تغيير أشيائه الشّخصيّة وتقشير جدرانه الدّاخليّة من ألوانها الأولى ليتخلّص من ذاكرة الجوعِ برُمّتها ..
لقد صبر حتى أفقدَ أهليّة الاختيار وأعود لوصاية أبي وزوجته محبوسة في منزلنا الفقير ليَمُنّ عليّ بحقّ الموافقة على الزّواج به يوم يطلب ذلك .
- من وَليّ أمر العروس ؟
أدْلَى أبي رأسه في قعر الورقة ليثبت أبُوّته الكريمة بتزويجي فيُنْسِيه زواجي لَوْثة العار ويكفيه مهري كربة العَوَزِ.
- من شهود الزّواج ؟
تقدّم رجلان من عدل الإشهاد وخرج أبي يتفقّد أنعامه المهداة له بمناسبة الزّفاف ويحكم إغلاق الزّريبة عليها . الكلاب في الخارج مستنفرة بفعل الضّجيج وكثرة الغرباء لكنّ أبي يحبّ سماع الثّغاء بين الحين والآخر ..

"ودِّع المسغبة يا أبا أمل وقُلْ طوبى للحبّ الفاشل يزفّ ابنتك لعجوز ثريّ .."

- وقّعي عقد الزّواج يا ابنتي.. لا بل هنا .. موضع النّقطة .. ألست تحسنين القراءة والكتابة ؟
جَبَرتْ زوجة أبي عثرة قلمي وقالت إنّي فتاة جامعيّة كَسَلت عن مواصلة الدّراسة وأخفت أنّها اشترطت زواجها من أبي بذلك الانقطاع ومغادرة مقاعد الدّراسة للعمل مُعيلة نفسي ثم مُعيلة أطفالها ، وعلّلت رَبْكتي بخجل العروس في حضرة أبيها ، ورشّتني بماء العطر وزهر الياسمين.

بدتْ زوجة أبي جميلة في الفستان الجديد يعتصر لحمها المتربرب وهي تقشّر لهجتها من خشونة البداوة وتكثر من تحريك يديْها لتثير صلصلة الأساور في معصميْها .
يوشك دمعي أن ينفجر، تلَقّفْْنَ فرحي المتهاوي يا نساء . زغردن فعظامي بردت. اِضْرِبْن الدّرابيك بشدّة فخصري يموت .اُرْقصن فدمي يتخثّر ..
أين المناديل ..؟ أين أيادي الرِّفْق..؟ أين الحضن الذي يُنهي مواجع الكيان جُمْلة بضمّة واحدة..؟
من تُرْشد يدي المرتجفة لنقطة التّوقيع أسفل السّعادة .. ؟
أما من سؤال إضافيّ تطرحه يا شيخ مختار يستنطق صمتي بحزم ويحقّق في نسبته إلى الرّضا..؟
لا . يبدو أنّي فقدت أهليّة الأجوبة .
قيس اِعْدِلْ عن الهجرة وتعال خذني.. لا تسافر من جديد، لا تنفق ما بقيَ من ذاتك في الدّفاع عن وجودك بأقلّ قدر ممكن من الكرامة .
حبيبي لا يليق بنا أن نحسم أمر تخلّفنا كلّه من وجهة نظر الحبّ المستهتر وندخل الحضارة من باب الفِتَنِ المعرّاة والمشاعر السّافرة.. قيس استرجع نفسك واشْدُدْ أزْرِي، فهذا ليس زمن الاتّهام وحسب، إنّه زمن الخسائر الفادحة أيضا، زمن الأضداد المتصادقة، زمن احتراف البكاء وضرب الكفّ بالكفّ حسرات دامية.. زمن البحار الجائرة والضّفاف المتراشقة بالتّهم .. زمنٌ تُصَمَّم فيه الأفكار بمقاسات دقيقة كالأزياء وتُروَّج بأثمان زهيدة لسهولة الاستهلاك اليوميّ.. من الضّروريّ جدّا أن يأكل الحوت شعوب السّمك لتُعلى سنّة الله في خلقه.. ومن حقّ المؤمن الضّعيف أن يحمد فيستزيد ويدفع البليّة بالتي هي أسلم فيوعد بالسّلم.. وله الدّعاء بالأسحار وحين الهجير: اللّهمّ أنت الغالب ونحن الرّاضون، اللّهمّ أنت القاهر ونحن القانعون ، أنت المبتلي بكلّ الرّزايا ونحن المسلمون .. نعوذ بالله من شرّ الوعي إذا صحا وشرّ النّعَم إذا كفرت وشرّ النّفّاثات في القلب بالحبّ القديم..
- وقّعي يا ابنتي..
أمسكتُ القلم ورعشة يدي تثير همْزا ولمْزا وضحكات مختنقة .
وعظتْ نفسي نفسي: وقّعي يا أمل . من يقبض على حفنة من السّعادة عليه أن يكون أكثر حذرا من الفُلول التي بين أصابعه فهي أسرع انْفِلاتا من الماء المَحْفون، وأوجع في انفلاتها من قبضة الرّمل التي تجاهد الكفّ في الاحتفاظ بها. وقّعي يا أمل ولا تغْريْ بالطّيور التي في قفصك تثور الآن على بياضها المُعَقّم وتخلخل القضبان بحدّة الصّراخ في مناقيرها .. لن تجدي أفضل من هذا الزّواج حلاّ ..
ضغط زوجي على خصري بلطف وهمس في أذني :
- وقّعي يا جميلتي، تأخرّ الوقت. لن نقضيَ اللّيل كلّه بين أهلك، نحن على سفر غدا..
هيّا وقّعي يا حلوتي الصّغيرة.. وَلْنغادر ..

شدّ يدي الممسكة بالقلم ليحدّ من رعشتها . أطلقتْ زوجة أبي زغرودة مُدَوّيّة فتكاثرت الزّغاريد.
رفعتُ إليه وجهي الحزين مجتهدة في الابتسام، غير أنّ عينيّ وقعتا على ما أفزعني وزاد رجفة عظامي..
من ..؟ من أرى ..؟ أهذا قيس ..؟
بلى هو ..
من أين انبثق ؟ ألمْ يسافر..؟
لا .. لم يسافر يا أمل ، لم يسافر ..

كان يَدُسّ قامته المتينة بين الناّس المتسابقين على مقدّمة آلة التّصوير ويقف في مواجهتي تماما. يبدو أنّ أحدا لم ينتبه إليه.
كان مشوّش الهيئة ، كالح الوجه ، شعث الرأس واللّحية ، وبصره يتعلّق بي كالمستجير من ضنك وأسى ..



* عن طنجة الأدبية
  • Like
التفاعلات: صفوت فوزى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى