ميسلون هادي - جميلة هي السبب.. قصة قصيرة

بعد أن هبط الجميع من سيارة الجي أم سي وبقيت رائحة البخور تعط فيها، تأكد السائق أن جميلة هي السبب.. ظلت تنزل للحمّام كلما انفتحت باب السيارة طوال الطريق بين بغداد وعمان.. ومهما كان سبب النزول، فإنها تعود بعد ذلك برائحة غريبة تشبه دخان البخور… رائحة مفعمة بكافور خانق يجعل الرجال يفتحون زجاج النوافذ بين الحين والآخر هرباً إلى الهواء البارد من تلك الرائحة، وهؤلاء الرجال هم سعيد وحميد وعبد المجيد.. وكل واحد منهم تعمد الالتفات إلى الخلف للنظر الى العجوز التي قالت إنها المرة الثانية التي تسافر فيها الى الحدود خلال يومين اثنين هما الثلاثاء والأربعاء.. استغربوا كيف استطاعت تلك العجوز أن تقطع آلاف الكيلومترات خلال ثمان وأربعين ساعة فقط وهي في الستين أو السبعين من العمر. يعني ماذا أفعل؟ قالت العجوز.. الجواز هو السبب.. والكهرباء أيضاً.. لدي ثلاثة جوازات موضوعة في أدراج مظلمة من الخزانة.. واحد بحرف الإس والثاني بحرف الأي والثالث بحرف الجي.. وحمدا لله أنني عثرت على الجواز الصحيح هذه المرة وإلا كنت تأخرت عن موعد المقابلة من أجل الفيزا.. غداً الخميس ويجب أن أكون في السفارة الأمركية بعمّان. أعادت الجملة الأخيرة ناقصة وقالت: غداً الخميس.
خمّن السائق أنها تسكن وحيدة المنزل فور أن وصل الجانب الغربي من بيتها الفخم قرب شارع الضباط في منطقة الكمب.. خرجت من المطبخ تجرجر الحقيبة وحدها، ثم أقفلت الباب بعد إقفال الشباك.. وبعد الباب أقفلت قفصاً يشبه قضبان السجون، وبعد القفص أقفلت الكتيبة التي تفصل الطرمة عن الحديقة.. كل واحد من تلك الأقفاص تأخرت في إقفاله عدة دقائق ثم فتحتها جميعها مرة أخرى من أجل الموبايل، الباب والشباك وكتائب الحماية، ليصبح المجموع عشرين دقيقة تقريباً، تردد السائق خلالها في التقدم نحوها للمساعدة وفقاً لخبرة اكتسبها من بغداد إلى عمان، تملي عليه البقاء خارج حدود ممتلكات المسافرين خاصة لحظة فراقها. من الأفضل عدم التجاوز على المسافة الواقعة بين باب السيارة وباب البيت إلا إذا ما طلبوا هم ذلك، وفي حالة هذه العجوز فإن ما تبقى من المفاتيح في يدها اليمنى، سيجعل أي حركة منه تبدو اقتحاماً لخزنتها العزيزة.
من الساعة الخامسة وحتى الخامسة والربع بعد الفجر وهو يراقبها تقفل الأبواب بإتقان حقيقي وعبر حساب دقيق جعل الركاب أيضاً يراقبون بدون ضجر. مع ذلك حين توقفت قريباً من سيارة الجي إم سي تأكد الجميع بأنهم سينتظرون ربع ساعة أخرى من أجل خارطة طريق مقلوبة إلى داخل البيت لأنها قالت بأن لديها أكثر من موبايل وإنها جاءت من البيت بالموبايل الخطأ.
على كلٍ، كانت ترتدي جاكيتة سميكة فوق ثوب قطيفة من ثياب البيت مما جعل السائق يشك بأنها مصابة بالخرف. وفي كل محطة تقريباً من محطات الطريق تطلب النزول من السيارة وتعود أحياناً برائحة بول خفيفة أو بنقود في يدها نسيت أن تعطيها للبائع الذي كان يتبعها إلى السيارة ثم ينتظر قليلاً.. هه .. تتذكره العجوز ثم تتحقق من النقود وتعد منها آلافاً مقابل شيء اشترته…ألف ألفان ثلاثة أربعة خمسة.. بعد ذلك يغني فريد الأطرش بصوت خافت: أدي الربيع عاد من تاني والبدر هلت أنواره…وفين حبيبي اللي رماني من جنة الحب لناره.. أو يغني عبد الحليم حافظ: قول لي حاجة أي حاجة قول بحبك قول كرهتك قول قول..
على مدى سنوات يشم السائق روائح الركاب ويسمع شخيرهم ويشارك الطعام أحد المستيقظين في السيارة.. يكون هذا الراكب واحدة من النساء المتلفلفات بالسواد عادة، ومن الممكن أن يخمن أسمها قبل قراءته في جواز السفر: سميحة أو مديحة أو صبيحة.. فوزية أو فتحية او شكرية.. وبالتالي فهو يدري أنهن يشغلنه بالطعام والكرزات ليَحلن بينه وبين النعاس حفاظاً على أرواح الجميع. أما الرجال من أمثال سعيد وحميد وعبد المجيد فطبعاً يفتحون أفواههم أثناء النوم ولا يتحدثون كثيراً، وأول ما يستيقظون يسألون: أين وصلنا؟ ثم يكتفون بالنوم مرة أخرى وصولاً إلى مقهى أبو سيف العائلي بعد الحدود العراقية.. هناك يهبط الجميع راكضين مع حقائبهم لتناول الشاي أو القهوة.. وهذه الاندفاعة هي من تقاليد الركاب الذين يشعرون بالراحة العميقة بعد آخر مطب حدودي تجتازه السيارة.. يكونون قد اطمئنوا على إنهم عبروا الحدود بسلام وأن كل شيء سيمضي على ما يرام… يسبق هذا النزول عادة مكالمات هاتفية تأتيهم من بغداد أو عمان.
– ألو. أنا قرب مطعم بلاد الشام
– ألو. أنا قرب مطعم بادية الأنبار
– ألو. أنا في الطريق إليكم
– ألو. نحن في الجوازات
– ألو. نحن في التفتيش
– هذا كل شيء
الحمال الأردني تبع جميلة في الوقت الذي تحركت فيه السيارة بعد آخر نقطة حدودية، لأنها نسيت أن تعطيه خمسة آلاف دينار عراقي كانت موجودة في يدها لهذا الغرض.. وبعد أن ابتعد الحمال قليلاً وفي يده النقود، نادت عليه وأعطته ديناراً اردنياً نبشت الحقيبة من أجله.. واستخرجت معه كل حبوب الضغط والكوليسترول ودوار السفر.. فكم أصبح المجموع عندك؟ أجاب الحمال بلهجة عراقية مضبوطة: صار عندي أربعة دنانير.. فقالت له جميلة:
– لدي ربع دينار عراقي أيضاً فهل تريده؟
– لا ما أريده .
وظلت الباب مفتوحة بانتظار أن ينتهي جميع الركاب من إجراءات الرحيل.. أي واحد منهم ما كان يتذمر من هذا الانتظار أبداً ..أبداً.. أبداً، وأكثر من حديث دار خارج السيارة ،كالعادة، عن برودة الطقس وانفجارات يوم فائت، وبعد أن انتهت (جميلة) من إبتلاع حبة من حبوب بيضاء اللون وحبتين من حبوب صفراء اللون، أعادت باقي قناني الدواء إلى جزدانها وصمتت مدة ثلاث ساعات تبعتها ثلاث ساعات أخرى وعلى فمها تكشيرة متبقية من فكرة سابقة يبدو إنها كانت تشاور بها عقلها طوال الطريق.. ليست الأولى من نوعها في هذه الأيام، فالسفر كان مجرد سفر قبل بضعة أعوام. واليوم هو عنقرة لا بد منها لعجوز ثرية طويلة الأصابع تنزوي في وكرها الخلفي مثل صابونة الحمام.
قبل ست ساعات أملت على السائق بيانات الجواز ليضعها في استمارة العبور من الحدود.. الأسم جميلة حطاب . الولادة بغداد عام 1935.. وسبب الزيارة هو استحصال فيزة إلى أمريكا. هذه ثالث مرة تأتي لهذا الغرض، كما قالت للفتاة التي ساعدتها في تعبئة الرصيد وتغيير السيم كارت.. خمن السائق أن اسم الفتاة سوزان أو رزان أو روان .. وكانت تبدو وهي تخلع سماعة الأذن، وكأنها في فاصل بين أغنيتين تواصل بعده الاستماع للموسيقى ريثما تنتهي جميلة من كلامها: مرة لاستحصال تأشيرة الدخول إلى ألمانيا.. ومرة لاستحصال تأشيرة الدخول إلى السويد.. وهذه المرة إلى أمريكا. سألها المسافر الذي يعلك العلكة في المقعد الأمامي: هل تذهبين لزيارة الأبناء هناك؟ قالت جميلة : كلا، لزيارة الإخوة والأخوات.
تأكد السائق الذي كان صامتاً معظم الوقت، أنها غير متزوجة، وليس لديها من يعيش معها على الإطلاق، وقد تركها الإخوة لحراسة بيت الأهل الكبير الذي عاشوا فيه منذ أول العمر ولم يتبق فيه حتى أرذل العمر أحد سواها.. خمن ذلك من كثرة الأقفال على الأبواب ومن كثافة الأغصان المتشابكة قرب الباب ومن الصدأ الذي أكل لونها الأبيض.. وهناك أيضاً كائن غريب الشكل يوجد قرب الباب الداخلية للبيت إتضح بعد قليل إنه تنور حديدي قديم تراكمت عليه الأتربة والأوراق مما يعني إنه لم يستعمل منذ زمن طويل..
– حسن.. أوشكنا على الوصول.. المفروض أنك تذهبين إلى تلاع العلي؟ هذا صحيح؟
– لا إلى بيت أختي في ضاحية الياسمين..
– تقصدين ضاحية الرشيد؟
– كلا ضاحية الياسمين.
– لا أعرفها.
– هاك الموبايل.. تحدث معهم ليدلوك على البيت.
التفتت العجوز إلى الفتاة الجميلة التي تجلس بقربها في المقعد الأخير وقالت لها لرابع مرة:
– هذا الموبايل جديد ولا اعرف كيف استعمله.. أتعبتِك معي، ولكن شوفي لي من اتصل بي؟
– اتصل بك سعد ثلاث مرات؟ هل اتصل به؟
– كلا.
– وشادية اتصلت بك مرتين؟ هل اتصل بها؟
– كلا..
– بمن اتصل إذن؟
– اتصلي بهشام في ضاحية الياسمين.
– ألو
– ………………….
– ألو
– …………………….
انضم السائق إلى المحاولة الجارية للاتصال بهشام في ضاحية الياسمين دون تحقيق نتائج طيبة، واستمر ذلك لحين وصولهم إلى بيت فارغ.. تذكرت جميلة للتو أن هشام قد هاجر الى الدنمارك….إلى ألمانيا.. أقصد إلى كندا.. ثم عادت إلى هاتفها وطلبت من الفتاة الاتصال برقم آخر…. وكان واضحاً أنه لا أحد يرد على جميلة رقماً رقماً.
سألها السائق:
– ألا يعرف أحد بحضورك؟
– أنا كنت قد أتصلت بحسام في أمريكا ولكنه لم يرد .. والموبايل القديم قد ضاع.. وهمام رقمه غير صحيح وهشام قال لشادية أن تأتي معي.. وشادية عندها ولادة وزوزو لا تستطيع السفر.. وسعد لم يستحصل الفيزة إلى عمان.. ونونو تنتظرني في ضاحية الـــ…..
بقيت جملتها الأخيرة دون تتمة في هواء السيارة المضمخ بالكافور.. وبما أن جميع الركاب قد هبطوا من السيارة تباعاً مع حقائبهم ، فقد استلم السائق موبايل جميلة التي أعادت عليه أرقام عشرة أسماء بينها فادية ونادية أختا شادية وهادية… وزوزو وشوشو أختا نونو وفوفو… ورعد ومعد أخوا سعد ودعد………….. وبدا من الأفضل لجميلة التي استطاعت أن تقطع آلاف الكيلومترات خلال عشرين ساعة أن تعود لتقطعها مرة أخرى خلال عشرين ساعة أخرى. وكان ربع الدينار العراقي لا يزال موجوداً في يدها اليسرى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى