نهض حماد مسرعا عند ساعات الفجر الأولي نحو الخارج، وقف في منتصف الطريق، أخذ يركز علي مصدر الصوت! ارتفع الصياح من جديد، انعطف علي اليمين، ثم اتجه صوب الناحية الأخري من المزرعة، اخترق حشدا من الزرائب ألحقت بصور مبني بالطوب، كان الجو ملبدا بالغيوم، آثار رذاذ المطر ترسم علي الأرض أشكالا تحاكي لوحات (بول كلي) التشكيلية.. توقف علي حافة حائط عتيق تكومت أحجاره بطريقة غير منتظمة، الأمور كما هي العادة، صمت قاتل، شيء من بعيد يخفت ويختفي، ضوء القمر يضاعف الأشكال المحيطة بالمكان! يا الله.. ها هي المقبرة، الوادي، أضرحة الأولياء، كل هذه الأماكن تعطي إحساسا بنهاية العالم..!
انتظر يرقب الأجواء عن كثب، أشعل سيجارة وبدأ يتفرس في العتمة من حوله، لكنه لم يستطع أن يطيل وقفته، عاد إلي بيته ولا يوجد في رأسه سوي الأصوات الضاجة التي لا تنفك تطارده في كل ليلة عند ساعات السحر. أقفل بابه بإحكام، وقال لنفسه وهو يضع رأسه علي الحائط: ستصبح الأمور علي ما يرام، لا وجود إلا ما يستدعي القلق، وإذا حدث لا قدر الله شيء مريب مرة أخري، فما من شك، بأن هذه المنطقة مسكونة بالأشباح كما يقول جدي، ذلك الرجل الذي لا ينطق لسانه إلا صدقا.
وفي لحظة ما، بينما كان مستلقيا علي فراشه يحملق في رقاص الساعة المنتصب أمامه علي جدار الغرفة، تذكر حديث الناس عن قبيلة (المساخيط) أولئك الذين كانوا يقطنون المناطق المحيطة بالمزرعة منذ أمد بعيد، ثم تذكر قصة (أبو كروسة) الذي مر ليلا علي مكان يسمي (أم سيرتي) وفجأة انحرفت به العربة من أعلي المنحدر، ومنذ ذلك الحين أصبح المكان مسكونا بالأشباح لا تظهر إلا للغرباء..ومن جهة ثانية، وبطريقة يتعذر شرحها، تذكر قصة العفريت ذي العين الواحدة وعلاقته الوطيدة بحالات الانتحار الغامضة بالقرية، لكن الحكاية الوحيدة التي طالما أرعبته وأشعلت الشيب في رأسه، كانت حكاية (حارس البئر)، وهو صِّل أسود ذو أنياب حادة، عريض الرأس، له صُنان كصنان التيس، وعرف طويل يشبه عرف الضبع، كان ذلك الصل (كما يقول جده) يحسن تقليد الأصوات، خاصة نواح النساء والحيوانات الأليفة مثل القطط والكلاب وغيرها، وفي أحد الأيام بينما كان الجد يحرث الأرض عند حَجاج الجبل، سمع عجيج حُملان من ناحية البئر، فأرسل في مساعدتها، وأوصي بالفطنة والحذر مثلما هي العادة، فلربما علق أحد الحملان بالأسلاك الشائكة أو سقط في (حقفة) البئر، وما إن وصلت النجدة حتي كان الصل متربعا علي النّضح ينتظر فريسته، ومنذ ذلك اليوم علم جميع سكان البلدة كيف يقتنص حارس البئر ضحاياه.
تململ علي فراشه، أغمض عينيه ودعكهما بيديه، تمتم بأدعية دينية، تعالت الأصوات من جديد، ارتعشت فرائصه وتجمد الدم في عروقه، ستظل الأصوات متواصلة لا تسكن حتي الصباح مثلما يحدث في كل ليلة، ومن شدة اضطرابه أصيب بانقباض في المعدة، وألم شديد عند أسفل الظهر، أواه.. ما العمل؟ سأنتظر في البيت حتي يحين الشروق، وقبل ذهابي إلي المشفي، سأبحث عن ذلك المخلوق اللعين، لا بد من أنه مختبئ في خربة ما قريبة من البئر. سأقضي عليه حتما..لا أريد أن يقال عني (كما كانت تقول العرب): أصابته إحدي بنات طبقٍ.
أحس حماد بنشوة عارمة وهو يفكر في التخلص من الأرق الذي يطارده منذ أعوام، فصمم بعد طول تفكير بأن يواجه الأخطار مهما كانت العواقب، وبينما كان يرقب طلوع الشمس، تناهي إلي أسماعه فحيح أفعي أسفل النافذة، عرف من لحظتها، بأن رائحة الدم هي من قادتها إلي بيته، وفي أقل من ثانية كانت البندقية في يده، وما إن فتح الباب حتي أصبح هو والعدو وجها لوجه! ما هذا؟ قالها والرهبة تصعقه، أطلق وابلا من الرصاص علي رأس الصل الذي سقط في الحال دون مقاومة.! وحين زال الخطر، ألقي سلاحه علي الأرض، وبدأ يلتقط أنفاسه علي عتبة الباب، وعندما استفاق من الصدمة، قال مندهشا: إنه مخلوق بشع، مخلوق أسطوري، إنه حقا عفريت! نعم! كان من المفترض علينا، نحن البشر، ألا نرفض شيئا لم نعرفه. هذا ما خطر علي ذهنه في الساعات الأولي من النهار وهو يحملق في عفريت أرض المساخيط.
ليبيا
انتظر يرقب الأجواء عن كثب، أشعل سيجارة وبدأ يتفرس في العتمة من حوله، لكنه لم يستطع أن يطيل وقفته، عاد إلي بيته ولا يوجد في رأسه سوي الأصوات الضاجة التي لا تنفك تطارده في كل ليلة عند ساعات السحر. أقفل بابه بإحكام، وقال لنفسه وهو يضع رأسه علي الحائط: ستصبح الأمور علي ما يرام، لا وجود إلا ما يستدعي القلق، وإذا حدث لا قدر الله شيء مريب مرة أخري، فما من شك، بأن هذه المنطقة مسكونة بالأشباح كما يقول جدي، ذلك الرجل الذي لا ينطق لسانه إلا صدقا.
وفي لحظة ما، بينما كان مستلقيا علي فراشه يحملق في رقاص الساعة المنتصب أمامه علي جدار الغرفة، تذكر حديث الناس عن قبيلة (المساخيط) أولئك الذين كانوا يقطنون المناطق المحيطة بالمزرعة منذ أمد بعيد، ثم تذكر قصة (أبو كروسة) الذي مر ليلا علي مكان يسمي (أم سيرتي) وفجأة انحرفت به العربة من أعلي المنحدر، ومنذ ذلك الحين أصبح المكان مسكونا بالأشباح لا تظهر إلا للغرباء..ومن جهة ثانية، وبطريقة يتعذر شرحها، تذكر قصة العفريت ذي العين الواحدة وعلاقته الوطيدة بحالات الانتحار الغامضة بالقرية، لكن الحكاية الوحيدة التي طالما أرعبته وأشعلت الشيب في رأسه، كانت حكاية (حارس البئر)، وهو صِّل أسود ذو أنياب حادة، عريض الرأس، له صُنان كصنان التيس، وعرف طويل يشبه عرف الضبع، كان ذلك الصل (كما يقول جده) يحسن تقليد الأصوات، خاصة نواح النساء والحيوانات الأليفة مثل القطط والكلاب وغيرها، وفي أحد الأيام بينما كان الجد يحرث الأرض عند حَجاج الجبل، سمع عجيج حُملان من ناحية البئر، فأرسل في مساعدتها، وأوصي بالفطنة والحذر مثلما هي العادة، فلربما علق أحد الحملان بالأسلاك الشائكة أو سقط في (حقفة) البئر، وما إن وصلت النجدة حتي كان الصل متربعا علي النّضح ينتظر فريسته، ومنذ ذلك اليوم علم جميع سكان البلدة كيف يقتنص حارس البئر ضحاياه.
تململ علي فراشه، أغمض عينيه ودعكهما بيديه، تمتم بأدعية دينية، تعالت الأصوات من جديد، ارتعشت فرائصه وتجمد الدم في عروقه، ستظل الأصوات متواصلة لا تسكن حتي الصباح مثلما يحدث في كل ليلة، ومن شدة اضطرابه أصيب بانقباض في المعدة، وألم شديد عند أسفل الظهر، أواه.. ما العمل؟ سأنتظر في البيت حتي يحين الشروق، وقبل ذهابي إلي المشفي، سأبحث عن ذلك المخلوق اللعين، لا بد من أنه مختبئ في خربة ما قريبة من البئر. سأقضي عليه حتما..لا أريد أن يقال عني (كما كانت تقول العرب): أصابته إحدي بنات طبقٍ.
أحس حماد بنشوة عارمة وهو يفكر في التخلص من الأرق الذي يطارده منذ أعوام، فصمم بعد طول تفكير بأن يواجه الأخطار مهما كانت العواقب، وبينما كان يرقب طلوع الشمس، تناهي إلي أسماعه فحيح أفعي أسفل النافذة، عرف من لحظتها، بأن رائحة الدم هي من قادتها إلي بيته، وفي أقل من ثانية كانت البندقية في يده، وما إن فتح الباب حتي أصبح هو والعدو وجها لوجه! ما هذا؟ قالها والرهبة تصعقه، أطلق وابلا من الرصاص علي رأس الصل الذي سقط في الحال دون مقاومة.! وحين زال الخطر، ألقي سلاحه علي الأرض، وبدأ يلتقط أنفاسه علي عتبة الباب، وعندما استفاق من الصدمة، قال مندهشا: إنه مخلوق بشع، مخلوق أسطوري، إنه حقا عفريت! نعم! كان من المفترض علينا، نحن البشر، ألا نرفض شيئا لم نعرفه. هذا ما خطر علي ذهنه في الساعات الأولي من النهار وهو يحملق في عفريت أرض المساخيط.
ليبيا