ميسلون هادي - قارة أوكسجين.. قصة قصيرة

– يسرني أن أقول إن درامستيك، وعلى عكس الملايين من الديوك الرومية الأخرى لهذا الوقت من العام، أمامه مستقبل مشرق جداً.

بهذه الكلمات طار الهدهد محلقاً إلى عرش قارة أوكسجين لكي ينقل لرئيسها خبر العفو الرئاسي عن ديك رومي حالفه الحظ في النجاة مرفوع الهام من موائد عيد الشكر الأمريكي كما هي العادة كل عام.. الهدهد، الذي نقل الخبر، عرفه تاريخ القارة بهذه الوظيفة منذ أول يوم من أيام تلك الحقبة الأليمة التي كانت تتلاشى فيها الحوينات أمام شهود متفرجين على تلك الجناية. قارة أوكسجين تستقدم بالعادة أفضل الحوينات ذات العيون الملونة من أجل اصطياد الحشرات، التي لو تركت بدون مكافحة، ستتحول إلى غيوم ضبابية تعوق عمل خطوط سكك الحديد في القارة. إنهم يضربون عصفورين بحجر واحد: التخلص من غيوم الهوام التي تعيق وسائط النقل الرئيسة تلك، وتسمين تلك الحوينات ذات العيون الملونة قبل ذبحها. وعلى الرغم من أن الهدهد هو الذي أرشدهم على كيفية استغلال ذلك الحوين للقضاء على الحشرات.. إلا أن قارة أوكسجين طورت طريقة مختلفة عند التخلص منه، فمن الصعب عليهم الحفاظ على كائن يأخذ الأوكسجين في تنفسه، ويطلق ثاني أوكسيد الكربون، ولهذا يجب طويه وقطع حبله الشوكي من الخلف، وبهذا يتم القضاء عليه بعد أن يخلصهم من هذه الدويبات الطائرة التي تتكاثر في الحدائق والطرقات، إذ تستطيع تلك الحوينات أكلها بنهم. قال لهم الهدهد إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب والسيدة الأولى ميلانيا وابنهما بارون قد بدؤوا مراسم العفو عن ديك رومي جديد بمناسبة عيد الشكر الأميركي، وهو تقليد بهيج يتبعه الرؤساء الأميركيون، ويجعل الديك المعفو عنه يفلت وينجو من تقديمه طبقاً رئيسياً على مائدة عيد الشكر التقليدية المتضمنة أيضاً عصير الكرانبري وبعض الحلويات. الديك الرومي الذي عفا عنه الرئيس القرمزي اسمه (درامستيك)، أو عصا الطبل، وهو الآن في الطريق للالتحاق بصديقه (وشبون)، أو عظمة الحظ، في رحلتهما إلى جامعة فرجينيا للتكنولوجيا.

– عوفي عيد الشكر وعُوفيت أيها الهدهد.. لولاك لما وصل إلينا خبر هذا العيد، ولا استعرناه من رئيس القارة القرمزي.. نحن أيضاً نذبح الآلاف من الحوينات ذات العيون الملونة، ونعد منها الولائم والموائد لكي نحتفل بتقديم الشكر على هذه النعم. وقد نعلق على النوافذ بعض الحبال التي تتدلى منها رؤوس تلك الحوينات بعد أن نتخلص منها.

التفت إليه رفيقه وقال:

– رأس الحصان أكبر من رأس الانسان، ووجهه أطول.. ولكن عورته مكشوفة للجميع، وقبضته ليست مصممة لتمسك البرتقالة أو التفاحة أو الرمانة، ولا تفرعت منها الأصابع لتسهيل التناوش بين الأشجار والأدغال. وبما أن تلك التفريعات قد أفادت الإنسان أيضاً في مسك القلم وحياكة الثوب واصطياد الطيور، فهذا يكفي، ولا داعي للمبالغة في بعض المهام التي هي ليست مقنعة لنا كتسلق الجبال وصناعة الساعات أو بضعة أدوات دقيقة.

– لا تنس طقطقة الأصابع أيضاً ها ها ها.. تعال واقترب مني يا رفيقي.. فأنا أحب الشخص المتأمل الذي ينظر للأمور نظرة مختلفة. ألا ترى أن هذه الحوينات لا فائدة منها ويجب أن تباد؟

– إذن أنت تتحدث بلغة أهل القارة القرمزية المغفلين الذي يعيشون بالتهام غيرهم من الكائنات، دون أن يطرف لهم جفن واحد على هذه النهايات التراجيدية لتلك الكائنات.

– أنظر ماذا يحدث لنا قبل أن تفكر بالنهايات.. انظر لحاجتنا لأقراص الاوكسجين التي لا تصنع إلا بشق الأنفس.. تحدثتَ عن الأصابع التي تمسك الأقلام يا رفيقي، والأقلام عندما ينفد حبرها لا تكتب شيئاً، وتغدو مجرد قصبات خاوية ترمى إلى سلة المهملات. فكيف يمكننا الاستمرار إذا لم نقتلها جميعاً، ثم من يزيل تلك الحشرات اللعينة من الأرض.. أنها تفسد سكك الحديد وهي وسيلة النقل الوحيدة لدينا.

– أها.. هذا هو بيت القصيد.. نحن أيضاً نعشق القتل والقتال.. وحتى وإن كنا بدون أكف أو أرجل. فلدينا عقل مصمم لذبح غيرنا.. الحق يقال إننا نكتب أيضاً تاريخنا الدموي بدون الحاجة للأصابع.

– دائماً هناك من يختار حياة مختلفة عن أقرانه، ومن يتصرف بشكل مختلف، وإذا كنت أنت هذا الشخص الرؤوف الرحيم المختلف فدعني أخبرك بأن هذا طيش لا يليق بأمة مقبلة على الهلاك.. إذا اخذت أفكارك هذه بجدية فقد نهلك عن بكرة أبينا.

أطلق رئيس القارة صوتاً كالهرير للتعبير عن سعادته البالغة بقارة أوكسجين التي اكتشفها طائر السنونو، ولم يكتشفها ماجلان او كولومبوس. فهي تغطيها حشرات من نوع غريب وكبير جداً يجب التخلص منه دائماً بالطريقة التي دلهم عليها طائر آخر هو الهدهد:

– ألا تعلم أنه وبطريقة شاعرية للغاية يستمتع هذا الحوين بضوء الشمس، ويغسل نفسه بالماء، ثم ينتفض قجأة ويطلق صوتاً غريباً، وكأنه يريد التخلص من أفكار قد تراوده ولا تعجبه، وأنه لا يفعل ما تفعله الوحوش أو الضواري والكواسر، وإنما يتمشى هادئاً ساكناً طوال الوقت، ومن يدري لربما يتأمل هذا العبث الذي يعيش فيه، وتلك التعقيدات التي يمتلكها في جسمه من الأرجل والرؤوس.. من أجل ماذا؟ قل لي يارفيقي؟ بحق من أجل ماذا؟ قل لي؟

– أنت تفاجئني حقاً هههه.. هل تشفق على حيوان لا يفعل شيئاً سوى أن يتمطى بكسل وينام .. أرأيت مثل هذا الغباء الذي يفخر به هذا الحيوان؟

– ألسنا نفعل الشيء ذاته أيها الرئيس؟ لدينا الوعي الجبار لادراك العبث الذي نحن فيه، ومع ذلك نتمطى ونحلم وننام ونحتفل بعيد الشكر على هذه النعم الزائلة، بل نكون في هذا اليوم تحديداً في مزاج رائق وسعيد.. اللعنة على ما تحمله جيناتنا من هذا الغباء.

