وسأل ابنه: ثم ماذا بعد؟
طأطأ الولد رأسه
- ستظل مشرداً هكذا .. ستمر سنوات عمرك وأنت بلا هدف حقيقي .. فبجيتارك هذا وصديقتك المشردة مثلك لن تستطيعا توفير ثمن طعام افطاركما..
مزق ورقة وأضاف:
- رسوب.. والآن ماذا؟ أنت في الثامنة عشر ويمكنني تركك لتواصل طريقاً خاطئاً ..غالباً ما قد يفضي بك إلى الجريمة ومن ثم السجن أو الشنق.. لقد تعبت... ماذا تختار.. رغم أن عقلك ليس مكتملاً لأثق في اختيارك...الجيتار والمتشردة الصغيرة وحياة بلا هدف .. أم تعليماً جامعياً محترماً...وحياة مستقرة..؟ اختار الآن ..
...
اخبرني أن سؤال والده لم يكن ليختار بل ليطيع ويذعن..كنا نقف أمام محل بيع الأدوات الموسيقية بميدان لشبونة ، ثم تقدم بخطوات مترددة ودلفنا حيث الدفء ، ورأيته يمد يده إلى جيتار خشبي ، كانت أصابعه العجوزة ترتعش ، حمل الجيتار وتأمله بعينين جزعتين ثم كتم موجة بكاء عارمة ، ومسح جفنيه من الدموع قبل أن يذرفها.
- أين هي الآن؟
لم ينظر إلي بل أجباني بهمس:
- لا أدري...
ثم أعاد الجيتار وخرج بسرعة
...
- خمسة وثلاثون عاماً ولا أزال أتذكرها...
قال: املك كل شيء ولا أملك شيئاً .. كانت نقطة مفصلية في حياتي.. قرار واحد ألقى بي نحو التعاسة الأبدية يا صديقي..قرار واحد ضد الفن .. من روح فنان.. كقص أجنحة الطير ثم أن نطلب منه أن يطير..
- ستلتقي بها يوماً ما..
- سيكون لقاء الموتى..
...
وتأملنا فرقاً تعزف ، مد يده وأمسك بكفي بقوة..كانت يده ساخنة كأحشاء الجسد رغم البرد.
- ما كنت لتكون مثلهم ..
قلت وأضفت:
- أرض الدجاج ما كانت ستفضي بك إلى مثل سعادة هؤلاء..
قال: لا أحد يعرف القدر..
...
كان على مشارف الستين عندما التقيت به مرة أخرى بعد عشر سنوات ، كان سعيداً ويضحك بفم سقطت جل أضراسه ، أمسك يدي بيد أشد سخونه مما كانت عليه قبل السنوات العشر وقال:
- دعني أدعوك لشراب ..
وانطلقنا إلى حي بايرو ألتو ، دون أن يتوقف عن الثرثرة:
- لا تصدق أن هناك عمراً ما أكثر تناسباً مع رغباتك.. كل أعمارنا صالحة لأن نبدأ منها .. في الشارع الوردي في كيس دو سودري .. عندما تركتني تلك الليلة ... هل تذكر؟.. كنت قد أصبتك بالضجر فتركتني ، لقد عدت واشتريت الجيتار .. اشتريت أغلى جيتار .. هل تعرف ماذا أقصد بأغلى .. نعم قرابة إلفين وسبعمائة وخمسين يورو يا صديقي .. صحيح ليس الأغلى فهناك ما هو أغلى منه ولكنه الأغلى بالنسبة لي..قررت أن أعود للحياة...لقد جلست في أحد المقاهي .. وصحت للزبائن: يا أصدقاء .. لم أعزف منذ كنت في الثامنة عشر .. اسمحوا لي أن أحاول لمدة ثلاثين ثانية .. هل تعرف ماذا فعلوا.. لقد صفقوا لي .. ووجدت أصابعي قد عادت سنوات إلى الوراء..صحيح ليس بذات الكفاءة ولكنها لم تكن عاطلة..وعزفت.. عزفت لثلاث دقائق وعاد الزبائن وصفقوا لي...واهدتني النادلة جعة على حسابها..
نظر نحوي بعينين براقتين وقال:
- يمكننا أن نبدأ في أي وقت يا صديقي.. في أي وقت.. هل تفهمني..
ثقبته بنظرة قوية وقلت:
- لقد سألتني عنك..
رأيت وجهه يتغضن وشفتيه ترتجفان ..ظلت قسماته ترتجف وهو ينتظرني أن أكمل حديثي..
- لن تعيش طويلا..أصيبت بفشل كلوي حاد .. تزوجت ودخل زوجها السجن بجريمة اتجار في المخدرات ..
دون أن يرفع نظره عني قال بصوت جزع:
- هل لديك هاتفها .. صورة لها..
قلت:
- لن يسعدك أن تشاهدها الآن .. لا شيء يبقى على حاله يا صديقي..
قال وخداه يختلجان:
- هل لديك؟
- لدي هاتفها ..
رأيته يضغط بأصابعه على شاشاة هاتفه ثم يغادر بسرعة ..
كان الصيف .. وكان الظلام .. وكان الصمت ..سمعت خطوات حذائي تقرع الأرض الحجرية ، وتحت مصباح الشارع الأسود رأيت وجهه الممتقع والدموع تغطيه وهاتفه على أذنه.. كان يبكي.. كان ينظر للأرض وسمعت صوت بكائها من الجانب الآخر.. لم يكونا يتحدثان...أو ربما كانا يتحدثان.. لا أدري.. لقد غادرت.. تاركا الموت خلفي..
(تمت)
طأطأ الولد رأسه
- ستظل مشرداً هكذا .. ستمر سنوات عمرك وأنت بلا هدف حقيقي .. فبجيتارك هذا وصديقتك المشردة مثلك لن تستطيعا توفير ثمن طعام افطاركما..
مزق ورقة وأضاف:
- رسوب.. والآن ماذا؟ أنت في الثامنة عشر ويمكنني تركك لتواصل طريقاً خاطئاً ..غالباً ما قد يفضي بك إلى الجريمة ومن ثم السجن أو الشنق.. لقد تعبت... ماذا تختار.. رغم أن عقلك ليس مكتملاً لأثق في اختيارك...الجيتار والمتشردة الصغيرة وحياة بلا هدف .. أم تعليماً جامعياً محترماً...وحياة مستقرة..؟ اختار الآن ..
...
اخبرني أن سؤال والده لم يكن ليختار بل ليطيع ويذعن..كنا نقف أمام محل بيع الأدوات الموسيقية بميدان لشبونة ، ثم تقدم بخطوات مترددة ودلفنا حيث الدفء ، ورأيته يمد يده إلى جيتار خشبي ، كانت أصابعه العجوزة ترتعش ، حمل الجيتار وتأمله بعينين جزعتين ثم كتم موجة بكاء عارمة ، ومسح جفنيه من الدموع قبل أن يذرفها.
- أين هي الآن؟
لم ينظر إلي بل أجباني بهمس:
- لا أدري...
ثم أعاد الجيتار وخرج بسرعة
...
- خمسة وثلاثون عاماً ولا أزال أتذكرها...
قال: املك كل شيء ولا أملك شيئاً .. كانت نقطة مفصلية في حياتي.. قرار واحد ألقى بي نحو التعاسة الأبدية يا صديقي..قرار واحد ضد الفن .. من روح فنان.. كقص أجنحة الطير ثم أن نطلب منه أن يطير..
- ستلتقي بها يوماً ما..
- سيكون لقاء الموتى..
...
وتأملنا فرقاً تعزف ، مد يده وأمسك بكفي بقوة..كانت يده ساخنة كأحشاء الجسد رغم البرد.
- ما كنت لتكون مثلهم ..
قلت وأضفت:
- أرض الدجاج ما كانت ستفضي بك إلى مثل سعادة هؤلاء..
قال: لا أحد يعرف القدر..
...
كان على مشارف الستين عندما التقيت به مرة أخرى بعد عشر سنوات ، كان سعيداً ويضحك بفم سقطت جل أضراسه ، أمسك يدي بيد أشد سخونه مما كانت عليه قبل السنوات العشر وقال:
- دعني أدعوك لشراب ..
وانطلقنا إلى حي بايرو ألتو ، دون أن يتوقف عن الثرثرة:
- لا تصدق أن هناك عمراً ما أكثر تناسباً مع رغباتك.. كل أعمارنا صالحة لأن نبدأ منها .. في الشارع الوردي في كيس دو سودري .. عندما تركتني تلك الليلة ... هل تذكر؟.. كنت قد أصبتك بالضجر فتركتني ، لقد عدت واشتريت الجيتار .. اشتريت أغلى جيتار .. هل تعرف ماذا أقصد بأغلى .. نعم قرابة إلفين وسبعمائة وخمسين يورو يا صديقي .. صحيح ليس الأغلى فهناك ما هو أغلى منه ولكنه الأغلى بالنسبة لي..قررت أن أعود للحياة...لقد جلست في أحد المقاهي .. وصحت للزبائن: يا أصدقاء .. لم أعزف منذ كنت في الثامنة عشر .. اسمحوا لي أن أحاول لمدة ثلاثين ثانية .. هل تعرف ماذا فعلوا.. لقد صفقوا لي .. ووجدت أصابعي قد عادت سنوات إلى الوراء..صحيح ليس بذات الكفاءة ولكنها لم تكن عاطلة..وعزفت.. عزفت لثلاث دقائق وعاد الزبائن وصفقوا لي...واهدتني النادلة جعة على حسابها..
نظر نحوي بعينين براقتين وقال:
- يمكننا أن نبدأ في أي وقت يا صديقي.. في أي وقت.. هل تفهمني..
ثقبته بنظرة قوية وقلت:
- لقد سألتني عنك..
رأيت وجهه يتغضن وشفتيه ترتجفان ..ظلت قسماته ترتجف وهو ينتظرني أن أكمل حديثي..
- لن تعيش طويلا..أصيبت بفشل كلوي حاد .. تزوجت ودخل زوجها السجن بجريمة اتجار في المخدرات ..
دون أن يرفع نظره عني قال بصوت جزع:
- هل لديك هاتفها .. صورة لها..
قلت:
- لن يسعدك أن تشاهدها الآن .. لا شيء يبقى على حاله يا صديقي..
قال وخداه يختلجان:
- هل لديك؟
- لدي هاتفها ..
رأيته يضغط بأصابعه على شاشاة هاتفه ثم يغادر بسرعة ..
كان الصيف .. وكان الظلام .. وكان الصمت ..سمعت خطوات حذائي تقرع الأرض الحجرية ، وتحت مصباح الشارع الأسود رأيت وجهه الممتقع والدموع تغطيه وهاتفه على أذنه.. كان يبكي.. كان ينظر للأرض وسمعت صوت بكائها من الجانب الآخر.. لم يكونا يتحدثان...أو ربما كانا يتحدثان.. لا أدري.. لقد غادرت.. تاركا الموت خلفي..
(تمت)
