صمّاء.. وتسمع ما لا نسمعه
بكماء..وكلماتها مفهومة في كلِّ الأصقاع
صامتة .. وصمتها يروي ألف حكاية
تحكي بيديها حكاياتٍ متعدّدة التفاسير ويجوز فيها ما لا يجوز لذوي الألسن الناطقة.. وروايات الأصابع لا ضيرَ فيها ولا تطالها محاكم القضاة .. ولا تسجّلها دواوين التنصّت والاستخبارات!
حكايات تنسجُها بأصابعها .. بيديها .. تغزلها ..تحبِكها .. فتحار بترجماتها ومعانيها .. فتنظر في عينيها لتروي لك ما تعذّر عليك فهمَه .. وعندما تعجز عن الفهم تبتسم لك .. وتستلّ دفتراً صغيراً يحلّ طلاسمها وألغازها كتابةً.
ثغرُها الأخرس .. لا يشتم أحداً .. ولا يأمُر ولا ينهر ولا يغتاب .. ولا يغمز من قناة..إنه يبتسم فقط .. وكم كنتُ بحاجة لثغرٍ كهذا احتياجاً خاصاً .. صدّقوني !
عيونُها مسرحٌ .. إن أسدلت ستارته تعني الموافقة .. وإن ارتفعت أجفانه وجحظت حدقاته فذلك يعني الرفض .. وإن اهتزّ الرأس جانباً يعني الإصرار على الرفض .
ليس صعباً عليك أن تلجَ عالمَها ..فهي تقرأ الشفاه ..وتسمح لك أن تقول ما تريد.. مستمعةٌ جيدة ... لأنها لا تسمع شيئاً .. وكم كنت بحاجة لمن يسمعني .. لا يقاطعني ولا يقمعني !.. لا أصيح بوجهه لأقنعه بصواب رأيي ولا أرفع نبرة صوتي .. لا يدير ظهره لكلماتي .
تلك كانت بعض احتياجاتي الخاصة وما أكثرها !
أخيراً وجدتُ من تبقى عينايَ بعينيه أبداً.. يواجُهني دائماً .. يرى كلماتي بعينيه ويدركها بقلبه .. وإن لم تعجبه ينسحب متراجعاً .. صامتاً .. لا ينبس ببنت شفة .
في سوابقي تحدّثت إلى المرآة .. ولكنّ ظلّي المنعكس عليها كان يغلبني .. ويكيل بمكيالي .. وأحياناً يردّ لي الصاعَ صاعين .
وتحدّثت إلى لوحةٍ رسمْتُها .. ولكنّ ألوانَها المتداخلة كانت تعذّبني إذ تتلوّن كالحرباء كيفما تقلّبت ريشتي .
وتحدّثت إلى ورقةٍ كتبتُها .. ولكنّ حروفها كانت تسجنني .. برقيبٍ وحسيب .. وقارئ – إن قرأ – فلا يستجيب .
ضالّتي الآن وجدتها في صديقتي الصّماء التي جمعت كلّ ما سبق .. ورقة بيضاء تكتب عليها ما تريد .. ولوحة جميلة تأسرك بألوانها .. ومستمعة جيدة لا تقوّلك أبداً ما لم تقل.
اتصالي بها لا يحتاج هاتفاً ثابتاً.. فالرّنين لا معنى له ..
أما هاتفها الجوّال فيهتزّ عند الاتصال .. فتحدّد لك موعداً للوصال .. كتابة فقط على كلّ تساؤل وأيّما سؤال .
تطوّرت علاقتي بها بسرعة غريبة ووجدَتْ نفسها منفتحةً على متفتّحٍ يقدّر ذوي الاحتياجات الخاصة ، وأبدت إعجابها باللوحة الجدارية التي علّقتها في عيادة الصم والبكم .. (صمٌّ بكمٌ ويعقلون )..
هي وغيرها من المرضى استحسنوا اقترابي منهم بعبارتي المعهودة:
-كلُّنا مثلكم ذوو احتياجات خاصة .. ولكن لا نبوح بها
ولأشهر عديدة تالية .. لم تكن جلساتي وحواراتي معها كحوار الطرشان بل كانت مفعمة بالإبداع اللفظي الأخرس .. أقول وتفهمني بقراءة الشفاه وتجيبني كتابةً بكلمات متأنّية تسطّرها بتمعّن وتشطب بعضها وتعضّ أثناء الشطب على شفتها .
إنْ هطلَ المطر لا ترتعدْ للرّعد .. لكنّها تعرف البرق جيداً .. وتحملكَ إلى أطياف قوس قزح .. تلوذ بها من البرد وتلتحفك كعباءة حنون وتشتمل الصمّاء كما يقول الأعراب.
لم أبالِ يوماً باتّهامها لي بأني لست إلا صياداً في مياهٍ عكرة وأسرق عشيقاتي المستضعفات من مكان عملي .. أو على الأقل أديباً اصطناعيّاً جفّت قريحته وأخذ يبحث عن ملهمة يبتني معها قصةً ما .. أو رسّاماً كلاسيكياً يقتنص فتاةً سوقيّة ليعرّيها أمامه أياماً يرسمها ويرسم عليها وينحت مثلها أو ينحت بها .
لم تكن لتفهم أنّ احتياجي لها خاصٌ جداً وأعجز عن شرحه .. كحاجتكَ لخلٍّ وفيّ أو لكتاب تقرؤه مراراً وجليسٍ يسمع ترّهاتك .. وما العيب في أن تلوّن جلساتك ببعض العشق المقدّس ؟ّ!.. فأنت تقبّل المصحف بنفس الفم الذي تقبّل فيه غانية ساقطة ولكن كيف أشرح لها الفرق بين القبلتين!
لم لتكن كصمّاء وبكماء - وتشعر أنها منقوصة – لم تكن لتفهم كيف أحتاج إليها أنا من يسمّونني كاملاً .. وهيهات منا الكمال نحن ذوو الاحتياجات التي لا مجال لتعدادها.
أمسكتُ يديها كأيّ عاشق .. فسحبَتْهما برفق .. وأخرجت دفترَها وكتبت :
- إلا يداي .. إن أمسكتُهما تُخرسني .. وإن قبّلتهما تبوسني في فمي .. يدايَ منبع كلماتي.
احتضنتُها وهمسْتُ في أذنها ... لكنها أفلتت .. وكتبَتْ :
-لا أسمع همساتك .. أحسُّ فقط بحرارة أنفاسك .. نبضات قلبكَ أشعر بها الآن ولا أسمعها .. وكأنها تعلن عن احتياجاتك الخاصة التي تضمِرها .
قلت لها :
- حاجتي لك ليست حاجة الرجل للأنثى .. أنت بالنسبة لي مسرحية صامتة وتقولين فيها أكثر من أي ممثل مهذار .. كأنكِ بلسمٌ للضجيج الذي أهرب منه .. ومعكِ تغيب الثرثرة والقعقعة والجعجعة
هل تعلمين أنّ الكثيرين منّا ينشدون الهدوء في صحراء خالية أو غرفة مغلقة أو شاطئ معزول هرباً من صخب الأصوات ؟.. أو يُضطرّون أحيانا لوضع سدّاداتٍ بالأذنين تنتشلهم من الغرق في لجّة الضجيج .. ومهما قيل بأنّ السكوت من ذهب يبقى الناس يفضّلون الفضة .. ومهما حذّروا بأنّ الجدران لها آذان يصرّ البعض على القيل والقال ..فيتكلّمون ويتعثّرون ويتعسّرون
كلماتُ أصابعكِ أمواجٌ فوق صوتية لا نسمعها .. وترددات أنفاسك فوق ذبذبات أصواتنا .. أنتِ متحدّثة بارعة
آه لو يتعلّم الجميع لغة أصابعك .. إذن لخفّت الثرثرة وحُذفت الكثير من الأحاديث التي لا معنى لها ..
لا أدري إن كنت شرحت سرّ اهتمامي بكِ واحتياجي الخاص إليكِ.
كانت تهزّ برأسها علامةً على أنها تريدني أن أستزيد من أقوالي ، وكانت تنظر في وجهي بعيون ثابتة قلّما رفرفت حتى لا تفوّت كلمة مما أقول .. وكانت يداها مشغولتان بالقلم تخرجه من غمده وتعيده تكراراً كأنّما تشحذ خنجراً .. وعندما غدا جاهزاً للطعن استلّته وبدأت تكتب كمن يجرّح الأوراق تجريحاً .. وانتظرتُ لأعرفَ النتيجة ورأيتها تعضّ شفتها السفلى أثناء الكتابة فاستقرأتُ فحواها سلفاً .. وأخيراً وضعَتْ بالقلم نقطة قوية المسمع في نهاية الكلام وكأنها قاضٍ ضرب بمطرقته ضربةً تُنهي الجلسة بحكمٍ مُبرَم لا استئنافَ بعده .. خرَجَتْ مبتسمةً بلا وداع بعد أن ناولتني الورقة المكتوبة .. وقرأتُ فيها ما يلي :
-أريد أن أضحك وأقهقه ولكنّ ضحكاتي خرساء للأسف .
لي صديقة من ذوي الاحتياجات الخاصة ،عرجاء وتعرّفت على شويعرٍ مغمور وكان يستشعر بساقها المشلولة المتدلية كالمشنوق بلا روح .. وكان يرفع ساقها المهملة ويضعها على رأسه ويقبّلها قبلة مقدّسة مثلك .. وأحسّت صديقتي بالأمل وبأنها تغلّبت على عجزها عندما كان يدفعها بكرسيها المتحرّك راضياً ، ولكنه كان يدفع بها إلى المجهول .. وعندما قضى حاجته الخاصة منها تركها تعود إلى بيتها وتقود كرسيها بنفسها كما اعتادت .
اتركونا يا ذوو الاحتياجات العامة .. اتركونا .. نحن خُلقنا هكذا في عيبنا وندفع ثمن ذنبٍ ما ارتكبناه .. ولا تقترفوا فينا ذنوبكم
إليكَ عنّي أيها الصيّاد المتطفّل.. حاجتك الخاصّة لي لا تروقني لأنّها مؤقّتة وأفهمها كمن يريد أن يقضي فيّ حاجته فقط مهما برّرتَها وزيّنتَها.
لا لستُ أنا من يرمّم نواقص حياتكَ الخاصّة التي ستنتقل فيها من نقيصة إلى أخرى ولن تشبع .. وأنتَ لستَ أهلاً لتفهُّم احتياجاتي الخاصة ولو كنت طبيباً أو شِبْهَ طبيب .
ملاحظة:
انتبهوا للنقطة الأخيرة فقد كانت فعلاً قويّة المسمع .. وأقوى من صوت الباب الذي صفقَتْه خلفها .
*****************
بكماء..وكلماتها مفهومة في كلِّ الأصقاع
صامتة .. وصمتها يروي ألف حكاية
تحكي بيديها حكاياتٍ متعدّدة التفاسير ويجوز فيها ما لا يجوز لذوي الألسن الناطقة.. وروايات الأصابع لا ضيرَ فيها ولا تطالها محاكم القضاة .. ولا تسجّلها دواوين التنصّت والاستخبارات!
حكايات تنسجُها بأصابعها .. بيديها .. تغزلها ..تحبِكها .. فتحار بترجماتها ومعانيها .. فتنظر في عينيها لتروي لك ما تعذّر عليك فهمَه .. وعندما تعجز عن الفهم تبتسم لك .. وتستلّ دفتراً صغيراً يحلّ طلاسمها وألغازها كتابةً.
ثغرُها الأخرس .. لا يشتم أحداً .. ولا يأمُر ولا ينهر ولا يغتاب .. ولا يغمز من قناة..إنه يبتسم فقط .. وكم كنتُ بحاجة لثغرٍ كهذا احتياجاً خاصاً .. صدّقوني !
عيونُها مسرحٌ .. إن أسدلت ستارته تعني الموافقة .. وإن ارتفعت أجفانه وجحظت حدقاته فذلك يعني الرفض .. وإن اهتزّ الرأس جانباً يعني الإصرار على الرفض .
ليس صعباً عليك أن تلجَ عالمَها ..فهي تقرأ الشفاه ..وتسمح لك أن تقول ما تريد.. مستمعةٌ جيدة ... لأنها لا تسمع شيئاً .. وكم كنت بحاجة لمن يسمعني .. لا يقاطعني ولا يقمعني !.. لا أصيح بوجهه لأقنعه بصواب رأيي ولا أرفع نبرة صوتي .. لا يدير ظهره لكلماتي .
تلك كانت بعض احتياجاتي الخاصة وما أكثرها !
أخيراً وجدتُ من تبقى عينايَ بعينيه أبداً.. يواجُهني دائماً .. يرى كلماتي بعينيه ويدركها بقلبه .. وإن لم تعجبه ينسحب متراجعاً .. صامتاً .. لا ينبس ببنت شفة .
في سوابقي تحدّثت إلى المرآة .. ولكنّ ظلّي المنعكس عليها كان يغلبني .. ويكيل بمكيالي .. وأحياناً يردّ لي الصاعَ صاعين .
وتحدّثت إلى لوحةٍ رسمْتُها .. ولكنّ ألوانَها المتداخلة كانت تعذّبني إذ تتلوّن كالحرباء كيفما تقلّبت ريشتي .
وتحدّثت إلى ورقةٍ كتبتُها .. ولكنّ حروفها كانت تسجنني .. برقيبٍ وحسيب .. وقارئ – إن قرأ – فلا يستجيب .
ضالّتي الآن وجدتها في صديقتي الصّماء التي جمعت كلّ ما سبق .. ورقة بيضاء تكتب عليها ما تريد .. ولوحة جميلة تأسرك بألوانها .. ومستمعة جيدة لا تقوّلك أبداً ما لم تقل.
اتصالي بها لا يحتاج هاتفاً ثابتاً.. فالرّنين لا معنى له ..
أما هاتفها الجوّال فيهتزّ عند الاتصال .. فتحدّد لك موعداً للوصال .. كتابة فقط على كلّ تساؤل وأيّما سؤال .
تطوّرت علاقتي بها بسرعة غريبة ووجدَتْ نفسها منفتحةً على متفتّحٍ يقدّر ذوي الاحتياجات الخاصة ، وأبدت إعجابها باللوحة الجدارية التي علّقتها في عيادة الصم والبكم .. (صمٌّ بكمٌ ويعقلون )..
هي وغيرها من المرضى استحسنوا اقترابي منهم بعبارتي المعهودة:
-كلُّنا مثلكم ذوو احتياجات خاصة .. ولكن لا نبوح بها
ولأشهر عديدة تالية .. لم تكن جلساتي وحواراتي معها كحوار الطرشان بل كانت مفعمة بالإبداع اللفظي الأخرس .. أقول وتفهمني بقراءة الشفاه وتجيبني كتابةً بكلمات متأنّية تسطّرها بتمعّن وتشطب بعضها وتعضّ أثناء الشطب على شفتها .
إنْ هطلَ المطر لا ترتعدْ للرّعد .. لكنّها تعرف البرق جيداً .. وتحملكَ إلى أطياف قوس قزح .. تلوذ بها من البرد وتلتحفك كعباءة حنون وتشتمل الصمّاء كما يقول الأعراب.
لم أبالِ يوماً باتّهامها لي بأني لست إلا صياداً في مياهٍ عكرة وأسرق عشيقاتي المستضعفات من مكان عملي .. أو على الأقل أديباً اصطناعيّاً جفّت قريحته وأخذ يبحث عن ملهمة يبتني معها قصةً ما .. أو رسّاماً كلاسيكياً يقتنص فتاةً سوقيّة ليعرّيها أمامه أياماً يرسمها ويرسم عليها وينحت مثلها أو ينحت بها .
لم تكن لتفهم أنّ احتياجي لها خاصٌ جداً وأعجز عن شرحه .. كحاجتكَ لخلٍّ وفيّ أو لكتاب تقرؤه مراراً وجليسٍ يسمع ترّهاتك .. وما العيب في أن تلوّن جلساتك ببعض العشق المقدّس ؟ّ!.. فأنت تقبّل المصحف بنفس الفم الذي تقبّل فيه غانية ساقطة ولكن كيف أشرح لها الفرق بين القبلتين!
لم لتكن كصمّاء وبكماء - وتشعر أنها منقوصة – لم تكن لتفهم كيف أحتاج إليها أنا من يسمّونني كاملاً .. وهيهات منا الكمال نحن ذوو الاحتياجات التي لا مجال لتعدادها.
أمسكتُ يديها كأيّ عاشق .. فسحبَتْهما برفق .. وأخرجت دفترَها وكتبت :
- إلا يداي .. إن أمسكتُهما تُخرسني .. وإن قبّلتهما تبوسني في فمي .. يدايَ منبع كلماتي.
احتضنتُها وهمسْتُ في أذنها ... لكنها أفلتت .. وكتبَتْ :
-لا أسمع همساتك .. أحسُّ فقط بحرارة أنفاسك .. نبضات قلبكَ أشعر بها الآن ولا أسمعها .. وكأنها تعلن عن احتياجاتك الخاصة التي تضمِرها .
قلت لها :
- حاجتي لك ليست حاجة الرجل للأنثى .. أنت بالنسبة لي مسرحية صامتة وتقولين فيها أكثر من أي ممثل مهذار .. كأنكِ بلسمٌ للضجيج الذي أهرب منه .. ومعكِ تغيب الثرثرة والقعقعة والجعجعة
هل تعلمين أنّ الكثيرين منّا ينشدون الهدوء في صحراء خالية أو غرفة مغلقة أو شاطئ معزول هرباً من صخب الأصوات ؟.. أو يُضطرّون أحيانا لوضع سدّاداتٍ بالأذنين تنتشلهم من الغرق في لجّة الضجيج .. ومهما قيل بأنّ السكوت من ذهب يبقى الناس يفضّلون الفضة .. ومهما حذّروا بأنّ الجدران لها آذان يصرّ البعض على القيل والقال ..فيتكلّمون ويتعثّرون ويتعسّرون
كلماتُ أصابعكِ أمواجٌ فوق صوتية لا نسمعها .. وترددات أنفاسك فوق ذبذبات أصواتنا .. أنتِ متحدّثة بارعة
آه لو يتعلّم الجميع لغة أصابعك .. إذن لخفّت الثرثرة وحُذفت الكثير من الأحاديث التي لا معنى لها ..
لا أدري إن كنت شرحت سرّ اهتمامي بكِ واحتياجي الخاص إليكِ.
كانت تهزّ برأسها علامةً على أنها تريدني أن أستزيد من أقوالي ، وكانت تنظر في وجهي بعيون ثابتة قلّما رفرفت حتى لا تفوّت كلمة مما أقول .. وكانت يداها مشغولتان بالقلم تخرجه من غمده وتعيده تكراراً كأنّما تشحذ خنجراً .. وعندما غدا جاهزاً للطعن استلّته وبدأت تكتب كمن يجرّح الأوراق تجريحاً .. وانتظرتُ لأعرفَ النتيجة ورأيتها تعضّ شفتها السفلى أثناء الكتابة فاستقرأتُ فحواها سلفاً .. وأخيراً وضعَتْ بالقلم نقطة قوية المسمع في نهاية الكلام وكأنها قاضٍ ضرب بمطرقته ضربةً تُنهي الجلسة بحكمٍ مُبرَم لا استئنافَ بعده .. خرَجَتْ مبتسمةً بلا وداع بعد أن ناولتني الورقة المكتوبة .. وقرأتُ فيها ما يلي :
لي صديقة من ذوي الاحتياجات الخاصة ،عرجاء وتعرّفت على شويعرٍ مغمور وكان يستشعر بساقها المشلولة المتدلية كالمشنوق بلا روح .. وكان يرفع ساقها المهملة ويضعها على رأسه ويقبّلها قبلة مقدّسة مثلك .. وأحسّت صديقتي بالأمل وبأنها تغلّبت على عجزها عندما كان يدفعها بكرسيها المتحرّك راضياً ، ولكنه كان يدفع بها إلى المجهول .. وعندما قضى حاجته الخاصة منها تركها تعود إلى بيتها وتقود كرسيها بنفسها كما اعتادت .
اتركونا يا ذوو الاحتياجات العامة .. اتركونا .. نحن خُلقنا هكذا في عيبنا وندفع ثمن ذنبٍ ما ارتكبناه .. ولا تقترفوا فينا ذنوبكم
إليكَ عنّي أيها الصيّاد المتطفّل.. حاجتك الخاصّة لي لا تروقني لأنّها مؤقّتة وأفهمها كمن يريد أن يقضي فيّ حاجته فقط مهما برّرتَها وزيّنتَها.
لا لستُ أنا من يرمّم نواقص حياتكَ الخاصّة التي ستنتقل فيها من نقيصة إلى أخرى ولن تشبع .. وأنتَ لستَ أهلاً لتفهُّم احتياجاتي الخاصة ولو كنت طبيباً أو شِبْهَ طبيب .
ملاحظة:
انتبهوا للنقطة الأخيرة فقد كانت فعلاً قويّة المسمع .. وأقوى من صوت الباب الذي صفقَتْه خلفها .
*****************