في إحدى المَمْلكات الصَّغيرة و النَّائية، إنتظر وليُّ العهد بفارغ الصّبر وفاة والده ليرِث عنه المُلك. كان الأمل يحْذُوه، مع كلّ إنبلاجٍ لِفَجر يومٍ جديد، أَن يُفيق من نومه على بُشرى موت أبيه و إستلامه العرش. تَتالت السّنون سنةً تلو سنة و الرّجل يعيش على ذلك الأمل حتّى يئِس من نيل مُراده و الوصول لمُبتغاه بعد أن تجاوز عُمر والده المائة حَولًا. فأشار عليه مُستشاره، الذي يعتبره ذراعه الأيمن و المعروف بخبثه و دهائه الشّديدين، بأنّ الحلّ الوحيد أمامه هو قتل أبيه قبل أن يذهب عمره سدى و يضيع في الإنتظار. وافق وليّ العهد على إقتراح مستشاره و قتل أباه و إستقرَّت له أمور الحكم.
لكن المعضلة الكبرى التي واجهت الملك و مُستشَاره أنّ الحاكم الجديد قد أُصيب بمرض مُزمن و غريب بسبب تقدّمه في السّن، أجمع الأطبّاء أنّ لا شفاء منه، و هو "داء النَّوم". حيث كان الملك يُقضِّي أيّاما و ليالي و هو نائم حتّى تعتقد الرّعية أنّ ملكهم قد قضَى نحْبَهُ، فتعُمّ البلبلة أرجاء المملكة و تسُود الفوضى. لم يعجز المُستشار المُحنَّك عن إيجاد مخرج من هذه الورطة المُتواصلة: فكان، في كلّ مرّة يطول فيها نوم الملك، يُشِيعُ بين النّاس أنَّ مَلِيكَهم قد بَادَر بتغيير هذا الوزير أو ذاك، و أنّه بادر باتّخاذ قرار مَا في غاية الأهمية بهدف تحسين ظروف المعيشة في المملكة. كان المستشار يسمِّي هذه المُبادرات الملكيَّة: "مبادرات الحياة" لأنّها الوحيدة القادرة على إقناع النّاس أنّ الملك مايزال على قيد الحياة، و هي مُتنفّس المستشار و طوق نجاة الملك. و مع كلّ سبات جديد يدخل فيه الملك إلَّا و تطفو على السّطح مُبادرة جديدة من صُنع المستشار لتهدئة الأوضاع و إمتصاص حالة التّململ في صفوف الرّعيّة.
لكنّ صحّة الملك ساءت أكثر فأكثر مع مرور الزَّمن، و أصبحت فترات النوم التي تُلِمّ به متقاربة جدًّا، فوجد المستشار نفسه مُجبرًا على إجتراح مبادرات كثيرة في وقت وجيز ممَّا أرهق تفكيره و أَتلف أعصابه. فضَعُفت مبادراته و تقلّص تأثيرها في النّاس، و تسرّب خبر مرض الملك بداء النّوم فكثرت الإشاعات و ازدادت أوضاع المملكة سُوء.
و في إحدى المرّات دخل الملك الطَّاعن في السّن في سُباتٍ لم يسبق له مثيل، فسعى مُستشاره عبَثًا إيجاد مبادرة جديدة و متماسكة لاستعادة السّيطرة على الأوضاع التي لم يعد يحكمها أيّ منطق. و لم تَجُد قريحة المستشار المُنهك بأيّ مبادرة تُنقذه و تنقذ الملك الذي يغُطّ في نومه العميق غير واع بما آلت إليه الأوضاع من تأزّم. لقد إستنفذ المسكين كل أفكاره و مبادراته خلال فترات نوم الملك السّابقة.
طال إنتظار النّاس لمبادرة جديدة أو خبر يقين يأتي من القصر لكن دون فائدة، فإستبدّ الشّك و الغضب بهم. و تجمهر الرعية حول القصر و حاصروه و تعالت الأصوات دون إنتظام:
ــ أين الملك...؟
ــ لماذا لم يُقدّم الملك أيّ مبادرة منذ مدّة طويلة...؟
ــ ربّما مات الملك...
و بينما كانت الرّعية على تلك الحال من الفوضى و الإحتجاج حتى دفع أحدهم بوّابة القصر و هتف قائلا و هو يُشير بيده إلى داخل القصر: " الشّعب يريد إيقاظ الملك." فتبعه الناس إلى الداخل و هم يُردّدون وراءه " الشعب يريد إيقاظ الملك". إقتحم جمْعٌ غفيرٌ منهم غرفة نوم الملك فوجدوه مُمدّدا دونما حراك، فتوهَّمُوا خطأً أنّ الملك قد مات. حملوه على الأكتاف إلى أن وصلوا المقبرة و دفنوه. و بعد الإنتهاء من الجنازة و الدّفن بدأ بعضهم بالتّفكير و التّساؤل:" كيف سنعيش بدون مُبادَرات؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قَد يتساءل بعض القرّاء عن السّبب الذي يقف وراء توظيف أساليب الإيحاء و الرّموز و السخرية في هذه القصّة القصيرة . أجيبكم، أيّها القرّاء الأعزّاء، أنّنا نعيش في زمن "الإنتقال الدّيمقراطي" الذي يحقّ فيه للكاتب الحديث بصفة مباشرة لكن و لأنّ فترة الإنتقال قد طالت أكثر ممّا طال نوم الملك في القصّة أعلاه، فلقد خَيّرت أن أُبادِر بدوري باجْتِراح أسلوب جديد مثلما إجترح المستشار مبادراته.
أليس هذا زمن المبادرات الكثيرة في زمن الإنتقال الديمقراطي الطويل، فلماذا أحرم نفسي من حقّي في المُبادرة !؟
* من مدونة وائل بنجدو
لكن المعضلة الكبرى التي واجهت الملك و مُستشَاره أنّ الحاكم الجديد قد أُصيب بمرض مُزمن و غريب بسبب تقدّمه في السّن، أجمع الأطبّاء أنّ لا شفاء منه، و هو "داء النَّوم". حيث كان الملك يُقضِّي أيّاما و ليالي و هو نائم حتّى تعتقد الرّعية أنّ ملكهم قد قضَى نحْبَهُ، فتعُمّ البلبلة أرجاء المملكة و تسُود الفوضى. لم يعجز المُستشار المُحنَّك عن إيجاد مخرج من هذه الورطة المُتواصلة: فكان، في كلّ مرّة يطول فيها نوم الملك، يُشِيعُ بين النّاس أنَّ مَلِيكَهم قد بَادَر بتغيير هذا الوزير أو ذاك، و أنّه بادر باتّخاذ قرار مَا في غاية الأهمية بهدف تحسين ظروف المعيشة في المملكة. كان المستشار يسمِّي هذه المُبادرات الملكيَّة: "مبادرات الحياة" لأنّها الوحيدة القادرة على إقناع النّاس أنّ الملك مايزال على قيد الحياة، و هي مُتنفّس المستشار و طوق نجاة الملك. و مع كلّ سبات جديد يدخل فيه الملك إلَّا و تطفو على السّطح مُبادرة جديدة من صُنع المستشار لتهدئة الأوضاع و إمتصاص حالة التّململ في صفوف الرّعيّة.
لكنّ صحّة الملك ساءت أكثر فأكثر مع مرور الزَّمن، و أصبحت فترات النوم التي تُلِمّ به متقاربة جدًّا، فوجد المستشار نفسه مُجبرًا على إجتراح مبادرات كثيرة في وقت وجيز ممَّا أرهق تفكيره و أَتلف أعصابه. فضَعُفت مبادراته و تقلّص تأثيرها في النّاس، و تسرّب خبر مرض الملك بداء النّوم فكثرت الإشاعات و ازدادت أوضاع المملكة سُوء.
و في إحدى المرّات دخل الملك الطَّاعن في السّن في سُباتٍ لم يسبق له مثيل، فسعى مُستشاره عبَثًا إيجاد مبادرة جديدة و متماسكة لاستعادة السّيطرة على الأوضاع التي لم يعد يحكمها أيّ منطق. و لم تَجُد قريحة المستشار المُنهك بأيّ مبادرة تُنقذه و تنقذ الملك الذي يغُطّ في نومه العميق غير واع بما آلت إليه الأوضاع من تأزّم. لقد إستنفذ المسكين كل أفكاره و مبادراته خلال فترات نوم الملك السّابقة.
طال إنتظار النّاس لمبادرة جديدة أو خبر يقين يأتي من القصر لكن دون فائدة، فإستبدّ الشّك و الغضب بهم. و تجمهر الرعية حول القصر و حاصروه و تعالت الأصوات دون إنتظام:
ــ أين الملك...؟
ــ لماذا لم يُقدّم الملك أيّ مبادرة منذ مدّة طويلة...؟
ــ ربّما مات الملك...
و بينما كانت الرّعية على تلك الحال من الفوضى و الإحتجاج حتى دفع أحدهم بوّابة القصر و هتف قائلا و هو يُشير بيده إلى داخل القصر: " الشّعب يريد إيقاظ الملك." فتبعه الناس إلى الداخل و هم يُردّدون وراءه " الشعب يريد إيقاظ الملك". إقتحم جمْعٌ غفيرٌ منهم غرفة نوم الملك فوجدوه مُمدّدا دونما حراك، فتوهَّمُوا خطأً أنّ الملك قد مات. حملوه على الأكتاف إلى أن وصلوا المقبرة و دفنوه. و بعد الإنتهاء من الجنازة و الدّفن بدأ بعضهم بالتّفكير و التّساؤل:" كيف سنعيش بدون مُبادَرات؟"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قَد يتساءل بعض القرّاء عن السّبب الذي يقف وراء توظيف أساليب الإيحاء و الرّموز و السخرية في هذه القصّة القصيرة . أجيبكم، أيّها القرّاء الأعزّاء، أنّنا نعيش في زمن "الإنتقال الدّيمقراطي" الذي يحقّ فيه للكاتب الحديث بصفة مباشرة لكن و لأنّ فترة الإنتقال قد طالت أكثر ممّا طال نوم الملك في القصّة أعلاه، فلقد خَيّرت أن أُبادِر بدوري باجْتِراح أسلوب جديد مثلما إجترح المستشار مبادراته.
أليس هذا زمن المبادرات الكثيرة في زمن الإنتقال الديمقراطي الطويل، فلماذا أحرم نفسي من حقّي في المُبادرة !؟
* من مدونة وائل بنجدو