تراجع الصبي للوراء ثم دار على عقبيه وهرول وهو يصيح:
- غزاة..غزاة..غزاة..
شاطئ البحر الذهبي كان يستحم بدفقات المدِّ كل هنيهة قبل أن يتطهر بعدها بأشعة الشمس. ومئات القوارب الخشبية تمخر الماء بروية ويسر متجهة نحو الشاطئ ثم استقرت عليه بأزيز خفيف وهي تميل قليلاً على أجنابها.
عمدة القرية تقدم جماهير المواطنين حاملاً بندقيته، وبخطى حثيثة وأعين ضيقة وخدود مختلجة ناعمة -إذ كان أمرداً- وقف أمام شاطئ البحر. وقف صامتاً كقومه من الرجال واجمي الوجوه وهم يحدقون في القوارب الساكنة. صاح:
- لماذا تختبؤون داخل قواربكم ..ابرزوا إلينا لنتقاتل وجها لوجه..سوف تعلمون كم نحن أولي بأس شديد...صحيح أن عدد قواربكم تقريبا بنصف عدد سكان قريتنا وبالتالي وبحسبة بسيطة.. إذا كان بكل قارب خمسة أفراد فأنتم أضعاف أعدادنا..لكن كثرة العدد لا معنى لها حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن..أليس كذلك يا رجال؟
لم يجبه الرجال من شدة الخوف فعاد وصاح:
- أليس كذلك؟
سرت همهمات بينهم فعض على شفتيه من الغيظ ودار ملتفتاً إليهم:
- عليكم اللعنة..أليس كذلك؟
نظروا إليه بخوف وهنا صاح صبي:
- نعم يا سيدي العمدة..
وردد بعض الصبية الهتاف وهم يضحكون..
عاد ودار مواجهاً القوارب الصامتة، ثم قطَّب جبينه ورفع بندقيته وأطلق رصاصتين في الهواء..ثم انتظر قليلاً، غير أن القوارب ظلت ساكنة.
- لن تخدعونا...سأستنفر الحكومة المركزية إذا لزم الأمر..في كل الأحوال فلدى دولتنا جيشٌ لا يقهر..العديد من المدرعات والطائرات والراجمات والطوربيدات وغير ذلك..صحيح أن شعب دولتنا الصغيرة هذا لم يختبر أي حرب طوال تاريخ وجوده على الأرض لكنه حينما يوضع أمام الأمر الواقع فستجدون فرساناً أشداء..
قال ذلك وبتردد اخذ يخطو إلى الأمام حتى اقترب من أول قارب قبالته. اقترب بحذر ثم مد ببندقيته إلى داخل القارب وصرخ والدم يتجمد في رأسه، لكنه صمت وهو يتأمل ما بداخل القارب، دار برأسه داخل القارب وهمس:
- لا شيء.. لا يوجد أحد..
سرت همهمات بين جماهير الرجال، فتشجع قليلاً وانتقل إلى قارب ثانٍ ثم ثالث فرابع..وصاح:
- ولكن كيف...كيف وصلت بنفسها إلى شاطئنا...
قال رجل:
- كنا سوف نبيدهم لو كان بها أعداء..
صاح الرجال:
- نعم نعم...
قال العمدة:
- لعلها خدعة من الأعداء..لعلها كمين..
عمّ الوجوم على الوجوه مرة أخرى..
التفت العمدة إلى الرجال وقال:
- ستنقسمون إلى مجموعات للحراسة..كل خمسة رجال يتبادلون أماكنهم كل أربع ساعات.. راقبوا جيداً...
ظل الرجال واجمين فصاح:
- هيا انقسموا..
لكنهم ظلوا واجمين فرفع قبعته المصنوعة من جلد الماعز وضربها على الأرض ثم شق صفوفهم وغادر..
في الواقع؛ لم يبق رجل على الشاطئ، لقد فضلوا البقاء مع أسرهم بحجة حمايتهم. أما العمدة فوجدوه في المساء وقد شنق نفسه وكان قد كتب على قميصه الزهري: (لا يمكنك أن تكون قائداً دون أن تُطاع)..
غير أنهم لم يأبهوا لموته بل دفنوه، دون مراسم، خاصة أنه لم يكن متزوجاً.
ظلت القوارب ساكنة على الشاطئ لأسبوع وقد هجر السكان الشاطئ تماماً.
....
"مليكا حبيبتي..
أكتب إليك وقلمي يرتعش من لهفة الحب.. أنتظرك على شاطئ الموت يا صغيرة القلب..إن لم يقدر لنا أن نعيش سوياً فلنمت معاً إذاً"..
مليكا المراهقة الصغيرة، قبضت على خطاب حبيبها والدموع تقطر من عينيها. عضت شفتيها وهي تتخيل كيف سوف تشعر والدتها بالحزن عندما تموت، لكنها شعرت بقبضة في قلبها عندما تذكرت أن والدتها هي نفسها سبب شقائها..لقد كانت والدة حبيبها الحبيبة السابقة لأبيها التاجر.. لقد شاع حبهما في القرية لكن والدتها خطفته من خطيبته وتزوجته وأصبح العداء بين المرأتين قاسياً.
بكت مليكا وهي تقول لنفسها: سوف أموت لكي تتذوقي مرارة فقدي..ولتشعري بذنب رفضك زواجه بي..
قرر العاشقان أن يذهبا إلى الشاطئ والاستلقاء على أحد تلك القوارب الدخيلة، فقد شاع أن من يرى ما بداخلها يموت، أو يصاب بالجنون فينتحر كما حدث للعمدة.
وفي منتصف الليل دفعت مليكا أغطيتها ببطء وحذر وغادرت فراشها، ثم غطت وجهها وخرجت من منزلها الصغير إلى حيث اللقاء الأخير..
...
آه يا مليكا..كم اشعر بك الآن..
قالت بجزع:
يا إلهي.. إنني أيضاً أشعر بك..
كانا يجلسان فوق القارب الذي ظل يتهدهد برفق والقمر يرسم دائرة ضوء بيضاء حوله..
- مليكا..مليكا..ما هذا الذي يحدث لي.. إنني لا أفهم.. لكن..لكنني أشعر كأنني هو انتِ..أشعر بكل جزعك وحبك لي...هل.. هل هذا منطقي..
ارتمت في أحضانه وبكت..
- وأنا كذلك يا حبيبي..أشعر بك وكأنك روح تتلبس قلبي..لماذا أنت حزين هكذا..لم أكن أعرف أنك حزين هكذا...
- حقاً يا مليكا..أنا حزين..منذ طفولتي وأنا حزين..
قالت:
- لكنك لم تخبرني أبداً بذلك..
قال:
- لأن الكلمات..الكلمات ما كانت لتعبر عن حقيقة ما بداخلي..
قبلته على خده:
- يا إلهي.. لو مررت بمثل حزنك هذا لانتحرت...إنني الآن أرغب في الانتحار..
قال:
- عليك أن تبتعدي عني..عودي إلى منزلك.. فخوفك يتزايد..أشعر بذلك..لا يجب أن تصلي هذا الحد من الفزع .. لن أتحمل ذلك..غادري..
- ولكن..
- فلنغادر هذا القارب العجيب..إنني لن أتحمل أيضاً شعوري بفزعك هذا...
غادر المراهقان القارب وافترقا..
....
- سنسوى الأمر بيننا على انفراد..
قال التاجر، فرمقه السمسار بنظرة ذات مغزى:
- لا أيها اللص..بل أمام كل زملائنا في السوق..
صاح التاجر:
-اقسم بشرف ابنتي مليكا سوف أسدد لك ولكن ليس الآن..
رد السمسار:
- احمد الله أن شرف مليكا مستقل عن ذمتك الناقصة وإلا كانت ابنتك اليوم حُبلى بعشرة توائم..
صاح التاجر بغضب:
- لا تتحدث عن شرف ابنتي هكذا يا وقح...
وقبض الرجلان على تلابيب بعضهمها حتى فرقهما باقي التجار عن بعضهما البعض..
صاح التاجر:
- فلنسوي الأمر بيننا رجلاً لرجل..وعلى قوارب الموت...
قال السمسار:
- هل تعتقد أنني خائف.. أجزم بأن فرائصك ترتعد كلما نطق لسانك بقوارب الموت هذه...ليس بيننا تسويات.. بيننا حق يجب ان تبذله لصاحبه..ولكنك تحاول سرقة جهدي..وبشهادة هؤلاء الرجال لقد انجزت مهمتي على أكمل وجه فأين عمولتي أيها اللص..
- قلت لك سأدفع لك..
-وأنا لا أصدقك.. وما دمت قد تحدثت عن قوارب الموت..فليكن ولنذهب إليها الآن وفوراً..
بدا الجزع على وجه التاجر وغمغم:
-وما علاقة قوارب الموت بالدين؟
قال السمسار:
- اسأل نفسك.. الآن هيا ولتقسم لي ونحن هناك داخلها لتشهد شياطينها عليك...
رفت ابتسامات على وجوه التجار وصاحوا:
- نعم نعم...إلى هناك..
.....
"ادفعوني جيداً.."..
حاول الرجال رفع التاجر إلى القارب لكنه كان ثقيلاً بمؤخرة ضخمة..
واخيرا وقع على الجانب الآخر داخل القارب الذي ترنح فوق الماء قليلاً ثم جلس الرجلان في مواجهة بعض وهما يحدقان في أعين بعضهما بقسوة..
قال السمسار:
- رغم اكفهرار وجهك لكن روحك خاوية..
صمت التاجر فأضاف السمسار:
- كم اشعر بخوائك..إنك لا تكترث بشيء إلا بالمال..
ضاقت عين التاجر ورد:
- كم تمقتني.. أشعر بكل مقتك لي.. ها..أيها الكلب..تشعر بمقت مختلط بحزن وحب...
لوى فكه ككلب وأضاف:
- هااا.. انت تحب زوجتي إذاً؟
اكفهر وجه السمسار وهمس:
- كيف أحبتك..كيف احبت كل هذا الخواء.. أنت تشعر بالغبطة الآن.. تتلذذ بألمي.. أشعر بك..
- وأنا أيضا أشعر بألمك..إذاً فقد ظللت تكظم غيظك كل تلك السنين..
- أراها كلما نظرت لوجهك..
- بل ترى هزيمتك..
- نعم.. لكنني الآن أعرف أنني لم أهزم.. فأنت لا تشعر نحوها بأي عاطفة..
ثم اتسعت عيناه:
- يا إلهي..إنك مستعد حتى لأن تتنازل عنها مقابل دَيْنك..
انخفض صوت التاجر:
- هذه القوارب الملعونة.. إنها تعرينا تماماً..
- لكنك لا تشعر بالغضب من عريك..بل بفقدان الفرصة في مساومتي على الدين..
-أنا تاجر.. رجل سوق.. هل تريد أخذها إلى الأبد..سأتنازل لك عنها...ولكنني لست مسؤولاً إن رفضتك..
ثم قهقه التاجر وأضاف:
- أشعر بالغبطة تسري في داخلك والأمل القديم يتجدد في روحك..كم انت مغفل..لذلك ظللت سمساراً فاشلاً طوال حياتك..سأمنحك هذه الفرصة مقابل تنازلك عن الدين..ولكنني لست ملتزماً بأن تقبل هي بك..
تهللت أسارير السمسار وقال بسرعة:
- موافق..
هلل الرجال للاتفاق الذي ذاع خبره بين جميع أهل القرية.. وبكل خزي سارت زوجة التاجر والسمسار نحو القوارب..حتى جلسا داخل أحدها وظلا صامتين..شعرت المرأة بخجله ثم بفزعه حين شعر هو بمقتها له فصاح:
-ولكنني أحببتك منذ الطفولة..
صاحت بشراسة:
- لقد فضحتني بحماقاتك.. بيتي ينهار.. زوجي الذي كنت احبه أصبح بالنسبة لي خنزيراً ..لا أطيق البقاء معه ساعة واحدة..
- إبقِ معي إذاً..
- لا فأنا اكرهك أكثر منه...
وشعر بكتلة من الكره تتشرب في قلبها فشعرت هي بالكآبة تغمره، وشعر هو بتلذذها في الانتقام منه، فشعرت هي بأنه يدخل في سوداوية عميقة ثم انتفض قلبها حين نهض وأخرج مسدسه وأطلق منه رصاصة على رأسه...
....
لقد رأيتم ما حدث...
قال أحد الرجال...وأضاف:
هذه القوارب ملعونة...وهي تدفعنا إلى اللجوء إليها باستمرار..لكن نهاية انكشاف عورات أرواحنا تفضي بنا إلى نهايات مأساوية..لقد انتحر العشرات حتى الآن بسببها..
قال شاب معترضاً:
- ولكنها أفضل من الكلمات... الكلمات التي لا تعطنا معنى شاملاً ومشبعاً لما تختلج به صدورنا..
صاح رجل:
- أنت شاعر وتقول ذلك؟
قال الشاب:
-ولأنني شاعرٌ أقول ذلك... إن قارباً واحداً أفضل من ملايين المجازات الشعرية...
قالت امرأة:
- إنه مختل عقلياً... واستمعوا لصوت العقل.. يجب إحراق هذه القوارب الملعونة..
قررت الغالبية الساحقة إحراق القوارب وبالفعل اتجهت الجماهير نحوها وبدأوا في اشعالها من الداخل.. كان الفزع يغمرهم وكل واحد يشعر بشعور الآخرين داخله...
الحب..الكره..المقت..الحزن..الكآبة.......الخوف..الفزع...البؤس.. الخواء... وكانت كل تلك المشاعر تتبدل بين الفينة والأخرى كموجات الهواء التي حملت دخان الخشب المحترق معها إلى السماء..
(تمت)
- غزاة..غزاة..غزاة..
شاطئ البحر الذهبي كان يستحم بدفقات المدِّ كل هنيهة قبل أن يتطهر بعدها بأشعة الشمس. ومئات القوارب الخشبية تمخر الماء بروية ويسر متجهة نحو الشاطئ ثم استقرت عليه بأزيز خفيف وهي تميل قليلاً على أجنابها.
عمدة القرية تقدم جماهير المواطنين حاملاً بندقيته، وبخطى حثيثة وأعين ضيقة وخدود مختلجة ناعمة -إذ كان أمرداً- وقف أمام شاطئ البحر. وقف صامتاً كقومه من الرجال واجمي الوجوه وهم يحدقون في القوارب الساكنة. صاح:
- لماذا تختبؤون داخل قواربكم ..ابرزوا إلينا لنتقاتل وجها لوجه..سوف تعلمون كم نحن أولي بأس شديد...صحيح أن عدد قواربكم تقريبا بنصف عدد سكان قريتنا وبالتالي وبحسبة بسيطة.. إذا كان بكل قارب خمسة أفراد فأنتم أضعاف أعدادنا..لكن كثرة العدد لا معنى لها حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن الوطن..أليس كذلك يا رجال؟
لم يجبه الرجال من شدة الخوف فعاد وصاح:
- أليس كذلك؟
سرت همهمات بينهم فعض على شفتيه من الغيظ ودار ملتفتاً إليهم:
- عليكم اللعنة..أليس كذلك؟
نظروا إليه بخوف وهنا صاح صبي:
- نعم يا سيدي العمدة..
وردد بعض الصبية الهتاف وهم يضحكون..
عاد ودار مواجهاً القوارب الصامتة، ثم قطَّب جبينه ورفع بندقيته وأطلق رصاصتين في الهواء..ثم انتظر قليلاً، غير أن القوارب ظلت ساكنة.
- لن تخدعونا...سأستنفر الحكومة المركزية إذا لزم الأمر..في كل الأحوال فلدى دولتنا جيشٌ لا يقهر..العديد من المدرعات والطائرات والراجمات والطوربيدات وغير ذلك..صحيح أن شعب دولتنا الصغيرة هذا لم يختبر أي حرب طوال تاريخ وجوده على الأرض لكنه حينما يوضع أمام الأمر الواقع فستجدون فرساناً أشداء..
قال ذلك وبتردد اخذ يخطو إلى الأمام حتى اقترب من أول قارب قبالته. اقترب بحذر ثم مد ببندقيته إلى داخل القارب وصرخ والدم يتجمد في رأسه، لكنه صمت وهو يتأمل ما بداخل القارب، دار برأسه داخل القارب وهمس:
- لا شيء.. لا يوجد أحد..
سرت همهمات بين جماهير الرجال، فتشجع قليلاً وانتقل إلى قارب ثانٍ ثم ثالث فرابع..وصاح:
- ولكن كيف...كيف وصلت بنفسها إلى شاطئنا...
قال رجل:
- كنا سوف نبيدهم لو كان بها أعداء..
صاح الرجال:
- نعم نعم...
قال العمدة:
- لعلها خدعة من الأعداء..لعلها كمين..
عمّ الوجوم على الوجوه مرة أخرى..
التفت العمدة إلى الرجال وقال:
- ستنقسمون إلى مجموعات للحراسة..كل خمسة رجال يتبادلون أماكنهم كل أربع ساعات.. راقبوا جيداً...
ظل الرجال واجمين فصاح:
- هيا انقسموا..
لكنهم ظلوا واجمين فرفع قبعته المصنوعة من جلد الماعز وضربها على الأرض ثم شق صفوفهم وغادر..
في الواقع؛ لم يبق رجل على الشاطئ، لقد فضلوا البقاء مع أسرهم بحجة حمايتهم. أما العمدة فوجدوه في المساء وقد شنق نفسه وكان قد كتب على قميصه الزهري: (لا يمكنك أن تكون قائداً دون أن تُطاع)..
غير أنهم لم يأبهوا لموته بل دفنوه، دون مراسم، خاصة أنه لم يكن متزوجاً.
ظلت القوارب ساكنة على الشاطئ لأسبوع وقد هجر السكان الشاطئ تماماً.
....
"مليكا حبيبتي..
أكتب إليك وقلمي يرتعش من لهفة الحب.. أنتظرك على شاطئ الموت يا صغيرة القلب..إن لم يقدر لنا أن نعيش سوياً فلنمت معاً إذاً"..
مليكا المراهقة الصغيرة، قبضت على خطاب حبيبها والدموع تقطر من عينيها. عضت شفتيها وهي تتخيل كيف سوف تشعر والدتها بالحزن عندما تموت، لكنها شعرت بقبضة في قلبها عندما تذكرت أن والدتها هي نفسها سبب شقائها..لقد كانت والدة حبيبها الحبيبة السابقة لأبيها التاجر.. لقد شاع حبهما في القرية لكن والدتها خطفته من خطيبته وتزوجته وأصبح العداء بين المرأتين قاسياً.
بكت مليكا وهي تقول لنفسها: سوف أموت لكي تتذوقي مرارة فقدي..ولتشعري بذنب رفضك زواجه بي..
قرر العاشقان أن يذهبا إلى الشاطئ والاستلقاء على أحد تلك القوارب الدخيلة، فقد شاع أن من يرى ما بداخلها يموت، أو يصاب بالجنون فينتحر كما حدث للعمدة.
وفي منتصف الليل دفعت مليكا أغطيتها ببطء وحذر وغادرت فراشها، ثم غطت وجهها وخرجت من منزلها الصغير إلى حيث اللقاء الأخير..
...
آه يا مليكا..كم اشعر بك الآن..
قالت بجزع:
يا إلهي.. إنني أيضاً أشعر بك..
كانا يجلسان فوق القارب الذي ظل يتهدهد برفق والقمر يرسم دائرة ضوء بيضاء حوله..
- مليكا..مليكا..ما هذا الذي يحدث لي.. إنني لا أفهم.. لكن..لكنني أشعر كأنني هو انتِ..أشعر بكل جزعك وحبك لي...هل.. هل هذا منطقي..
ارتمت في أحضانه وبكت..
- وأنا كذلك يا حبيبي..أشعر بك وكأنك روح تتلبس قلبي..لماذا أنت حزين هكذا..لم أكن أعرف أنك حزين هكذا...
- حقاً يا مليكا..أنا حزين..منذ طفولتي وأنا حزين..
قالت:
- لكنك لم تخبرني أبداً بذلك..
قال:
- لأن الكلمات..الكلمات ما كانت لتعبر عن حقيقة ما بداخلي..
قبلته على خده:
- يا إلهي.. لو مررت بمثل حزنك هذا لانتحرت...إنني الآن أرغب في الانتحار..
قال:
- عليك أن تبتعدي عني..عودي إلى منزلك.. فخوفك يتزايد..أشعر بذلك..لا يجب أن تصلي هذا الحد من الفزع .. لن أتحمل ذلك..غادري..
- ولكن..
- فلنغادر هذا القارب العجيب..إنني لن أتحمل أيضاً شعوري بفزعك هذا...
غادر المراهقان القارب وافترقا..
....
- سنسوى الأمر بيننا على انفراد..
قال التاجر، فرمقه السمسار بنظرة ذات مغزى:
- لا أيها اللص..بل أمام كل زملائنا في السوق..
صاح التاجر:
-اقسم بشرف ابنتي مليكا سوف أسدد لك ولكن ليس الآن..
رد السمسار:
- احمد الله أن شرف مليكا مستقل عن ذمتك الناقصة وإلا كانت ابنتك اليوم حُبلى بعشرة توائم..
صاح التاجر بغضب:
- لا تتحدث عن شرف ابنتي هكذا يا وقح...
وقبض الرجلان على تلابيب بعضهمها حتى فرقهما باقي التجار عن بعضهما البعض..
صاح التاجر:
- فلنسوي الأمر بيننا رجلاً لرجل..وعلى قوارب الموت...
قال السمسار:
- هل تعتقد أنني خائف.. أجزم بأن فرائصك ترتعد كلما نطق لسانك بقوارب الموت هذه...ليس بيننا تسويات.. بيننا حق يجب ان تبذله لصاحبه..ولكنك تحاول سرقة جهدي..وبشهادة هؤلاء الرجال لقد انجزت مهمتي على أكمل وجه فأين عمولتي أيها اللص..
- قلت لك سأدفع لك..
-وأنا لا أصدقك.. وما دمت قد تحدثت عن قوارب الموت..فليكن ولنذهب إليها الآن وفوراً..
بدا الجزع على وجه التاجر وغمغم:
-وما علاقة قوارب الموت بالدين؟
قال السمسار:
- اسأل نفسك.. الآن هيا ولتقسم لي ونحن هناك داخلها لتشهد شياطينها عليك...
رفت ابتسامات على وجوه التجار وصاحوا:
- نعم نعم...إلى هناك..
.....
"ادفعوني جيداً.."..
حاول الرجال رفع التاجر إلى القارب لكنه كان ثقيلاً بمؤخرة ضخمة..
واخيرا وقع على الجانب الآخر داخل القارب الذي ترنح فوق الماء قليلاً ثم جلس الرجلان في مواجهة بعض وهما يحدقان في أعين بعضهما بقسوة..
قال السمسار:
- رغم اكفهرار وجهك لكن روحك خاوية..
صمت التاجر فأضاف السمسار:
- كم اشعر بخوائك..إنك لا تكترث بشيء إلا بالمال..
ضاقت عين التاجر ورد:
- كم تمقتني.. أشعر بكل مقتك لي.. ها..أيها الكلب..تشعر بمقت مختلط بحزن وحب...
لوى فكه ككلب وأضاف:
- هااا.. انت تحب زوجتي إذاً؟
اكفهر وجه السمسار وهمس:
- كيف أحبتك..كيف احبت كل هذا الخواء.. أنت تشعر بالغبطة الآن.. تتلذذ بألمي.. أشعر بك..
- وأنا أيضا أشعر بألمك..إذاً فقد ظللت تكظم غيظك كل تلك السنين..
- أراها كلما نظرت لوجهك..
- بل ترى هزيمتك..
- نعم.. لكنني الآن أعرف أنني لم أهزم.. فأنت لا تشعر نحوها بأي عاطفة..
ثم اتسعت عيناه:
- يا إلهي..إنك مستعد حتى لأن تتنازل عنها مقابل دَيْنك..
انخفض صوت التاجر:
- هذه القوارب الملعونة.. إنها تعرينا تماماً..
- لكنك لا تشعر بالغضب من عريك..بل بفقدان الفرصة في مساومتي على الدين..
-أنا تاجر.. رجل سوق.. هل تريد أخذها إلى الأبد..سأتنازل لك عنها...ولكنني لست مسؤولاً إن رفضتك..
ثم قهقه التاجر وأضاف:
- أشعر بالغبطة تسري في داخلك والأمل القديم يتجدد في روحك..كم انت مغفل..لذلك ظللت سمساراً فاشلاً طوال حياتك..سأمنحك هذه الفرصة مقابل تنازلك عن الدين..ولكنني لست ملتزماً بأن تقبل هي بك..
تهللت أسارير السمسار وقال بسرعة:
- موافق..
هلل الرجال للاتفاق الذي ذاع خبره بين جميع أهل القرية.. وبكل خزي سارت زوجة التاجر والسمسار نحو القوارب..حتى جلسا داخل أحدها وظلا صامتين..شعرت المرأة بخجله ثم بفزعه حين شعر هو بمقتها له فصاح:
-ولكنني أحببتك منذ الطفولة..
صاحت بشراسة:
- لقد فضحتني بحماقاتك.. بيتي ينهار.. زوجي الذي كنت احبه أصبح بالنسبة لي خنزيراً ..لا أطيق البقاء معه ساعة واحدة..
- إبقِ معي إذاً..
- لا فأنا اكرهك أكثر منه...
وشعر بكتلة من الكره تتشرب في قلبها فشعرت هي بالكآبة تغمره، وشعر هو بتلذذها في الانتقام منه، فشعرت هي بأنه يدخل في سوداوية عميقة ثم انتفض قلبها حين نهض وأخرج مسدسه وأطلق منه رصاصة على رأسه...
....
لقد رأيتم ما حدث...
قال أحد الرجال...وأضاف:
هذه القوارب ملعونة...وهي تدفعنا إلى اللجوء إليها باستمرار..لكن نهاية انكشاف عورات أرواحنا تفضي بنا إلى نهايات مأساوية..لقد انتحر العشرات حتى الآن بسببها..
قال شاب معترضاً:
- ولكنها أفضل من الكلمات... الكلمات التي لا تعطنا معنى شاملاً ومشبعاً لما تختلج به صدورنا..
صاح رجل:
- أنت شاعر وتقول ذلك؟
قال الشاب:
-ولأنني شاعرٌ أقول ذلك... إن قارباً واحداً أفضل من ملايين المجازات الشعرية...
قالت امرأة:
- إنه مختل عقلياً... واستمعوا لصوت العقل.. يجب إحراق هذه القوارب الملعونة..
قررت الغالبية الساحقة إحراق القوارب وبالفعل اتجهت الجماهير نحوها وبدأوا في اشعالها من الداخل.. كان الفزع يغمرهم وكل واحد يشعر بشعور الآخرين داخله...
الحب..الكره..المقت..الحزن..الكآبة.......الخوف..الفزع...البؤس.. الخواء... وكانت كل تلك المشاعر تتبدل بين الفينة والأخرى كموجات الهواء التي حملت دخان الخشب المحترق معها إلى السماء..
(تمت)