عبد الفتاح القرقني - عند النساج

عند ظهيرة يوم شتويّ اشتدّ قرّه والتحفت سماؤه ببرقع من السّحب الرّماديّة ، ولجت فاطمة و ابنها أحمد حانوت نسيج قائم في ركن من أركان أحد المنازل قرب نخلة باسقة غير بعيد عن طابية عالية يكسو أعلاها صبّار و تين شوكيّ . بادرت فاطمة العمّ حبيبا النّسّاج بتحيّة خافتة ، ناعسة لا تكاد تسمع من تحت لثام غطّى ثغرها المتبسّم و إحدى مقلتيها العسليّتين.
- « مساء الفلّ و الياسمين »
- « مساء الخير و البركات »
- « هذا ابني أحمد جئت به إليك كي تعلّمه نسج الأغطية الصّوفيّة كما علّمت العديد من شباب القرية و الله يمتّعك بنور البصر و طول العمر ».
توقّف العمّ حبيب عن الشّغل فوضع المكّوك جانبا على المطوى و فتل شاربيه الطّويلين في زهو و أمال شاشيته الباهتة اللّون على شعره الشّائب ثمّ قال مستبشــرا و قد أشرقت أساريره بنور بهيّ و تألّق في عينيه الزرقاوين وميض فخر و اعتزاز بمهنة الحياكة :
- « نعم الرّأي يا فاطمة فمن منّا ينسى الحكمة القائلة يوفى مال الجدّين و تبقى صنعة اليدين »
- « أحمد ولد عنيد و ماكر وتّر لي أعصابي و أنبت الشّعر في لساني . هو زعيم العصابة و الرّأس المدبّر في البيت يقترح على إخوته ألعابا جماعيّة فيستجيبون لطلبه دون تفكير في العواقب فينقلب المنزل الهادئ سركا صاخبا و ينقلب أثاث البيت رأسا على عقب متدحرجا و متبعثرا هنا و هنالك»
- « إنّه يبدو هادئا رصينا فها هو ينظر إلينا مطرق الرّأس ، مكتوف اليدين دون أن يحرّك ساكنا أو ينبس ببنت شفة »
- « الّي ما يدري يقول سبول اتعدّى على واد هرهار و ما تتعدّاش على واد ساكت »
- « انصرفي مطمئنّة، ناعمة البال فهذا الولد المشاغب سوف يصبح بعد بضعة سنوات رجلا صالحا و لن تري منه إلاّ ما يســـــــــرّك و يبهجك و يعلي شأنك ».
- « إنّ زوجي نجيب اضطرّ للهجرة إلى ألمانيا و رضي بمهنة نادل في مطعم فاخر ببرلين في سبيل تحرير العائلة من شبح الفقر و الخصاصة و أنا على عاتقي مسؤوليات جسام أوكدها حسن تربية أبنائي الأربعة »
****************
بعد إيّاب فاطمة إلى بيتها ، تحاور العمّ حبيب مع هذا الطّفل اليافع ذي القامة المعتدلــــة و المظهر الأنيــــــق و الوجه الوسيم و العينين الدّعجاوين و الشّعر السّبط ، الفاحم :
- « كم عمرك »
« اثنتا عشرة سنة » -
- « في أيّ سنة تدرس ؟ »
- « في السّنة السّابعة من التّعليم الأساسي بمعهد بن خلدون»
- « ما هي هوايتك المفضّلة ؟ »
- « الموسيقى فأنا أملك شبّابة من القصب ترسل ألحانا شجيّة ، عذبة إذا نفخت فيها و حرّكت أناملي على ثقوبها ببراعة و دراية »
- « هل تهوى الحياكة »
- « أنا نسّاج صغير أفتخر بكلّ الصّناعات التّقليديّة الّتي مارسها آباؤنا و أجدادنا منذ عهود قديمة . لتكن على علم يا عمّي حبيب أنّ لي منسج صغير تدرّبت بواسطته على نسج غطاء صوفيّ لدمية أختي فاتن حتّى تتدثّر به في هذا الزّمهرير الهائج »
- « و في هذا الحانوت العتيق ، القبو ، المعتدل الحرارة صيفا و شتاء ستدرّب على نسج أغطية صوفيّة معلّمة ، بديعة أكثر طولا و أكثر عرضا »
- « هذا أمر عسير يتطلّب منّي كثيرا من الجهد و الانتباه و التّركيز و الكفاءة »
- « بل قل في منتهى اليسر بما أنّني سأعدّ لك في الأسبوع القادم منسجا أصغر من منسجي و سأشرف على تعليمك خطوة خطوة حتّى تصبح نسّاجا بارعا ، ذائع الصّيت في هذه القرية الفيحاء المتاخمة للبحر »
- « أعاهدك أن أكون عند حسن ظنّك مهذّبا ، مطيعا ، أسعى بكلّ ما أوتيت من ذكاء ثاقب و عقل نيّر و حركيّة مذهلة إلى حذق هذه الصّناعة التّقليديّة و الإبداع فيها »
- « اعزم و توكّل على الله فإنّ من توكّل على الله لن يخيب سيكون حليفه الصّــــلاح و الفلاح ».
و ما إن شرح العمّ حبيب لأحمد ما ينبغي شرحـــــــه عن حرفة الحياكة في جوّ لطيف خيّم عليه الصّفاء و الانسجام حتّى نفخ بفمه نفخا هائلا في نار الكانون الهامدة لتأجيجها ثمّ صبّ الشّاي الأخضر المحلّى بالنّعناع من برّاد صغير الحجم في كأسين نظيفين من نوع طرابلسي ناول أحدهما لأنيسه في أدب و ترشّف ما بالثّاني على مهل مستسيغا طعمه ثمّ انغمس في عمله بفكره و قلبه .
قبعً أحمد على حصير متين من السّمار مفروش فوق دكّة عالية قرب الباب قبالة كانون فيه حطبات نحيفة تلحس أبدانها ألسنةُ نار لعوب فتقهقه و تزغرد و يثب منها شرر لامع ، راقص و يرسب ما تبقّى منها في أسفل الكانون رمادا بلا حراك .
و على مقربة منه كان العمّ حبيب متفانيا في شغله فلا تسمع إلاّ أزيز نولـــه متناغما مع بعض أغاني الأعراس و الأفراح الّتي جادت بها حنجرته الذّهبيّــــة . كان يضغط على الدّواسات بقدميه الحافيتين فتتحرّك بعض خيوط السّـدى إلى الأعلـــــــى و البعض الآخر إلى الأسفل فتتشكّل زاوية حادّة تسمّى زاوية النّفـــس. و من خلال هذه الزّاوية يقذف بيده اليمنى مكّوكه الحامل لبكرة الخيط و ينحني لتلقّفه بيده اليسرى من الجانب الآخر ثمّ يدفع المشط بحدة و شدّة لضمّ خيط اللّحمة إلى بحر المنســوج . و بعد التّمكّن من نسج قرابة متر أرخى مطوى السّدى و سحب في هدوء تامّ النّسيج الصّوفيّ و لفّه على مطوى خاصّة به و هو يحرص كلّ الحرص على كبس الخيوط وعدم تداخلها أو تمزّقها على أمل فصل الغطاء الصّوفيّ الجديد عن المنسج في صبيحة الغد و طيّه بإحكام قبل تسليمه لأهله .
و ما بقي من هذا النّهار الشّتويّ القصير قضّاه في سرد حكاية طريفة لهذا الطّفل الوسيم الّذي انتابته سآمة مقيتة فتثاؤب ملء شدقيه و طفرت دموع ضنينة على خدّيه المتورّدين تورّد تفاح محبوبين و داعبت أجفانه الذّابلة سنة من النّوم .
و حينما كان العمّ حبيب يستعدّ للسّرد و هو متربّع في جلسته قرب كانون متوهّج الجمر دخلت ابنته الوحيدة نبيهة الحانوت و هي عارية الرّأس ، مبلّلة الثّوب ، حافية القدمين ، ترتعد من شدّة القرّ فضمّها إلى صدره الدّافئ و دثّرها ببرنسه البنــــــــيّ و سقاها جرعات من الشّاي الأخضر .
و ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّ انبرى في قصّ الحكاية بأسلوب شيّــــــــــق و قدرة فائقة على تجسيم الأحداث بتراقص حاجبيه و نظرات عينيه المتّقدتين شررا حينا و الوديعتين حينا آخر . و كان تلوّن صوته يضفي على السّرد جمالا و رونقا فريدا من نوعه فهو تارة يهمـس في سكينة و طورا يرفع صوته عاليا في تشنّج : « كان يا مكان في قديم الزمان و سالف العصــــــــــر و الأوان يعيش في قريتنا الجميلة شيخ اسمه إبراهيم . كان هذا الشّيخ فارع القامة ،نحيف الجسم ، أسمر البشرة معروفا بين النّـــــــــاس بالاستقامــــــــــة و التّقـــــوى و الخوف من الجليل.
في فجر ليلة ليلاء من شهر جانفي الأصمّ ولّى إبراهيم وجهه شطر الجامع لأداء صلاة الصّبح و هو يستحثّ خطاه متوكّلا على الله و متوكّئا على عكّاز من شجر الخرّوب .
فور وصوله إلى المٍيضأة ملأ دلوا صغيرا من ماء البئر و اتّكأ على النّعش يستردّ أنفاسه غير عابئ بالظّلام الدّامس و فظاعة وحشته . على حين غرّة ، تناهت إلى سمعه المرهف من داخل حصير النعـــــش خشخشة رهيبة كحفيف الشّجر و أنّات مبهمة المصدر ، مجهولة الهويّة .
في الحين ، رغم الوهن و العجز أطلق ساقيه للرّيح و هو يرتجف من شدّة الهلـــع و يضطرب من هول الفزع كاضطراب السّمك في شباك الصّيّاد . توقّف عند زيتونة عريقة تبعد عن الجامع قرابة مائة متر للاحتماء بها من نيران الصّواعق و مطر منهمر كشلاّلات نياجرا . إنّه في أفظع حال يصارع الجبن بتلاوة المعوّذات فيخفق في إذلاله و يطارد أوهام مخيّلته فتؤسّره تأسيرا مخزيا بأغلال من حديد: الشّعر منتصب كمسلاّت قنفــــد والجبين مقطّب يرشح عرقـــــــــا و الأسنان مصطكّــــــــة و اللّسان معقول و مطارق القلب تقرع الصّدر بشدّة فتخلّف فيه وهــــــــنا و ضيقــــا و حرجا . لقد تملّكته الهواجس فظنّ أنّ العفاريت السّاكنة في المقبرة مع الأموات اتّفقت على إزعاجه و العبث به دون رحمة كما تعبث العواصف برؤوس النّخيل . حاول أن يلتفت إلى الوراء فلم يقــــــــدر و إلى اليمين و اليسار فلم يقدر فجمد في مكانه كجلمود صخر حطّه السّيل من عل ينتظر ما ستسوقه إليه الأقدار .
و ما إن أصغى إلى ضحكات رنّانة تنبعث من خلفه حتّى أمال نظره إلى الوراء فلاح له مع وميض البرق السّاطع رجل في الخمسين من عمره يلاحقه في سرعة جنونيّة و هو ينهب الأرض نهبا . كان هذا الرّجل الغريب مربوع القامة ، ملتفّا بحصير متهرّئ شدّ إلى خصره النّحيف برمّة حبل فلم يظهر منه في الأعلى إلاّ رأسه المكوّر ذو الشّعر الكثيــف و الحاجبين الغزيرين و الأنف الأفطــــــــس و الوجنتين النّافرتين و اللحية الكثّــــــــــة البيضاء ولم يلح منه في الأسفل سوى حذاؤه الطّنبوريّ و تلابيب أطماره البالية .
ازدادت نبيهة التصاقا بأبيها و هي تلتفت يمنة و يسرة و ترتعش كالرّيشة في مهبّ الرّيح ثمّ صاحت صياحا حادّا ترافق مع دويّ صاعقة مصمّ للآذان :
- « يا أبي العزيز أما آن الأوان أن تسدّد لكمات قويّة بقبضة يدك لهذا الغول الّذي يكشّر لي عن أنيابه فتطرحه أرضا و بذلك يطمئنّ قلبي و أستعيد هدوئي ؟»
- « أيّها الجبان هاك هذه اللّكمة السّاحقة ، الماحقة فهي أشدّ عتوّا من لكمة محمّد علي كلاي لخصمه فورمان »
حينها أغرق أحمد في الضّحك و حثّ العمّ حبيب على إتمام الحكاية و عينه لا تكفّ عن الغمز :
- « عجّل فأنا في شوق جارف لمعرفة هل أنّ الشّيخ إبراهيم انتصر على العفريت انتصارا مبرما أم أنّه أقفل إلى بيته مهزوما ، مدحورا يجرّ أذيال الخيبة »
استوى العمّ حبيب في جلسته و تنحنح ثمّ قال بصوت جهوريّ مقلّدا العفريت
- « أنا جان مارد حللت بهذا الجامع المنعزل في هذه العاصفة الهوجاء لأخسف بك الأرض فتصبح أثرا بعد عين »
- « اسمح لي بالصّلاة ثمّ افعل ما تؤمر ستجدين إن شاء الله من الصّابرين »
- « جَاء أَجَلُك فلن تستأخر ساعة و لن تستقدم »
- « كفاك سخرية و تلاعبا بي فالأمر الأوّل هو أنّ عزرائيل ملاك طاهر له لباس ناصع البياض و أنت ترتدي أسمالا ا بالية ، قـذرة . الأمر الثّاني هو أنّ صوتك ليس غريبا عنّي إن لم تخنّي الذّاكرة »
- « أنت على صواب فأنا مهنّي أندول مجنون القرية »
- « تبّت يداك أيّها الأبله اللعين فأنا كدت أموت من شدّة الذّعر. ألم تجد سريرا إلاّ ذلك النّعش في هذا الليل المظلم ، الموحش ، القارس ؟ »
- « هات سيقارو و ستعرف سبب رقادي داخل النّعش ملتفّا داخل حصيره »
- « لا داعي للتّدخين فهو مضرّ بالّصحّة و لا داعي الآن لمعرفة سبب التجائك للنّوم في ذلك النعش مكفّنا بحصيره فكلّ ما أخشاه هو أن يفوتني وقت الصّلاة »
ها هو إبراهيم يقصد الجامع من جديد متهلّل الوجه ، منفرج الأسارير، مطمئنّا ، مرتاح البال قد انزاحت عن صدره كوابيس الوجل و اعتدل خفقان قلبه بعد حدّته المجحفة و سرعته المذهلة .
****************
لمّا أنهى العمّ حبيب سرد الحكاية حدّق في ابنته الوحيدة فألفاها تغطّ في نوم عميق ، مفترّة الثّعر ، محمرّة الخدّين غير مكترثة بوميض البرق الوهّاج و عصف الرّيـــــاح الشّديدة و قصف الرّعد المرعب. لثم الأب ملاكه الطّاهر على جبينه البضّ ، النّاعـــــــم و احتضنه في رفق كي لا يعكّر صفو نومه الهادئ ثمّ استوى واقفــــــا و هو يفكّر في العودة إلى البيت في هذا الطّقس الثّائر ، العابس .
ألقى نظرة فاحصة إلى خارج الحانوت من خلال بابه المشقّق المفتوح على مصرعيه فإذا الطّبيعة متجهّمة الوجه عارية من الأزهار و البسمات : السّماء ملبّدة بغيوم داكنة يشوبها احمرار طفيف يوحي باقتراب موعد الغروب و الأشجار تهتزّ اهتزازا عنيفا و الرّذاذ ينذر بزخّات مطر أليس أوّل الغيث قطر ثمّ ينهمر؟ .
ودّع أحمد العمّ حبيبا توديعا حارّا و هو يبتسم ببشاشة و عينين ضاحكتين ثمّ هرول نحو منزله لكنّه ما سار مسافة ربع كيلومتر حتى أرسلت السّماء ماءها مدرارا كأنّها تذكّره بقصّة نوح عليه السّلام و الطوفان . أظهرت الغيوم براعتها أمامه فتدفّقت مياهها جبالا فضيّة متشابكة . تابع أحمد طريقه في إقدام شاقّا خضمّ السّيول الجارفة ، الهادرة فوصل إلى منزله مرتجف الأوصال ، مبلّلا من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه . كان يستغيث ملتمسا العون و المساعدة :
- « أين أنت أيّها الأمّ الرّؤوم ؟... أين أنت ؟ »
- « الحمد لله على سلامتك من الغرق فأنا أنتظرك بفارغ الصّبـر عند عتبة باب الخوخة »
- « عجّلي بإحضار ملابسي و قهوة ساخنة »
- « حالا يا فلذة كبدي فأنا لا أتحمّل أن أراك لا جائعا عصافير بطنك تزقزق و لا مبلّلا ترتجف من البرد »
أمّا العمّ حبيب فقد خيّر المكوث في الحانوت رفقة ابنته النّائمة ريثما تكفّ الأمطار عن الانهمار فبيته قريب و لا داعي للتّسرّع إذ أنّ في التّأنّي سلامة و في العجلة ندامة .
( تمّت في 27 مارس 2017 )
  • Like
التفاعلات: ابويبس أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى