حمدة خميس - في رحاب العزلة

يا لنعمة الصمت! يا لبذخ العزلة وحرير الهدوء! ها أنتِ وحدكِ، خرج الجميع.. القليلون في شخوصهم، الكثيرون في الضجيج. وحدكِ، ليس حولكِ إلاّ أنتِ. ليس معكِ غير نفسكِ تستريح إليكِ. غير روحكِ تسأنس بكِ. في العزلة، في التوحد بالنفس، تتفتح الحواس كلها. البصر والبصيرة. يتحد المرئي واللامرئي في اللحظة ذاتها. السمع والانصات. أي نأمة في الخفاء تصير عزفا.. رهافة الأصابع تستيقظ من بلادة المألوف، تصير عينا ترى وأذنا تسمع ودما يتدفق بين اللمس والملموس حتى يملأ الجسد بلذة النشوة أو رعشة الرهبة. حاسة الشّم تسري حتى مروج الحلم. يقتحمك الوجود كله. الكائنات والكون. هسهسة العشب والذبول في جسد الخريف. طقطقة الغصون إذ تنحني للمهب. دقات الزمن تسير برتابة الأيام وسرعة النهايات. صدى بكاء طفل منسي في البعيد يوقظ الحزن. لغط أقاويل في المدى المجهول يتلاشى بطيئا. البحر البعيد، البعيد في شجوه الأبدي. وجوه اتشحت بالنسيان وأوغلت في الغياب، تنهض من لجة الذاكرة. مدن، محطات، طرقات، زوايا وحجرات.

تسيرين متئدة وحدكِ، ووحدكِ وددتِ لو تهتِ، لو أضعتِ الطريق إلى البيت. البيت الذي ليس بيتكِ ولم يكن لكِ فيه خيط ولا إبرة. لماذا تسوقك خطاً غامضة إليه؟ تتوقين الضياع كطفلة تاهت في الزحام والضجيج، فانفلتت شاردة في طرقات تجهل خطواتها، وضلت السبيل إلى الذراعين. لكنكِ كبرتِ على الضياع.. حين اهتديت إليكِ !

يا لفيض الوحدة وترف الأنس بالنفس!

لكأن وقع خطاك على الأرض، نهنهة الجذور إذ تنهض حين الهطول.

أي ماس يبرق في تنفس العزلة. أي نهوض يتأهب، وخيال يشب. أية سعة تمتد امام البصيرة نحو المطلق واللانهائي. أي ميزان رهيف يزن البشر بالعدل: كل البشر واحد، وكل واحد هو البشر كلهم.!

للكائنات نشيد عزلتها في تجلي الوجود. للماء في الأنهار، للرياح في الجهات، للشجر في الفصول، للبحر في الأمواج. للزمن في تعاقب الليل والنهار. للطيور في الهجرات، وللإنسان في رهبة الحب!

حين تسكنين إليك وتستكينين إلى وحدتك.. المكان أجمل ما يكون المكان، الضوء أبهى، والظلال رقة. الأشياء صديقة، والجدران رأفة الرحم. الأبواب طمأنينة، والنوافذ أجنحة. وأنتِ أنتِ لا غيرك. لا أحد يأخذك منك. لا نجي لك سواك. لا رفقة سوى خفق القلب وبهاء الروح.!

هل تستشعرين الوحشة وأنت وحدك؟ إذن لست وحدك.. لست وحدك.

أنت مسكونة بغيرك، وغيرك إذ يغيب غبتِ، وإذ لم يحادثك صممت. وإذ لم يناديك طرشت!.

هل تخافين التوحد بنفسك؟ لماذا؟ ألأنك ولدت وحدك وتموتين وحدك، تخشين التوحد في الطريق بين المسارين؟

سيان.. أخشيتِ وحشة الطريق أم آنستِ رفقة الرفيق في الطريق، فأنت وحدك. إن أرحت التعب فوق وسادة الليل فأنت وحدك. وإن نعمت بهمس الصبح فأنت وحدك. إن طعمت أو كسيت أو خرجت أو رجعت، إن غضبت أو رضيت، إن اجتاحك الجنون أو أسبغت عليك الحكمة وشاحها فأنت وحدك. إن كنت في حضن الامومة أو كنت في حضن الحبيب فأنت وحدك. إن أمضّك الحزن. أوأوغل الالم في خلاياك فأنت وحدك

* شاعرة من البحرين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى