وارد بدر السالم - اغتصاب النصوص والسرقة المشروعة

سيكون من الصعوبة بمكان تطويق موضوع السرقات الأدبية والفنية وبالشكل الذي يبرّز أسبابها وظروفها، فالظاهرة عالمية وقديمة قدم الآداب والفنون ذاتها. متنوعة المزايا والأشكال والظروف. وقع في فخها كبار الشعراء والفنانين والناثرين، ولنا في الأدب العربي من عصوره الجاهلية والأموية والعباسية ما لا يحصى من الأمثلة والشواهد والدلائل التي تشير الى انتشار السرقات الأدبية وعلى يد أعلام وفطاحل من الشعراء والكتّاب. ولن تتوقف هذه الظاهرة بطبيعة الحال وستعاصرها الأجيال كلها ما دام العالم يلد شاعراً كل دقيقة قي عصر الفيسبوك ! وفي تاريخية هذه المشكلة وقف النقد العربي القديم على جملة معطيات عن هذا النوع الشائع وناقشها وحلل أسبابها وأعطاها سماتها كنصوص مسروقة أو متأثرة أو منتحلة أو مغتصبة وسمّاها بمسميات مختلفة.
. بل وأرسى لها قواعد نقدية وعلامات دالّة عليها كما فعل القاضي عبدالعزيز الجرجاني في دفاعاته عن السرقات الشعرية للمتنبي، ومحمد بن سلام الجمحي في مداخلاته عن الانتحال الشعري وحازم القرطاجي والحسن القيرواني، لكن يبقى ابن رشيق في (العمدة) من أكثر الذين واكبوا موضوعة السرقات الشعرية بعلمية منقطعة النظير، فهو يضع النص الشعري موضع التحليل والمطابقة والتعريف والنظر الى بيئته وموقع الشاعر بين الجماعة وظروف النصوص، ووضع أسماء ومسميات بغرض إعادة إنتاج النصوص وتركيب بنيانها الفني؛ أما مسميات السرقات الشعرية أو الانتحالات فهي كثيرة في عمدة ابن رشيق بحسب اللفظ والمعنى كما ورد عنده منها الموارَدة والمرافَدة والالتقاط والتلفيق والاجتذاب والإغارة والاغتصاب ..
يعطي الأخطل انطباعاً بيّناً على وجود سرقات شعرية في عصره ربما تصل الى حد المباهاة بقوله: (نحن معاشر الشعراء أسْرق من الصاغة) ويوازيه في هذا الفرزدق الذي لا ينكر سرقاته الشعرية بقوله: (خير السرقة ما لم تقطع فيه اليد) مما يؤكد رأي الأصمعي المعروف بأن تسعة أعشار شعر الفرزدق هي لغيره ! ويعترف البحتري هو أيضا: أأعاب بأخذي من أبي تمام! والله ما قلت شعراً قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري. ثم اتسعت ظاهرة السرقة لاسيما في العصر العباسي لتشمل سرقة الأمثال وأقوال الحكماء والفلاسفة ، وهو الأمر الذي ما زال سارياً حتى يومنا هذا مع قصيدة النثر التي استوعبت هذه النصوص القصيرة وبثتها بين ثناياها.
ومن يريد الاستزادة عن سرقات كبار الشعراء في العصور الجاهلية والإسلامية والأموية والعباسية فهناك فيض من الكتب التاريخية التي وثقت هذا النوع من المشكل الأدبي، منها على سبيل المثال كتاب (طبقات الشعراء) لابن سلام الجمحي وكتاب (سرقات أبي نواس) لمهلهل بن يموت وكتاب (إغارة كثيّر على الشعراء) للزبير وكتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للجرجاني وكتاب (البخلاء) للجاحظ وكتاب (سرقات البحتري من أبي تمام) لأبي الضياء وكتاب (سرقات الكميت من القرآن وغيره) لابن كناسة وكتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي) لابن وكيع التنيسي، وكتاب (الإبانة عن سرقات المتنبي لفظا ومعنى) للعميدي وكتاب سرقات الشعراء وسرقات البحتري من أبي تمام) لابن أبي طاهر.. وغيرها.
في العصر الحديث
زمن طويل يفصل بين عبدالقاهر الجرجاني والسعودي د.عائض القرني في تسجيل حادثة مقارِبة لما ذهب له الشيخ البلاغي ، ومع أن الفارق هنا نثري وليس شعرياً ، إلا أنه يمكن قبول الحادثة بطريقة الجرجاني وهو يؤرشف السرقات والإقتباسات بروح الناقد المثابر الذي لا يطلق أحكامه بتعسف، ولأن الزمن تغير كثيراً وأصبحت المعطيات أكثر جدلاً بوجود منظومات الاتصالات الحديثة ، فإن ما ذهب إليه الجرجاني في تقصيه للصوص القصائد لا يصح على القرني المتهم بالسرقة ، ولا تصح التسميات النقدية الحديثة كالـ تناص أن تعفي من يقتطع من كعكة الآخرين ؛ فشيخ البلاغة الجرجاني جعل من الصياغة الأدبية هي الأساس في النص الشعري حتى لو تعاضدت بعض النصوص الشعرية في معنى متشابه وهو ما يقترب من مفهوم التناص الحديث كمصطلح اشتقه النقد الأدبي الحديث على يد جوليا كريستيفا ، بمعنى أن النصوص المسروقة ليست مكونات نصية جديدة تأثرت وتماهت مع غيرها من النصوص السابقة فوقع الحافر على الحافر كما تقول العرب، إنما هي نصوص قائمة يمكن إرجاعها الى أصحابها الشرعيين ؛ وما بين هذا وذاك وقع عائض القرني وفي القرن الحادي والعشرين بأسوأ فضيحة شخصية له حينما مثل أمام المحاكم السعودية بتهمة "السرقة الأدبية" في كتابه (لا تيأس) وغرمته المحكمة بما لا يقل عن 300 ألف ريال سعودي لصالح الكاتبة سلوى العضيدان عن كتابها (هكذا هزموا اليأس) وهكذا عاد النص الى صاحبته الشرعية بقرار محكمة وليس بقرار الجرجاني.
إذن السرقة الأدبية هي فعل لاحق على الفعل الأصلي وسطو مقصود على نص موجود أساساً ، في حين حاول منظرو النقد الحديث إيجاد مفهومات جديدة لصياغة مصطلح لهذا النوع من الكتابات التي يُتهم أصحابها بالسرقات الأدبية لمجرد التشابه في بعض الأفكار والمضامين ؛ فالتناص هو ميزان عادل لدفع النصوص الى مماثلاتها الأخرى على أساس أن الأفكار مشاعة لا يحتكرها أحد والمعاني مطروحةٌ في الطريق يعرفها العجميُّ والعربيُّ، والبدويُّ والقرَوي، والمدنيّ، بتعبير الجاحظ ؛ بينما تتغير الأساليب وزوايا النظر الفنية بين الكتاب وطرائق الكتابة وصيغ التناول ، وهو ما ذهب إليه توفيق الحكيم قائلاً "لا ملكية للأفكار ولكن الملكية للنصوص" فالمعيارية في النص الأصلي هي مدى استفادته من امتصاص نصوص سابقة مماثلة له في الجنس الأدبي أو خلاف ذلك. وان الأدب بعمومه "إعادة صياغة الأفكار العظيمة". وأنه "لا يوجد من أتى في الأدب بفكرة جديدة، وإنما يستفيد الأدباء من أفكار من سبقوهم، بل إن كثيراً من كبار الأدباء كانوا نسخاً مطوّرة من أدباء آخرين."
ما قاله توفيق الحكيم التمسه الروائي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز حينما "أخذ" فكرة رواية الياباني ياسوناراي كواباتا "الجميلات النائمات" ونسج على منوالها روايته "غانياتي الحزينات" ، لكن ما يشفع له أنه أعلن "تأثره" بهذه الرواية وتمنى لو كان هو كاتبها ، وهذا مثال نادر في الحياة الأدبية من نكران الذات والاعتراف بالآخر مبدعا. وهكذا يثبت ماركيز أنه مبدع في سلوكه الاجتماعي والأخلاقي، متضافراً مع قيمته الإبداعية التي نعرفها.
في الأدب العربي المعاصر تعرض أدونيس الى مثل هذه الإتهامات بشكل واسع لم يتعرض له شاعر عربي من قبل ، بل صدرت كتب حول الإدعاء بسرقاته الشعرية والفكرية وربما يكون أشهرها كتاب الشاعر كاظم جهاد (أدونيس منتحلاً) ومع أن الشاعر العراقي عادل عبدالله استبق الجميع عام 1978 بإيراده انتحالات أدونيس لمقاطع كاملة من النفري ، إلا أن كتاب كاظم جهاد كان الأكثر شهرة وجدلاً.
كما نشر الدكتور صالح عضيمة كتابه "شرائع إبليس فى شعر أدونيس" ووصفه بـ : أنك شاعر محتال ماكر وإن أكثر شعرك مسروق ملطوش، وإن كتابك "الثابت والمتحول" هو من صنع معلمك ومرشدك بولس نويا، وليس لك فيه ضربة قلم..

هامش
حينما يتسع النص الروائي على سبيل المثال فإنه يغترف من معطيات أخرى عدا الأجناس الأدبية المتعارف عليها ؛ فإنه يذهب الى التاريخ والجغرافية والعلوم وما تتركه وسائل الاتصالات الحديثة من رؤى جديدة في تكوين النص الروائي الجديد في تقنياته المستحدثة ، وعندما نقرأ "شفرة دافنشي" لدان براون كسرد روائي نجده نصا شموليا "أخذ" معلومات ومعارف من مصادر معروفة واتسع بها لضرورات تؤكدها فنية النص الروائي، بمعنى أن براون تسلل الى نصوص أخرى علمية وفنية لم يُخفِها ، بل جاهر بها، و"جمع" منها ما يغذي نصه الطويل، وهذا التوليف الضمني هو ما يدعم معمار الرواية ويُنشيء فيها هندسة جديدة ؛ فلا توجد سرقة هنا ولا تناص ، إنما هو مسلك فني جديد اعتمدته الرواية المعاصرة في توظيف نصوص من غير جنسها أو معلومات وجد المؤلف أنه قادر على أن يستعين بها في تصميم مسرده الروائي العام.

السرقات الكبرى.. بين الأدب والفن
في تاريخ الأدب والفن العالمي يشار دائما الى سرقات كبرى ، وهي التي تقع بين التقليد أو الاقتباس أو الانتحال أو التأثر أو التناص أو السرقة العلنية ، وهي بجملتها تقع في باب اغتصاب النصوص صراحة ، مع تفريقنا الحتمي بين السرقة المفضوحة بانتحال نص أو جزء منه او تقصي أثر لنص ما والسير في طريقه ، كما حصل في "الكوميديا الإلهية" لدانتي حينما وقع حافرها على حافر " رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري الذي جعل من رسالته مسرداً عن الدنيا والآخرة والجنة والنار بوجهة نظر إسلامية ، فيما ذهب دانتي الى الفردوس والجحيم والمطهر بإطار الدين المسيحي. وكلا النصين تقربهما تاريخية الفكر وطريقة العرض النصي .
شكسبير هو أيضا متهم بأكثر من سرقة أدبية في "روميو وجوليت" من الايطالي المغمور ماتيو باندللو في قصته "عاشق فيرونا". واقتبس ثرفانتس صاحب (الدونكيخوته) كثيراً من الأفكار البطولية في روايته من "الإلياذة" لهوميروس. واعتمد جوفاني بوكاتشو مؤلف "الديكاميرون" أسلوب "ألف ليلة وليلة" في نسج الحكايات المتداخلة ونسجها بحبكات مثيرة كما يذكر المستشرق هاملتون .
واتهم إيان ماك إيوان من نسخ عبارات في روايتها الغفران عام 2001، من مذكرات نشرت في عام 1977 من قبل كاتبة أخرى. كما واجه غراهام سويفت الاتهامات في عام 1997 بالتقليد المباشر لرواية وليام فوكنر (عندما كنت أصارع الموت) فأجاب أن كتابه هو "صدى" من عمل فوكنر في روايته (Last Orders)
وهكذا يمكن إيراد العشرات من هذه السرقات او المتشابهات النصية والفكرية العالمية التي تركت آثارها الفنية والمعرفية في الذات الإنسانية في تجلياتها المختلفة.

سرقات الفن
المايسترو سليم سحاب يدافع بقوة عن "اقتباسات" الموسيقار محمد عبدالوهاب ولا يعدها سرقات كما حاول البعض تشويه صورة عبدالوهاب الفنية والطعن بمنجزه الثري، ولكي يكون في محل الموضوعية النقدية فقد طاف على أسماء موسيقية عالمية فاقت شهرتها الآفاق متوجها الى مناطق الاقتباسات هنا وهناك ، فيرى أن باخ أخذ حرفيًا الكثير من مواضيع فوجاته من ملحنين معاصرين له أهمهم (فرسكو بالدي) الإيطالي (وبوكستيهوده) الألماني .
وأخذ موتسارت من لحن الفوجا المزدوجة الشهيرة (كيريي الايسون) من القداس الجناز (ريكوبيام) أخذه من أوارتوريو (المسيح) لهندل. ومن الأوراتوريو نفسه أخذ بتهوفن حرفيًا من كورال هالليولويا تيمة الفوجا التي وضعها في جزء (انيوس ديي) من قداسه الاحتفالي. كما أنه أخذ بداية سيمفونيته الثالثة البطولية من افتتاحية أوبرا (باستيان وباستيانا) التي ألفها موتسارت في سن الثالثة عشرة.
وهكذا يصبح الدفاع عن شخصية فنية ميداناً لفتح الكثير من الخفايا التي نجهلها في عالم الموسيقى و"اقتباساته" بين عمالقة هذا الفن التي تصل أحيانا الى حد السرقة العلنية ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى