خديجة النمر - قلادة خديجة

قل هو الحب
ولا تصغي لغير القلب،
لا تأخذك الغفلة،
لا ينتابك الخوف على ماء الكلام*

السنة الثامنة من الهجرة:
لا تدري زينب من أين واتتها الجرأة ليخرج صوتها جهورا واضحا وسط هسهسات التسبيح والتهليل في المسجد فقطع كل ما سواه : أيها الناس أنا زينب بنت محمد(1)، وإني قد أجرت أبا العاص ابن الربيع(2) فأجيروه.
بعد صمت قصير لم تكد زينب تحتمله أنهى النبي صلاته ثم أعلن أنه يجير عن المسلمين أدناهم.
أزاحت كلمته قلقلها، فجلست، وأرخت قبضتها عن ردائها وهدأت أنفاسها، وانحدرت من عينها دمعة وهي تتذكر وجه أمها.

كان أبو العاص قد استتر بجنح الظلام، ودخل المدينة متسللا بعدما هوجمت عيره من قبل المسلمين بينما كان قافلا من تجارة له بالشام، أُخذت الإبل وأُسر الرجال، لكنه تمكن من الهرب إلى المدينة ومضى حتى وصل إلى زينب، واستجار بها فأجارته.


السنة الثانية من الهجرة:
وضعت الحرب أوزارها، وانتهت معركة بدر بنصر مؤزر للمسلمين. دُفن القتلى وضُمد الجرحى وغَطى الليل بهدوئه خسائر القوم. لكن لدى زينب قلق يؤرقها ويمنعها الرقاد .. فقد علمت بوقوع زوجها أسيرا لدى المسلمين. مثلما لم ينم النبي تلك الليلة حتى قيل له : مالك لا تنام؟ فقال : أسمع أنين عمي العباس(3) في وثاقه.

لم يأتها أحد بخبر، حتى قبيل الفجر، كاد قلبها يقف حين سمعت ما يتناقل من أحاديث حول مصير الأسرى. قيل : هم بنو العم والعشيرة،نأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. وقيل : يفتدون أنفسهم بتعليم صبيان المدينة الكتابة . وقيل : تمكننا من رقابهم، ويتولى كل منا أقربهم إليه، تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين. وقيل : انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارًا.
بعثرها هذا الكلام، وأسرها القلق، فاختلفت يداها ارتباكا .. تبحث عن أي شيء ذي قيمة، بضعة أثواب وسراويل ..؟ قلة ملأى بالتمر؟ صواع حنطة؟ الصندوق الذي أمهره لها زوجها وقد كان أحضره من اليمن؟ تحسست أقراطها.. لكنها فكرت قليلا ثم وضعت يدها على جيدها تتحسس قلادة أمها خديجة، لم تتردد للحظة، انتزعتها من عنقها وبعثتها إلى النبي في المدينة فداء لرقبة أبي العاص .

وكأن خديجة بُعثت لتشفع في ابن أختها، واختلطت ملامحها بملامح زينب.. رق النبي لهاتيك الذكرى رقة شديدة وترحم على خديجة، وقال : لو شئتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها.

وعاد أبو العاص حرا، شريطة أن يفارق زينب. وما إن وصل إلى مكة حتى أخرجها بعدما أعد لها زادها وراحلتها وودعها، قاصدا بذلك إلحاقها بأبيها في المدينة، وفاء للعهد الذي أعطاه له. يحدو بعيرها ويحرس هودجها حموها عمرو ابن الربيع. تختلس النظر من ستار الهودج تتبع بعينيها تلك الرمال الحمراء الممتدة وشجيرات الأثل المتفرقة .. الشمس معتدلة الحرارة، هذا الطقس يذكرها بطفولتها، حينما كانت أمها تمسك بيدها وتحمل الزاد إلى النبي في غار حراء.
راضية بطبعها غير جزوعة، يسألها عمرو إن احتاجت شيئا .. فترد برضا كما كانت ترد على أمها حينما كانت طفلة الخمس سنوات.
لكن هودج زينب تعرض للهجوم فارتج واهتز مما قطع تداعي ذكرياتها وإحساسها بالأمان، ثم سقطت حتى آلمها بطنها والتوى كاحلها، وانكسر ذراعها. وأشهر عمرو قوسه، ونثر كنانته بين يديه، وقال: والله لا يدنو رجل منها إلا وضعت سهما في نحره، حتى قيل له: كف عنا نبلك حتى نكلمك .. إنك لم تصب فيما صنعت، فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس، وقد عرفت العرب جميعها أمر نكبتنا في بدر، وما أصابنا على يدي أبيها، ارجع بها، واستبقها في بيت زوجها أياما حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها فسلّها من بيننا سرا . وهكذا فعل عمرو، فقد أعادها إلى مكة، ثم احتمى بستر الليل ليكمل مهمته ويأخذها إلى المدينة سالمة كما أوصاه أخوه. لكنها كانت قد أسقطت جنينا لما يتخلق في أحشائها .

السنة الثامنة عشرة قبل الهجرة:
ترتاح الكف الصغيرة لزينب ذات الخمس سنوات في كف أمها .. تسيران معا. كانت خديجة تحدث نفسها وهي تسير في ظهر مكة : سيكون له أمر عظيم. الحصيات الصغيرة تدخل أحيانا في خفها فتحز قدمها، لكنها لا تتوقف خشية التأخر، تحمل قفة الزاد على رأسها، تراقب ابنتها بعينينها بين فينة وأخرى: هل تشعرين بالعطش يا بنيتي؟ هل تعبتِ؟ هل أحملكِ؟ وتهز الطفلة رأسها نافية برضا معهود..
اقتربتا من الغار ولمحتا طيفه، سبقتها زينب وعانقت أباها، دخلت خديجة فرأته مازال مغمضا عينيه ينصت إلى الصمت أو صوت الريح أو الملائكة، وزينب تستريح في حضنه.
قالت بعدما فرغ والتفت ناحيتها شاكرا : ألا تتأمل في دارك؟ أو في مكان قريب؟ أخشى على زينب أن تجرح الحصى قدميها .
– لماذا ترهقين نفسكِ وتأتين كل يوم؟ إنما أحتاج للعزلة لا للطعام
ربتت على كتفه:
– سأحضر لك الطعام كل يوم .. إنما في راحتك رضاي .

أما القلادة فهي من جزع ظفار مثقب مصقول ناعم، يتقاطع الأبيض والأصفر والأحمر والأسود بخطوط متوازية في كل خرزة، وفي وسطها قطعة على شكل هلال منقوش. لمحتها خديجة وهي على هودجها في زيارة لسوق بني قينقاع، حينما شدت زينب ثوب أمها تستأذن منها لتسير بين الدكاكين، طلبت إلى غلامها أن ينزل الطفلة. ثم أشارت إليه ليقرب لها تلك القلادة، وبينما هي تتفحصها.. جاءها صوت البائع ذي اللحية المدببة : أية حسناء ستشتريها يا أهل يثرب؟ وعلى جيد من ستستريح؟ الجزع يماني، والصانع شامي، والبائع يهودي، فهل تشتريها السيدة العربية الجليلة؟
أومت خديجة للغلام فأنقده الثمن، في هذه الأثناء كانت الطفلة تتأمل الأسقف المبنية بعناية وتسمع ضجيج الباعة وتلفت انتباهها ألوان الأقمشة والحلي التي لا تنتهي. تهادى إليها نداء أمها: بنية زينب .. تعالي .. حان وقت العودة.

حينما كبرت زينب وحانت ليلة زواجها من ابن خالتها أبي العاص ابن الربيع.. ألبستها أمها تلك القلادة.


السنة الثامنة من الهجرة:
زينب الآن على فراش الموت، تتناهبها الحمى، وتختلط عليها الصور والوجوه، تغيب في إغماءة إثر أخرى، وبينهما يلوح لها وجه أمها الودود : أي بنية .. أيعجبكِ لقيط ابن خالتك؟ تتذكر خجلها وصمتها .. تتذكر كيف ضحكت خديجة وباركت حبهما وامتدحت ابن أختها : سيكون نعم الصهر، تتذكر استرسال أمها في الحديث: هل أخبرتكِ عن أمر زواجي من أبيكِ؟ كنت قد حدثت عنه نفيسة، قلت لها إني أرى في محمد بن عبد الله ما لا أراه في غيره من الرجال فهلا عرضتِ عليه الأمر.

تتذكر أمها في شعب أبي طالب، نحيلة متألمة، لكنها لا تنظر إليها إلا بابتسامة.

زينب على فراش الموت، ما زالت برضاها المعهود.. فأبو العاص بقربها يرعاها، وقلادة أمها ما زالت على جيدها.


______________
هوامش:

* قاسم حداد
(1) زينب بنت النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ولدت في العام 23 ق.هـ وتوفيت في العام 8 هـ.
(2) لقيط بن الربيع بن عبدالعزى، زوج السيدة زينب وابن خالتها هالة، قاتل مع المشركين في بدر وأسر، أسلم في العام 8 هـ وتوفي في السنة 12 هـ.
(3) كان أسرى بدر سبعون رجلا، بعضهم عفي عنه وبعضهم قتل وبعضهم أطلق مقابل فدية بينهم العباس وعقيل ابن أبي طالب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى