أمل الكردفاني - الإياب.. قصة قصيرة

✍ " لقد هرب"..
حمل بعض قطع ملابسه وهرب...
تحركت نحو النافذة، وتأملت الشتاء الجاف، كانت هناك اشجار سرو قد تحول لحاؤها إلى اللون الرمادي القاتم. وكان الورق أخضراً مسوداً. اما الطريق الذي يفصل بين الغابة والقرية فيمضي ممتدا بين الشرق والغرب وكأنما لا نهاية له.
طفلتان كانتا تلعبان الحجلة. تثني كل منهما ركبتيها وتقفز بالأخرى من مستطيل لآخر مرسوم على الأرض.
لم تكن هناك عصافير في السماء ، بل غمامات فقط. تكدست الغمامات مكفهرة دون أن تمطر.
"ذلك فصل مناسب للحَسَك"...
وحين جلست أمام طبق الإفطار اكتفت بالنظر إليه بعينين ناعستين.
"لقد هرب"..
"سوف يعود"
همست لنفسها: " وسأنتظر"..
...
"سأبحث عن معنى وجودي في الحياة"
قال وهو يضع قدمه في أرض العاصمة، الشتاء هو الشتاء، رمادي دائماً، حتى الأبراج الشاهقة تزحف إلى السماء من فوق رأسه، وتعانق الغيوم الكالحة، والمتسولون يرتدون معاطف ثقيلة مهلهلة رثة.
يبدو وزن الحياة ثقيلاً في قلبه. الحياة التي يبحث لها عن معنى.
"لن أموت كالكلب"..
يمرر بطاقة نقوده في الآلة ويسحب أوراقاً نقدية، يحشرها في جيبه بلا اكتراث. ثم يخطو بأمل نحو أحد البنسيونات الرخيصة. يستأجر غرفة ويضع اوراقه واقلامه على الطاولة، ثم يتمدد على سريره:
"الرواية العظيمة"..
ينام، وحين يستيقظ، يكون الليل قد خيٍّم على الأرض، يغسل وجهه ويرتدي ملابسه استعداداً للكتابة. يقف أمام طاولة الأوراق ويتأملها. يشعر بالإحباط. يخرج من غرفته ليرى المصابيح الشاحبة ترسل خيوطاً باكية من الضوء إلى الأرض لترسم دوائر غائمة النهايات.
يسير قابضاً على ياقة معطفه حتى يبلغ مبنىً من طابقين، يصعد ببطء فرُكبه ما عادت تساعده على مواكبة دقات قلبه الشغوفة. يقف أمام الباب ويلتقط أنفاسه. ثم يطرق الباب.
تمض ثوانٍ، ثم تفتح الباب وتضحك:
- لا يمكنك أن تظل محترماً أبدا يا عبود..مهما حاولت أن تتظاهر بذلك..
ينظر للأرض ويبتسم، فتضيف:
- لا زلتَ خجولاً.. أدخل..
تضج شقتها بطاولات القمار، فيجلس ويحتسي الخمر ثم يخسر كل أمواله، فتدس في جيبه جنيهات:
- اركب تاكسي..لا تحاول العودة برجليك..لقد تجاوزت منتصف الأربعينات وانت تحتاج لرعاية.
"سوف يعود"
.. يعبر سرب طيور غريب لجة السماء الرمادية، سرباً من نقاط سوداء، تراقبه..
"سيعود عندما يدرك أنه لن يستطيع كتابة حرف واحد"..
وهو بالفعل يقف أمام طاولة الورق والأقلام، وتتكرر كل أيامه كعقارب الساعات.
"إنني أكرر نفسي..حتى عندما أهرب..أهرب في الشتاء.."..
لكنه يجلس على الكرسي:
"ولكن ليس هذه المرة..لن اعود أبداً.."
ينقبض قلبه حين يتذكر أنها المرأة الوحيدة التي أحبته بصدق في هذا العالم..
فلماذا لم يبادلها ذات الحب..لماذا يشعر بأنها أمه فقط..
كان يستيقظ في منتصف الليل وينظر إليها وهي نصف نائمة، كان يشعر أنها تراقبه حتى في أحلامه. يجمع بقجة صغيرة ويقرر الهروب بلا أوبة...
"الحياة أوسع من أن تضيع في أحضان امرأة.."..
يخرج ويعبر الشارع الفاصل بين الغابة والقرية، وأصوات صفارات صراصير الليل المتقطعة تتبعه. يخرج كلص..ويمضي نحو الأمل.
"لن أظل مغمورا كدودة الطين..هذا العالم يتسع ليرى وجودي"..
وفي الباص ينتفض قلبه، يخاف لوهلة من أن يفعل كالمرات السابقة، أن يعود خائبا مفلساً، لكنه يستجمع شجاعته عندما يتسرب الفجر، ويرى العمال يخرجون بأصابعهم المتورمة المتسخة للعمل.
"إنكم تمنحونني الأمل..."..
وفي المقهى يطالع الصحيفة ويقرأ أعمال الشبان المغمورين...فيشعر بالنشوة..
ثم يشعر بسذاجة مشاعره.."ولكن..كيف لا يملك أديبٌ مثلي تلك الأحاسيس المرهفة التي ترى روح الله في الحشرة..."..
يغمض عينيه ويبتسم حين يغمره شعاع هارب من نافذة المقهى ليسقط على وجهه...
ذلك النهر البني ينسرب في مجراه بتؤدة، وكانما يستمتع بارتحاله الأبدي ما بين المنبع والمصب...تلك الأشجار الرمادية، وهي ترتعش من برودة الشتاء، تلك الحيوانات الصغيرة ذات الفراء، هي الآن تحت الأرض داخل خنادق سباتها الموسمي، والجبال العالية كإلهة تشاهد مخلوقاتها بتكبر وعظمة.. هذا العالم لا يمكن أن يُختزل في أحضان امرأة..
"ليَ المجد"..
ثم تترنح خطاه في منتصف الليل عائداً من القمار..ينجح بصعوبة في إدخال مفتاحه وفتح باب الغرفة.يلقي نظرة خاطفة على طاولة الأوراق ثم يتهالك على السرير ويغط في النوم..
يرى نفسه طفلاً يلعب مع اخته..يجد نفسه مع والده تائهين في أزقة المدينة الضيقة، تطل فتاتان من الشرفة وتطلبان منه تدريسهما اللغة الإنجليزية..لكنه ما أن يوافق حتى تختفيان ويرى نفسه أمام باب صغير يفضي به إلى زقاق آخر..فيمضي وحيداً محاولاً الخروج من حصار الأزقة باحثاً عن شارع رئيسي..
...
تصفر الآلة ويكتشف أنه فقد كل ماله. فيجلس في المقهى..تبدو الحياة ثقيلة جداً على قلبه..
تهيج الريح الباردة هيجات مفاجئة...ثم تخبو فجأة أيضاً...
يفتح الباب ببطء، ويدلف إلى الداخل ، يجدها نائمة كما تركها..فيرقد إلى جوارها منكمشاً في أحضانها كجرو مبتل...تمد ذراعيها وتضغط عليه برقة.. راحتاها دافئتان كالعادة..تضربه أنفاسها في أنفه..فيغمض عينيه ويشعر بالطمأنينة.
(تمت)
  • Like
التفاعلات: فاطمة الفلاحي

تعليقات

نص فني مكتمل الإتجاهات عميق المعنى وسريع القص، ينسل منه بعض الوعظ ، لقضية سلوكية أضحت من شواغل الإنسان - القمار وخسائره- شعرت وهذا رأيي والإختلاف بالرأي لايفسد للود قضية، وكأن النص يدعونا للتأمل والبحث عن حلول لبعض القضايا وطرق الخلاص من تبِعاتها.
 
بذل وقتك والتعليق على عملي المتواضع شرف لي..بالنسبة للقمار وغيره هو عنصر لخدمة الغاية من العمل الأدبي لا يختلف عن الشتاء والاوراق..الخ.. فكل العمل -واي عمل- هو رموز تتلاحم لخلق شعور ما اكثر من كونها خلق معنى ما.. الشعور مثلا بالانتماء..بالوطن..بالاستقرار..بالتوازن أو الضياع..بالبحث عن الذات..بالصراع الأنطولوجي المتفاقم كازمة مزمنة..الخ.. لذلك يمكن النظر للشرب والملاهي كما يُنظر إليها في شعر الخيام وأبي نواس..إذ ليس التلاهي إلا تعبيراً عن البحث عن الحقيقة...وهي التي تنفر مبتعدة من أي تلامس بين أصابع الوعي واصابعها...
 
أعلى