خالد المرضي - هل تعرف أين تنام الغربان حين تمطر ؟ . .

هل تعرف أين تنام الغربان حين تمطر ؟
من الذي ينام ؟ قال .
قلت : الغربان .. غربان الليل التي تأكل قطط الشوارع المسحوقة .


كادت عيناه أن تسقطا بين قدمي , وقد تنافر الدم من كل بقع وجهه القبيح المستدير , اقسم انه من أقبح الوجوه التي رأيت , تستطيع أن تحدد مرتكز أي وجه قبيح , في فلطحة الأنف مثلا , في جحوظ العينين , في شعر الحاجبين , لكن بالنسبة لهذا السائق لم استطع تحديد النقطة التي يرتكز عليها القبح , كان قبيحا , بل ان ابن ال... هذا كان أقبح ما يمكن أن يرى .

يقال إن الغربان في هيئتها الحديثة , قد جاءت مع سفن شحن البضائع القادمة من الهند . قلت .
قال من الذي جاء من الهند ؟

قلت :الغربان .. غربان الليل التي تأكل قطط الشوارع المسحوقة . الغربان ...

سقطت عيناه عند قدمي , تناولتهما , كانتا تغليان وتتراقصان في راحة يدي المنبسطة نحوه , لم أفكر لحظتها انه لا يرى , كان الغضب طافحا , يندلق فوق جسده ويستقر كبحيرة آسنة في حضنه , لكن بقليل من الصبر والتأني استطعت تثبيتهما في محجريهما .

في فترة العمى تلك بدا أن ذاكرته تعطلت .

قلت : الغربان التي أعرف كبيرة الحجم قليلا , لا تحب المدن , المدن البحرية خاصة , كنت أشاهدها وأنا صغير فوق جيف الأبقار التي تموت في قريتنا , لكن هذه الغربان التي هنا صغيرة الحجم وتحب القطط المسحوقة .

التفت ناحيتي , كانت السيارات تتدافع كالخراف , تعلو من نواصيها المتقدة أبواق متقطعة , تدق الأذان والقلوب .

قال : من يحب القطط المسحوقة ؟
كان يتعرق , وكانت السيجارة التي أشعل تنتفض بين إصبعين يابسين ومجعدين .

قلت : الغربان التي قلت لك إنها جاءت من الهند , الغربان التي لا اعرف أين تنام حين تمطر .. الغربان التي ...

قاطعني بعد أن نفث في وجه الزجاج كمية لا باس بها من دخانه المقيت , قال :
أي لعنة قذفت بك يا ابن القح .. في وجهي هذا الصباح ..

الحقيقة أ نني لم انزعج من كلمته التي ظن أنها ستشطرني إلى قسمين , سأكون صادقا , لقد أزعجتني قليلا لكن هناك طريقة لا يمكن إغفالها , اقصد طريقة سحبه للدخان عبر شفتيه الغليظتين . كان يغيب عقب السيجارة الأصفر كاملا بينهما حتى تبدو السيجارة اصغر مما هي عليه في الواقع , ولا انس جانب وجهه ناحيتي , كان حين يمص تلك السيجارة اللعينة , يبدو وكأنه يعزف تلك الاله المقيتة التي تصنع عادة من جلد الخراف . كان مضحكا , وذلك المنظر هو ما جعل تلك الكلمة المهينة عادة تخرج كنكتة سمجة .

صمت بعدها لفترة , لم تعد لدي رغبة في الحديث عن الغربان , نسيت أن أقول إنني أعمل موظفا , لست موظفا بل حارس أمن لإحدى الشركات , ولا أعرف سر هذا التحول الذي أصابني منذ أن أصبحت في هذه المهنة , أصبحت ثرثارا , هل هي فترة الصمت الطويل التي تخنقني وأنا أتأمل العابرين عبر بوابة المبنى بينما أقف في صندوقي اللعين حتى تنتقل الشمس في السماء من جناح إلى جناح .

كل صباح التقي بأحد هؤلاء السائقين اللعينين , هم في غالبهم من الأسيويين , حينها اعرف ان الصمت هو خير من تكسير اللغة فوق لساني . لكن مع هذا السائق وأمثاله من أبناء جلدتي أحب الثرثرة , هي بالنسبة لي غذاء يشبه سندوتش البيض المسلوق الذي يصنعه الأسيوي اللعين الذي يقابل مبنى الشركة .
توقفت السيارة طويلا عند عين الإشارة الحمراء , التفت ناحيتي .

قال تعرف : اعتقد أن الغربان تنام في فروع أشجار البزرومي حين تمطر , هل يمكن أنها تنام هنالك ؟

قلت أي غربان ؟

قال الغربان التي قلت إنها أتت من الهند , الغربان التي تأكل قطط الشوارع المسحوقة , التي هي كبار في صحرائكم ..

قلت : من قال لك أنني قدمت من الصحراء ؟

قال : قدمت من جهنم .. لعنة الله .... يابن القح ... وعلى ... .. وعلى كل غربان البلد .., كان حينها يوقف السيارة على رصيف الشركة . ثم يهوي برأسه على المقود , وكان يجهش كالطفل .
رفع رأسه في هدوء , تأمل وجهي , ابتسم .. ,

قال : طيري يا حمامة قبل أن ينتف الغرا ب ريشك .

قلت : أي غراب , الذي جاء من الهند مع سفن الشحن , والذي يحب أن يأكل قطط الشوارع المسحوقة ولا تعرف أنت ولا انا اين ينام حين تمطر . ام ذلك الكبير الذي يتغذى على جيف الأبقار في قريتنا .

كان هادئا , كان يبتسم , ولم يعبأ بحديثي الأخير الذي ظننت انه سيشطره إلى قسمين , لكنه عاد وألقى برأسه على المقود .

أقف الآن داخل صندوقي , أشاهده يفتح باب سيارته ويأتي نحوي , كان يبدو وكأنه احد تلك الثيران التي كانت تبكي على تلك الأبقار التي تأكلها الغربان الكبيرة التي في قريتي . الغربان التي لم تأت من الهند مع سفن البضائع , والتي لا اعرف أين تنام حين تمطر , والتي تأكل قطط الشوارع المسحوقة .

لم يأت من باب الصندوق بل نقر على النافذة الصغيرة , كنت أحاول وأنا افتح الزجاج ان احدد النقطة التي قام عليها ذلك القبح الذي يملأ وجهه لكنني لم افلح , كان قبيحا .
قال : يا ابن القح ... . ثم استدار ورحل بعد أن صفق النافذة .

كالعادة , كان المدير اول من رفعت له حاجز البوابة , ابن ال... هذا لا يلقي علي السلام , ولأنني كنت احمل في نفسي بعض النار الموقدة على وقع صفق النافذة فقط , كان يجب أن أثرثر . لحقت عربة المدير التي توقفت تحت مظلتها واقتربت حتى فتحت له بابها .

قلت بينما يترجل وهو يغالب شحنة الكراهية التي يبثها في وجهي : هل تعلم يا سيادة المدير أين تنام الغربان حين تمطر ؟

- ............ !

- الغربان التي جاءت من الهند مع سفن شحن البضائع , والتي تأكل جثث قطط الشوارع المسحوقة ! , الغربان التي ........ !

لم يزعجني كفه الناعم الذي سقط على وجهي , ولا ذلك اللعاب الذي غسل وجهي وعطّره برائحة المعجون , بل إن الذي أزعجني هو عودتي إلى صندوقي دون أن اعرف أين تنام الغربان حين تمطر. الغربان التي تأتي مع سفن الشحن القادمة من الهند , الغربان التي تأكل قطط الشوارع المسحوقة !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى