الحقيبة تتأبط متاعي، ساكنة بغير ملل قريبة من المدخل، وأنا في جلستي على آخر كرسي في الصالة وقريبا منها مازلت أتأبط انتظاري الممل!
كان شوقي لرؤيته قبل الرحيل؛ لا تضاهيها سوى رغبتي في بقائه مستسلما لنوم عميق ،حتى يحين موعد سفري وارحل دون وداعه!
الآن فقط،أدركت مدى تعلقي بهذا الرجل والذي قبل ثلاثة أشهر فقط، لم أشعر بضرورة التعرف عليه.
لبيت دعوته، ولم أكن قد عرفته بعد وجها لوجه ،فقط سمعت عنه ،،كنت أشعر بحرج شديد،مرده خوفي من أن يكون منتميا إلى المعارضة ، ومع ذلك بقي شغفي لمعرفته أكبر بكثير من خوفي.
صديقي، المقيم هنا في روما ، فهم ما اعتمل داخلي ،فهمس لي ونحن في الطريق نهم بركوب السيارة :
-لا تخف، هواجسك لا أساس لها، الرجل غير محسوب على المعارضة.
وحين هممت بتفسير ما دار في ذهني من خواطر،تابع قائلا:
-أفهم، لأنك صحفي وفي بداية الطريق تخشى على نفسك؛ من السير في مغامرات لا طائل منها، ولكن كما سمعت، هذا الرجل شخصية ثرة، لا تفوت فرصة معرفتك به .
ربما أصاب صاحبي، ولا أنكر أن شوقي ازداد لمعرفته .
ومنذ أن فتح لنا الباب، وجدت يده تعانق كأس الشراب كما لو أنها تعانق حبيبة.
على منحدر المساء التقينا، ومرت الساعات، نتسكع رصيف الليل حتى هجع، ثم أخذ مّضيفنا وهو في حكاياته الحلوة؛ يعطر السهر بقفشات ظريفة ،ثم إذا ما انتابه حزن مفاجئ، قضى عليه بسيل من الشتائم ،وراودنا الشعور بثمله؛ وهو ينتحب غربته وبعده عن الوطن، وأخذت الألفة بيننا شكلها النهائي؛ في غفلة من حواسنا،لم نخطط لها ولم نتفق عليها، لكنها جاءت، تعلقت به؛ وبادلني ذات الشعور، فاقترحت عليهما، أن الوقت حان للرسو على مرفأ الصباح الذي لاحت شقوقه .
لكنه،بادرني أنا شخصيا، بدعوة خاصة للإقامة عنده، لم أمانع،ورحبت بالدعوة، والاقتراب من رجل قارب الخامسة والستين، أنفق ما يقارب الأربعين عاما في مهنة المتاعب (الصحافة).
كنت إلى جانبه في هذه الأيام، أجد نفسي كلما توغلت في أعماقه، أغراني الفضول للمزيد،لأراقب رجلا قرر أن يجرد نفسه من لحاف الوطن، ويتوسد عراء الغربة والمنفى. بالرغم من أن ما كان يجري في عروقه، هو ماء ينابيعها وسواقيها،عروقه التي تنبض بذاك الحنين الذي لا يستباح ولا يكشف عنه، إلا في بقايا ثمالة آخر كأس يتجرعها كل ليلة.!
في الماضي،كان صحفيا امتلك ناصية الكلمة، فراح قلمه؛ يرمح فوق صفحات جريدته دون وجل أو خوف،كانت الرؤية لديه أبعد مما يجب لتلك المرحلة،واكتشف أنه حتى يكون شفافا وصادقا، عليه أن يلملم أوراقه ويرحل.
استيقظ ذات صباح، وهو في قمة مجده، حمل حقيبته دون حبر أو ورق،بعد أن ضاقت الإجابات على أسئلته المبهمة والتي ظن خطأ أن الوقت قد حان لطرحها، رحل وهو يودع أحلاما صدئة، درجت مع الريح لإصدار صحيفة، من ملجأه الجديد .
مساعيه خابت فقط، لأنه لم يجد المال الذي يدعمه. وأخذ يمضي أيامه ينفق مما يصله من أهله، أو حينما يأتي أحد المعارف في زيارة أو مهمة، ويطلب منه تحويل ما يملك من العملة، حيث يتبقى له مبلغ هو الفرق بين الأسعار ،وهذا ما فعلته أنا أيضا .
لكن الموجع،هو ما اكتشفته بنفسي ..كان يصرف المبلغ الذي استفاد به من جديد على ضيافة نفس الشخص ،أما بدعوته إلى العشاء أو الخروج في نزهة .
كان كريما مضيافا،ولكنه يتحول إلى شخص شرس،قادر على شتم من في ضيافته بعد أن يصبح ثملا.
وبقيت حياته في الغربة، مثل محارة قذفتها الأمواج في لحظة غضب بحرية، إلى رمل الشاطئ فأخذت تنتظر بين الشهقة والأخرى؛ مد البحر وجزره على أمل مدّ قوي أو موجة صاخبة تعيدها إلى أعماقه من جديد.
لم يتبق لي سوى أيام وأعود، لكنه هذا اليوم فاجأني بطلبه:
-أعلم أنك تتكلم اللغة الإنكليزية بطلاقة ،وأتمنى لو تحضر معي لقاء من نوع خاص وأريد أن تكون المترجم بيني وبين سيدة تملك أكبر دار نشر وهي بريطانية .
-وتعلم أن هذا من دواعي سروري أ ن أكون برفقتك وبرفقة سيدة مهمة.
سيدة لم تتجاوز الخامسة والثلاثين ،رقيقة وجميلة ، تفرغت لاستضافتنا بشكل لائق، كانت سهرة رائعة، وصاحبي حلق في تجليات البوح حتى قارب الحد الأقصى و بات يقترب من مرحلة السكر ، طلبت مني السيدة أن أنقل له عرضها :
-السيدة تقدم لك مليون دولار، مقابل أن تنشر مذكراتك عن الفترة التي عايشتها في الوطن أثناء مرحلة التغيير، على أن تكتب كل شيء عن أصدقاءك العسكريين ورجال الأعمال عن رجال الصحافة عن الفقراء لا تستثني أحدا،وهي كما تقول عنك أنك شخصية غنية، وكأن الوطن أودعك ذاكرته.
كنت وأنا أنقل له الكلام، في حالة قلق من قدرته على استيعاب العرض ، بل اعتقدت أن السكر استبد به، لكنه انتفض فجاءة وأنا أحاول تكرار ما سبق عرضه،وأشار إلي بسباته أن التزم الصمت ورد علي بصوت هادئ قوي لا يشوبه انعراج :
-سيدتي ، سررت بضيافتك ، أنت سيدة جميلة ورائعة للغاية،ولكن نسيت شيئا هاما ،وهو إنني قد أختلف مع نظام الحكم في بلدي، ولكن أبدا لن أخون وطني . قبل أيام تحدثت مع البعض بنيتي في كتابة مذكراتي ،لكنني لم أكتشف كم هي بشاعة الجريمة التي سأرتكبها فيما لو فعلت، إلا بعد أن قدمت عرضك هذا – أشكرك .
شبك يده بيدي، وانطلقنا في الشارع المبلل بنثيث المطر ،وسمعت صوت زفراته والتفت ناحيتي ليقول:
-يحضرني قول لأحد مفكري الثورة الفرنسية يعبر عن حبه للوطن فيقول(( يا للأسف لا سبيل أن نموت من أجل أوطاننا إلا مرة واحدة..))
قبل أن أعلق وجدته، يترنح في مشيته؛ عائدا من جديد إلى ثمالته ، كما كان قبل عرض السيدة .
ومشينا، نقطع المسافة الطويلة سيرا على الأقدام .وأنا أحاول استفزازه ببوح أكثر ،لأعرف كيف يرفض عرضا، وهو أكثر من يحتاج المال؟ وهل داهمه شعور بالندم أم هو مقتنع بما فعل؟ بقيت أسئلتي دون إجابات شافية، وكأنه بعد خروجنا ،قرر أن يوصد ذاكرته على ذلك الماضي ،بينما رحت أناوره لأكنس المزيد من غبارها،كنت أعرف حلمه في جمع ثروة ليصدر صحيفة وصارحته لكنه أجابني بثقة:
-إذا ما باغتتنا خديعة الأحلام،تصبح مثل الشوك النابت في المآقي .
-مرة سمعت متسولا يقول:" الأشواك لا تؤذي إلا الأيدي الآثمة؟!
-وستبقى يدي نظيفة،لن تخدعها أحلامي.
وقتها أدركنا أننا أنفقنا الليل ونحن في نفس الدوامة، وشهقنا بفرح طفولي ونحن نستسلم لانبلاج ضوء الفجر وقد اقتربنا من المنزل.
هذا الصباح ،أزف موعد الوداع، أبقيت أحزاني معلبة ،خوفا من انفراطها في هذه
الساعة،لئلا تتناثر شظايا مؤلمة لكلانا .
سمعت صرير باب غرفته، تقدم وهو يدعك جفنيه من آثار النعاس ، وقبل أن أسأله من جديد قال لي :
-هل تعرف يا صاحبي، أحيانا اشعر بأن حياتي كانت سلسلة من المعارك ، دفعت حريتي ثمنا لها ،المشكلة أنني كنت أخوض حربا لصالح الآخر الذي أمسك على الدوام بعنقي ،ما أتعس أن يخوض المرء حربا غير مؤمن بجدواها،لكن الحروب من أجل الوطن شيء مختلف ومن الأفضل؛ أن تبقى بعض الأحداث طي الكتمان ، لا تحزن لأنك لم تعرف السبب لكن لدي شيء واحد أقوله لك ، الآن ،أرى نفسي مثل لاعب سيرك ،يمشي على حبل مشدود وفي فمه نصل حاد، الحبل صراطه للوصول إلى الضفة الأخرى ،وكي يصل يتوجب عليه المحافظة على هدوءه واتزانه.هذا ما أفعله بدقة.
حملت حقيبتي ،لم التفت إلى الوراء، ولم أنطق بحرف ،كنت أشعر أن حبال صوتي أصابها اليباس وأنني لن أقدر على وداعه .
كان شوقي لرؤيته قبل الرحيل؛ لا تضاهيها سوى رغبتي في بقائه مستسلما لنوم عميق ،حتى يحين موعد سفري وارحل دون وداعه!
الآن فقط،أدركت مدى تعلقي بهذا الرجل والذي قبل ثلاثة أشهر فقط، لم أشعر بضرورة التعرف عليه.
لبيت دعوته، ولم أكن قد عرفته بعد وجها لوجه ،فقط سمعت عنه ،،كنت أشعر بحرج شديد،مرده خوفي من أن يكون منتميا إلى المعارضة ، ومع ذلك بقي شغفي لمعرفته أكبر بكثير من خوفي.
صديقي، المقيم هنا في روما ، فهم ما اعتمل داخلي ،فهمس لي ونحن في الطريق نهم بركوب السيارة :
-لا تخف، هواجسك لا أساس لها، الرجل غير محسوب على المعارضة.
وحين هممت بتفسير ما دار في ذهني من خواطر،تابع قائلا:
-أفهم، لأنك صحفي وفي بداية الطريق تخشى على نفسك؛ من السير في مغامرات لا طائل منها، ولكن كما سمعت، هذا الرجل شخصية ثرة، لا تفوت فرصة معرفتك به .
ربما أصاب صاحبي، ولا أنكر أن شوقي ازداد لمعرفته .
ومنذ أن فتح لنا الباب، وجدت يده تعانق كأس الشراب كما لو أنها تعانق حبيبة.
على منحدر المساء التقينا، ومرت الساعات، نتسكع رصيف الليل حتى هجع، ثم أخذ مّضيفنا وهو في حكاياته الحلوة؛ يعطر السهر بقفشات ظريفة ،ثم إذا ما انتابه حزن مفاجئ، قضى عليه بسيل من الشتائم ،وراودنا الشعور بثمله؛ وهو ينتحب غربته وبعده عن الوطن، وأخذت الألفة بيننا شكلها النهائي؛ في غفلة من حواسنا،لم نخطط لها ولم نتفق عليها، لكنها جاءت، تعلقت به؛ وبادلني ذات الشعور، فاقترحت عليهما، أن الوقت حان للرسو على مرفأ الصباح الذي لاحت شقوقه .
لكنه،بادرني أنا شخصيا، بدعوة خاصة للإقامة عنده، لم أمانع،ورحبت بالدعوة، والاقتراب من رجل قارب الخامسة والستين، أنفق ما يقارب الأربعين عاما في مهنة المتاعب (الصحافة).
كنت إلى جانبه في هذه الأيام، أجد نفسي كلما توغلت في أعماقه، أغراني الفضول للمزيد،لأراقب رجلا قرر أن يجرد نفسه من لحاف الوطن، ويتوسد عراء الغربة والمنفى. بالرغم من أن ما كان يجري في عروقه، هو ماء ينابيعها وسواقيها،عروقه التي تنبض بذاك الحنين الذي لا يستباح ولا يكشف عنه، إلا في بقايا ثمالة آخر كأس يتجرعها كل ليلة.!
في الماضي،كان صحفيا امتلك ناصية الكلمة، فراح قلمه؛ يرمح فوق صفحات جريدته دون وجل أو خوف،كانت الرؤية لديه أبعد مما يجب لتلك المرحلة،واكتشف أنه حتى يكون شفافا وصادقا، عليه أن يلملم أوراقه ويرحل.
استيقظ ذات صباح، وهو في قمة مجده، حمل حقيبته دون حبر أو ورق،بعد أن ضاقت الإجابات على أسئلته المبهمة والتي ظن خطأ أن الوقت قد حان لطرحها، رحل وهو يودع أحلاما صدئة، درجت مع الريح لإصدار صحيفة، من ملجأه الجديد .
مساعيه خابت فقط، لأنه لم يجد المال الذي يدعمه. وأخذ يمضي أيامه ينفق مما يصله من أهله، أو حينما يأتي أحد المعارف في زيارة أو مهمة، ويطلب منه تحويل ما يملك من العملة، حيث يتبقى له مبلغ هو الفرق بين الأسعار ،وهذا ما فعلته أنا أيضا .
لكن الموجع،هو ما اكتشفته بنفسي ..كان يصرف المبلغ الذي استفاد به من جديد على ضيافة نفس الشخص ،أما بدعوته إلى العشاء أو الخروج في نزهة .
كان كريما مضيافا،ولكنه يتحول إلى شخص شرس،قادر على شتم من في ضيافته بعد أن يصبح ثملا.
وبقيت حياته في الغربة، مثل محارة قذفتها الأمواج في لحظة غضب بحرية، إلى رمل الشاطئ فأخذت تنتظر بين الشهقة والأخرى؛ مد البحر وجزره على أمل مدّ قوي أو موجة صاخبة تعيدها إلى أعماقه من جديد.
لم يتبق لي سوى أيام وأعود، لكنه هذا اليوم فاجأني بطلبه:
-أعلم أنك تتكلم اللغة الإنكليزية بطلاقة ،وأتمنى لو تحضر معي لقاء من نوع خاص وأريد أن تكون المترجم بيني وبين سيدة تملك أكبر دار نشر وهي بريطانية .
-وتعلم أن هذا من دواعي سروري أ ن أكون برفقتك وبرفقة سيدة مهمة.
سيدة لم تتجاوز الخامسة والثلاثين ،رقيقة وجميلة ، تفرغت لاستضافتنا بشكل لائق، كانت سهرة رائعة، وصاحبي حلق في تجليات البوح حتى قارب الحد الأقصى و بات يقترب من مرحلة السكر ، طلبت مني السيدة أن أنقل له عرضها :
-السيدة تقدم لك مليون دولار، مقابل أن تنشر مذكراتك عن الفترة التي عايشتها في الوطن أثناء مرحلة التغيير، على أن تكتب كل شيء عن أصدقاءك العسكريين ورجال الأعمال عن رجال الصحافة عن الفقراء لا تستثني أحدا،وهي كما تقول عنك أنك شخصية غنية، وكأن الوطن أودعك ذاكرته.
كنت وأنا أنقل له الكلام، في حالة قلق من قدرته على استيعاب العرض ، بل اعتقدت أن السكر استبد به، لكنه انتفض فجاءة وأنا أحاول تكرار ما سبق عرضه،وأشار إلي بسباته أن التزم الصمت ورد علي بصوت هادئ قوي لا يشوبه انعراج :
-سيدتي ، سررت بضيافتك ، أنت سيدة جميلة ورائعة للغاية،ولكن نسيت شيئا هاما ،وهو إنني قد أختلف مع نظام الحكم في بلدي، ولكن أبدا لن أخون وطني . قبل أيام تحدثت مع البعض بنيتي في كتابة مذكراتي ،لكنني لم أكتشف كم هي بشاعة الجريمة التي سأرتكبها فيما لو فعلت، إلا بعد أن قدمت عرضك هذا – أشكرك .
شبك يده بيدي، وانطلقنا في الشارع المبلل بنثيث المطر ،وسمعت صوت زفراته والتفت ناحيتي ليقول:
-يحضرني قول لأحد مفكري الثورة الفرنسية يعبر عن حبه للوطن فيقول(( يا للأسف لا سبيل أن نموت من أجل أوطاننا إلا مرة واحدة..))
قبل أن أعلق وجدته، يترنح في مشيته؛ عائدا من جديد إلى ثمالته ، كما كان قبل عرض السيدة .
ومشينا، نقطع المسافة الطويلة سيرا على الأقدام .وأنا أحاول استفزازه ببوح أكثر ،لأعرف كيف يرفض عرضا، وهو أكثر من يحتاج المال؟ وهل داهمه شعور بالندم أم هو مقتنع بما فعل؟ بقيت أسئلتي دون إجابات شافية، وكأنه بعد خروجنا ،قرر أن يوصد ذاكرته على ذلك الماضي ،بينما رحت أناوره لأكنس المزيد من غبارها،كنت أعرف حلمه في جمع ثروة ليصدر صحيفة وصارحته لكنه أجابني بثقة:
-إذا ما باغتتنا خديعة الأحلام،تصبح مثل الشوك النابت في المآقي .
-مرة سمعت متسولا يقول:" الأشواك لا تؤذي إلا الأيدي الآثمة؟!
-وستبقى يدي نظيفة،لن تخدعها أحلامي.
وقتها أدركنا أننا أنفقنا الليل ونحن في نفس الدوامة، وشهقنا بفرح طفولي ونحن نستسلم لانبلاج ضوء الفجر وقد اقتربنا من المنزل.
هذا الصباح ،أزف موعد الوداع، أبقيت أحزاني معلبة ،خوفا من انفراطها في هذه
الساعة،لئلا تتناثر شظايا مؤلمة لكلانا .
سمعت صرير باب غرفته، تقدم وهو يدعك جفنيه من آثار النعاس ، وقبل أن أسأله من جديد قال لي :
-هل تعرف يا صاحبي، أحيانا اشعر بأن حياتي كانت سلسلة من المعارك ، دفعت حريتي ثمنا لها ،المشكلة أنني كنت أخوض حربا لصالح الآخر الذي أمسك على الدوام بعنقي ،ما أتعس أن يخوض المرء حربا غير مؤمن بجدواها،لكن الحروب من أجل الوطن شيء مختلف ومن الأفضل؛ أن تبقى بعض الأحداث طي الكتمان ، لا تحزن لأنك لم تعرف السبب لكن لدي شيء واحد أقوله لك ، الآن ،أرى نفسي مثل لاعب سيرك ،يمشي على حبل مشدود وفي فمه نصل حاد، الحبل صراطه للوصول إلى الضفة الأخرى ،وكي يصل يتوجب عليه المحافظة على هدوءه واتزانه.هذا ما أفعله بدقة.
حملت حقيبتي ،لم التفت إلى الوراء، ولم أنطق بحرف ،كنت أشعر أن حبال صوتي أصابها اليباس وأنني لن أقدر على وداعه .