– حسنا يا صديقي نحن نعيش لنتعلم.. وسننظر بعين الرأفة في العام القادم إلى هذه الحوينات، وقد نتفوق على رئيس القارة القرمزية، فنعفو عن ألف منهم بدلاً من اثنين.رفيقه لم يفرح، وإنما شعر بالانزعاج من روح سخرية في غير محلها.. لأنها تخص حياة كائن سيذبح منه بالآلاف في ساعة واحدة وبدم بارد. ماذا يفعل سوى التفكير مراراً بالأمر دون التوصل إلى نتيجة. قال الرئيس وكأنه يقرأ أفكاره:

– الاستقرار على وضع ما في مكان ما ليس بالأمر الهين.. أبعد أن حققنا السلام مع أنفسنا تريد تغيير هذه الرغبات القليلة التي تسد حاجتنا للحياة.

– أخشى أن موقعنا هذا يعمينا عن ادراك موقع الاخرين؟

– موقع الآخرين. ها ها ها. وما هو موقعهم عزيزي غير أن يكونوا طعاماً على مائدة العشاء. أتمنى أن تدرك أنت موقعك بشكل أفضل.

– وإذا قلت لك إنهم يقولون الشعر، وليس شعرا عادياً كالذي نفكر به نحن، ولكنه سونيتات منغمة فيها أسماء وأفعال وصفات.

– يبدو أنك قد جربت الانصات إلى لغتهم ها ها ها ها ها.

بالرغم من السخرية التي برقع بها كلامه، شعر الرئيس قليلا بالاقتناع في أن يكون العفو الرئاسي عن اكثر في العام القادم. لن يفعل ذلك على نحو عاطفي عاجل، وإنما عندما يتدارس معه الأمر بشكل أفضل.. في هذه الأثناء استغل الهدهد فترة الصمت التي حدثت بين الرئيس ورفيقه، فنقل إليهما بقية الأخبار التي يحملها، بجانب تلك الجملة التي قالها الرئيس ترامب في بداية حديثه.. قال لهما إن الاتحاد الوطني للديوك الرومية يدفع أجر إقامة الطائرين (وشبون) و(درامستك) في فندق بالقرب من البيت الأبيض قبل الاحتفال. وسوف ينضم الديكان الروميان إلى الديكين اللذين تلقيا العفو في العام الماضي للعيش في غوبلرز ريست بجامعة فرجينيا للتكنولوجيا، حيث يقدم الطلاب والأطباء البيطريون الرعاية للديوك، ويمكن للجمهور الزيارة والتعرف على برامج الجامعة في علوم الحيوان والدواجن والطب البيطري. كما يسهم علماء المستقبل من المتدربين في جامعة فرجينيا في ازدهار قطاع الدواجن الواسع بالولاية.

هذه الوتيرة يجب أن تبقى نفسها لهذا العام في قارة أوكسجين أيضاً، كما قال رئيس القارة، فيتم العفو فقط عن اثنين، وليس واحداً من الحوينات ذوات العيون الملونة. – أنظر يا رفيقي الى زينات البيوت والملابس احتفالاً بعيد الشكر .

– الشكر على ماذا أيها الرئيس؟ على هلاك أمة أخرى.

– اطمئن عزيزي.. أنا أيضاً أتدارس الأمر مع نفسي، وقد أنظر بعين الرأفة إلى العشرات منهم في العام المقبل، أما هذا العام فقد عفوت عن اثنين منهم فقط وفقاً لهذه الموضة الظريفة التي أخبرنا بها الهدهد. ها ها ها.

– لا أجد الأمر مضحكاً عزيزي.

– لا تكن حساساً أكثر من اللازم يا رفيقي.. علينا الآن أن نسمي هذين الكائنين اللذين سنعفو عنهما. ألا يفعل ذلك الرئيس القرمزي وأقرانه من الرؤساء مع الديوك الرومية؟

– وماذا ستسميهما؟

– أهلك وناسك؟

– ………………

– ما بك عزيزي الحساس؟ لماذا لا تضحك.

بعد يوم واحد كان هناك إنسانان يسيران ببطء شديد نحو الغرفة التي أعدت للمعفو عنهم.. بينما الأضواء تنطفيء من عيون آلاف غيرهم وضعوا تحت السكين من جهة الحبل الشوكي الذي يربط الرأس بالظهر والأطراف والأصابع.. كان أحد الإثنين يقول للآخر.. هات يدك يا أخي لقد نجونا.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى