يُغني جابر وأنا من ورائه، على طول السكة من المدرسة وحتى وصولنا للعزبة. تسمعنا الصفصافة فيتوقف حفيف شعرها على خدّ الماء. نرى أعالي شجر الكافور في تقارب والتقاء. يُغني جابر نغمَ الحزن من مواويل أبيه الغاوي. كل يوم موال من أجل "مِنعم"، والزمن كان زمن غناء.
وفي زمن الغناء كنا نقترب من "مِنعم"، في مكانه عند أول السلم. على ذراعه شارة الشرطة المدرسية الحمراء. أغمز جابر بكوعي. أنتظر أن يبدأ ويسري مواله الكفيل بإسكات كل الوشيش الهادر لطلوعنا بعد انتهاء الطابور. نتلكأ معا، ولا يخرج صوت جابر. بعد كل ذلك نكتفي بكلمات معتادة لا نتجاوزها: ازيك يا محمد! لا نقول "منعم" كما يناديه المدرسون أو القريبون منه. هو "محمد عبدالمنعم" وجها لوجه. يلتفت لنا بكل هدوء مع إيماءة مبتسمة. نُكمل صعودنا اليائس، وهو ما زال هناك.. بطوله الظاهر وشعره الأسود المفروق. نغيب في الفصل حتى تأتي الفسحة، وننزل إليه من جديد.
عام واحد يفصلنا عنه، مع ذلك كنا نتعجب من فارق الطول والهيئة بيننا وبين أجساد السنة الثانية في مدرستنا الإعدادية. وجوههم تشبه الرجال، وفي الأغلب لا يحملون حقائب.. يكتفون برزمة الكتب الملمومة في قلب كتاب مفتوح. يمشون هكذا متغندرين بقمصانهم وبناطيلهم. لا يجرون أو يهزرون برمي الطوب أو رش الماء. نرقبهم في الفسحة يلعبون مع سنة ثالثة، أو مع فريق المدرسين ونحن في صف ممتد بطول الخط الجيري، نلتهب بالتشجيع والتصفيق. شورتات وترينجات وتمريرات الكرة منظمة وعاقلة مثلهم. لا تكسير أو زعيق. حين ينتهون تكون وجوههم ملفوحة بالاحمرار والعرق. "منعم" أكثرهم احمرارا بوجهه القمحي. في طريقه للحمامات تكشط أصابعه العرق من على جبينه. عرق عرق، حبات ملتمعة في الشمس تتجمع في خيوط مائية يشربها سريعا تراب الحوش. ينظر جابر إلى مكان قطرات العرق في الأرض. يمد قدمه، وبحذائه يمسح التراب ويسحبه فوق البقعة الصغيرة. يحجل متقافزا وراء "منعم" في نفس الاتجاه. في الحمام نراه منحنيا تحت الحنفية. ماء ماء. يستدير وقد انفرش شعره فوق جبينه. هل شعره طويل جدا لهذا الحد؟ يُكمل ارتداء القميص والبنطلون بعد أن نزع فانلة الأرجنتين بخطوطها السماوية المتوازية، وبنطلون ترينج كحلي. يضعهما في كيس أحمر، ويُخرج مشطا أسود. بسرعة يرجع شعره هائشا ناعما للوراء. مع كل حركة أو انحناءة تهتز الخصلات المُرطَبة، وينفرج المفرق الطولي. نعبر وراءه الحوش بطوله حتى فصله بالدور الثالث. نسمع طرقاته الخفيفة على الباب، ومن الشباك نرى شعره يتلوى قبل أن يتهيأ للجلوس. نقف في مكاننا: لماذا لم ننزل لفصلنا؟ إحساس شامل بالخيبة، دفعنا إلى غليان: لن يستمع أو يشغل دماغه بمواويل أبيك يا جابر، وصوتنا أصلا لن يخرج بها عن حدود السكة في المرواح. تمايلَ بها أبوك طول عمره وهو يسير خلف جَملِه المُحمَّل بتلال ربطات الأرز أو حطب القطن. لن يسمعها منك أو حتى من أبيك نفسه. لا أمل في موال الأمس الذي أخذ السكة بطولها: (الميَّة بتسقي الشجر، لكن الثمر مش واحد/ والبحر والنهر ميّة، لكن الطعم مش واحد/ والبطن واحدة، لكن الخَلف مش واحد/ ...ودي حكمتك في الكون يا الله يا واحد). موالنا نحن يظهر في عيوننا الملتمعة بالتصميم: اليوم اليوم، بعد الجرس النهائي، لن نمشي من نفس الطريق إلى العزبة. وراء سور المدرسة ننتظر. سنغادر زمن الغناء.
وحده يمشي. ودَّع رفاقه بابتسامة لم تزد عن تلك الممنوحة لنا على السلم. ظهر مربع وذراع تعزف للأمام والخلف قي قوس منتظم. رزمة الكتب تحت كفه نظيفة وجديدة، والقلم الفرنساوي مُمَدد هناك في القلب. أنا وجابر فعلناها مرة، تركنا الحقيبتين وجئنا بالكتب. داوَمنا ليومين بلا ثالث، تغندرنا بما يكفي خلالهما حتى تقصفت حواف الصفحات وعرقت أكفنا على أغلفة الكتب. أين ذهب عرقه الغزيز وقت اللعب؟ تنثني كفه على الكتب ولا تقبض. فاصل خفيف يتبدى. رأسه ثابت قدامه، لا فوق أو تحت. خلف ظهره تلك الالتفاتات المتكررة إليه من بنات البلوزات البيضاء والجيبات الكحلية. ليس معنا بنات في المدرسة. واحد من المدرسين يقول إن شكلنا يقطع الخَلف. رغم ذلك تفوت مجموعات من مدرسة البنات أمام سورنا، ويشغي الشارع بنا وقت الخروج. "منعم" يأخذ طريقه من هنا كل يوم بعيدا عنا. لم يزد الأمر عن خروج "سلام عليكم" مع رفع ذراعه في لمحة، فنسمع من ورائه الرد كاملا من الجالسين. يقف ليُسلم ويتكلم هامسا كعادته. نعبره ونقف قليلا على جنب. بيته بعيد على ما يبدو. مشينا الشارع الكبير في البلدة، وسنرجع مرة أخرى، وفي الخاطر مشوار رجوعنا اليومي للعزبة. أخيرا انتهى همسه وابتسامه بسلام وتبديل الكف الحاضنة للكتب. سحبني جابر بسرعة، ودون أي مقدمات انحنى والتقط القلم الفرنساوي من الأرض. وضعه في جيب بنطلونه وأكملنا سيرنا عائديْن من نفس الطريق. ألتفت وأرى "منعم" قبل أن يدخل الشارع الصغير. لو كنا صبرنا يا جابر! لا يسمعني. لا ينطق. لماذا شملنا السكوت هكذا؟ هل طال الطريق؟ عند الجميزة نقعد مهدودين. يحفر جابر بعصا ويُخطط مربعات في التراب. يُخرج القلم ويدفنه ويُسوي الأرض. غدا، غدا، نكتب له رسالة. في الفسحة ندخل فصلهم ونضعها في كتبه. نخبره أننا وجدنا القلم. لن يعرفنا. قلمه الآن ينام في مكان بعيد لا يعرفه إلا نحن. لو طلبه سنعطيه له، وسيبتسم لنا. هناك أيضا أشياء أخرى. حين ذلك، كان علينا معرفة أن زمن الأشياء قد ابتدأ.
في زمن الأشياء لم نكتب الرسالة، إنما وقفتُ حارسا على باب الفصل. الدور كله خال مع انشغال الجميع بالماتش. الحوش كله دنيا هائجة. جابر في الداخل يجلس مكان "منعم". يُفتش، يفر صفحات الكتب الراقدة في الدُّرج، يُمسك قلما آخر ويتكتك به. قلم حلو. يُشير لي بالقلم. لا أدري. يضعه في مكانه. يُخرج من جيب بنطلونه ما أعطيته له في الصباح: منديل قماش مُطبق. إنه منديلي الرمادي مغسول ومتروك طول الليل تحت المخدة. بين صفحات كتاب يضعه ويُسوي كل شيء كما كان. ننزل متقافزين بقلوب تزلزلها الدقات الضاربة. أعرف أن "منعم" سيعتني بالمنديل. سيظل معه رماديا جميلا. سيتمخط فيه برفق. لن يزعق كما أفعل، ولن يتركه مبقعا راشحا. منديل هابط من السماء جدير بالعناية! وحتى الغد المنتظر، سيعبر المنديل أمام عيني مرات لا حصر لها. مرة في يده وهو يسد به فمه اتقاء برد غير موجود، وأخرى يمر به على جبهته بعد الماتش. لكننا لم نر المنديل في يده لا في وقت الخروج أو صباح اليوم التالي. وكان علينا الانتظار للفسحة. أنا على الباب وجابر هناك. أخرجَ منديلي كما هو ولوّح به. وضعه في مكانه ودسَّ بين الكتب ميدالية مذهبة. جابر لا يذكر هل ترك المنديل في ركن الدرج أم في الكتب؟ اليوم سيرى المنديل والميدالية. ستبرق في يده الحرة العازفة. في عملية اليوم الثالث كنا معا نُقلِّب وطرنا من الفرح. منديلي وميدالية جابر معه الآن. أشرتُ إليه أن يُخرج ما أحضرناه ويُخفيه بسرعة. بالفعل نامت الطاقية الصوف الحمراء فوق الكتب. غامت عيون جابر وغاب، فعرفت أنه رأى "منعم" قادما من قلب الشبورة برأس مؤطر بالأحمر وفي يده تتدلى اللمعة الصفراء. رأيناه ورأيناه ولم نصدق أنه أمامنا! نعم في الباب تماما. تذكرتُ أنني غادرت موقعي لأول مرة. هادئا مبتسما جاء، وجلس على التختة المقابلة. رفع رجله وحط حذاءه البني على طرف المقعد. ضحك وأمالَ رأسه. أخرجَ من جيبه المنديل والميدالية ومدَّهما. أخذهما جابر. ما الذي قيل ساعتها؟ وماذا حدث بالضبط في دقائق الفسحة، وفي خلاء الدور كله؟ تم ضبطنا متلبسين، وفي النهاية نزلنا بالأشياء الثلاثة و"منعم" معنا! قال إنه سينتظرنا بعد الجرس قدام البوابة. يعرف أننا من العزبة. سيمشي معنا. بقيت الكلمتان الأخيرتان في آذاننا طوال الحصص الأخيرة. دقائق نسمع دقاتها في الصدر وسط تثاؤب المدرس والجو الغائم. حصة أخرى تتمدد. ثالثة تشبه ساعة ما قبل المغرب في رمضان. وفي ضربة المدفع نخرج. أمامنا مشوار الفرح وزمن الفرح.
ثلاثة في زمن الفرح يمشون. واحد يغني مواويل بعينين مشعتين، والثاني ينظر للجميزة الجليلة وأخواتها وسائر الموجودات ويعرف أنهم معهم. الثالث هو الضيف يمشي في صمت وبعينيه شجن ليس له مثيل. هل هو سعيد أم حزين؟ كان يعرفنا من اليوم الأول والمنديل. انتظر حتى يعرف حكايتنا. تساءل عن عدم كلامنا معه مباشرة: ليه؟ توقفنا جوار الجميزة ولم نرد. ستبقى كلمته المندهشة وملامحه ساعتها من الأمور التي تستدعي الاسترجاع والتمثيل. أخرجنا جابر من حالة التسمر بخطواته المنسحبة نحو القلم المدفون. نبش خفيفا وعاد به. تأمله "منعم" وأخذ منا المنديل والميدالية والطاقية وعاد هو ينبش. في نفس المكان تقريبا دفن الأشياء كلها ورجع نافضا كفيه. ها قد أصبح شريكنا، أمينا معنا على الأشياء. فات الوقت بسرعة. سلّم علينا واستدار. خطوتان وتوقف: "أشوفكم بُكرا". جاوبنا بتلويحات عفيّة وابتسامات راضية مرضية. لم نتحرك حتى حجبته الصفصافة في انثناءة السكة. واصلنا دون أن نلتفت. فقط انشغلنا باستعادة "ليه؟" من الوجه المندهش. تنافسنا في القدرة على تمثيلها كما خرجت أول مرة. ليه؟ لا لا، الصوت خشن. ليه؟ هذا رقيق أكثر من اللازم. الدهشة أعلى قليلا. فلنقلها بشكل طبيعي. وقلنا.. لا فائدة. وقبل أن يدخل جابر بيتهم جذبته من ذراعه وأنا أقلب عينيّ في دهشة مصنوعة: صحيح ليه؟! انفلت مني ضاحكا ولفّ بإصبعه دائرة كاملة: بُكرا.
رأيناه خفيفا باسما. تقدم نحونا وتكلم وأدخلنا في زمنه. لفّ ثلاثتنا دائر الحوش خمس مرات. عرفنا أنه يعيش مع أمه وأن أباه ميت. أخته الكبيرة متزوجة في بلد أخرى. في زمن "منعم" طُفنا عوالم بعيدة مرسومة في مجلات مصورة. لم نعرف أنه في الفسحة يذهب للمكتبة حين لا تكون لديه رغبة في اللعب. اكتشفنا أننا لم نفتح كتابا في حصص المكتبة من قبل. كنا ننشغل بالكلام والكتب مرصوصة أمامنا وفي الجوار. فتح هو لنا عالم الصورة باتساع. صور تشبهنا لبقر وجواميس وفلاحين بالطواقي. هناك أخرى عن بلاد الجليد والقُبّعات ودنيا البحار والحيتان والقروش. حكى عن الأمير المسحور الذي يتحول في الليل إلى قطة جميلة تنام بين قدمي الأميرة الفاتنة المحبوسة في قصر عليه حراس ضخام. مع أول ضوء تختفي القطة وتحزن الأميرة وتظل تعد الساعات حتى يأتي الليل. في صباح أحد الأيام نسي الأمير أن يعود لهيئته الآدمية، وبقيت القطة نائمة متدفئة في حضن الأميرة. لم يعد في إمكانه أن يعود كما كان مثلنا. اشترطت الساحرة الملعونة عليه أن يتسلل في الصباح ليتمكن من العودة إلى الهيئة الآدمية وإلا سيبقى قطة للأبد. في ذلك اليوم ما رأينا قطة –حتى ولو ضالة قبيحة- إلا وظنناها أميرا متحولا. سيلازمنا ذلك طويلا. لم نقرأ إلا معه، أو الأصح هو الذي يقرأ لنا. يختار ويبدأ ونحن نسمع. لم يعد يلعب كثيرا، وفي المرواح يرافقنا حتى الجميزة. بيديه دفن الكثير من الأشياء التي أحضرها بنفسه: تمثال حجري لرجل يرفع شعلة، مطفأة سجائر عليها رسوم فرعونية.. قال إنها تخص أباه الذي كان يعمل بالسياحة. أشياء أخرى اتسع بها قبر كنوزنا المدفونة. كانت تمسكه حالة عجيبة وهو يحفر. يكون متحمسا مستثارا، وبمجرد الانتهاء وتسوية التراب؛ تخفت روحه قليلا. من الجائز أن يقوم فجأة ويمشي. اعتدنا على تصرفاته المباغتة، اعتذاره عن المكتبة ورفقة المشوار مرة بعد مرة، عودته للعب في الفسحة ووقفته بشارته الحمراء عند السلم، سأمه من اللعبة كلها. بقينا فترة لا نحفر لنرى الأشياء. نفوت عليها وننظر معا في لحظة واحدة ونمضي. "لمّا يكون معانا".. يبدو أننا اتفقنا بلا كلام على ذلك.
ماذا نسمي ذلك الزمن الذي دخلنا فيه؟ من المؤكد أن له اسما لم ينطقه أي واحد منا. زمن رسبَ فيه جابر ذلك العام، بعدما هام مع أبيه وراء الجمل والمواويل. في العام التالي كبر "منعم" أكثر، وتعقَّلَ أكثر. يبقى ذلك الذي يمر وحيدا على أشياء لن ترى النور.. فلا يُمكن أن يتجرأ ويكشف خبيئة لا تَخُصه وحده.
حسام المقدم
وفي زمن الغناء كنا نقترب من "مِنعم"، في مكانه عند أول السلم. على ذراعه شارة الشرطة المدرسية الحمراء. أغمز جابر بكوعي. أنتظر أن يبدأ ويسري مواله الكفيل بإسكات كل الوشيش الهادر لطلوعنا بعد انتهاء الطابور. نتلكأ معا، ولا يخرج صوت جابر. بعد كل ذلك نكتفي بكلمات معتادة لا نتجاوزها: ازيك يا محمد! لا نقول "منعم" كما يناديه المدرسون أو القريبون منه. هو "محمد عبدالمنعم" وجها لوجه. يلتفت لنا بكل هدوء مع إيماءة مبتسمة. نُكمل صعودنا اليائس، وهو ما زال هناك.. بطوله الظاهر وشعره الأسود المفروق. نغيب في الفصل حتى تأتي الفسحة، وننزل إليه من جديد.
عام واحد يفصلنا عنه، مع ذلك كنا نتعجب من فارق الطول والهيئة بيننا وبين أجساد السنة الثانية في مدرستنا الإعدادية. وجوههم تشبه الرجال، وفي الأغلب لا يحملون حقائب.. يكتفون برزمة الكتب الملمومة في قلب كتاب مفتوح. يمشون هكذا متغندرين بقمصانهم وبناطيلهم. لا يجرون أو يهزرون برمي الطوب أو رش الماء. نرقبهم في الفسحة يلعبون مع سنة ثالثة، أو مع فريق المدرسين ونحن في صف ممتد بطول الخط الجيري، نلتهب بالتشجيع والتصفيق. شورتات وترينجات وتمريرات الكرة منظمة وعاقلة مثلهم. لا تكسير أو زعيق. حين ينتهون تكون وجوههم ملفوحة بالاحمرار والعرق. "منعم" أكثرهم احمرارا بوجهه القمحي. في طريقه للحمامات تكشط أصابعه العرق من على جبينه. عرق عرق، حبات ملتمعة في الشمس تتجمع في خيوط مائية يشربها سريعا تراب الحوش. ينظر جابر إلى مكان قطرات العرق في الأرض. يمد قدمه، وبحذائه يمسح التراب ويسحبه فوق البقعة الصغيرة. يحجل متقافزا وراء "منعم" في نفس الاتجاه. في الحمام نراه منحنيا تحت الحنفية. ماء ماء. يستدير وقد انفرش شعره فوق جبينه. هل شعره طويل جدا لهذا الحد؟ يُكمل ارتداء القميص والبنطلون بعد أن نزع فانلة الأرجنتين بخطوطها السماوية المتوازية، وبنطلون ترينج كحلي. يضعهما في كيس أحمر، ويُخرج مشطا أسود. بسرعة يرجع شعره هائشا ناعما للوراء. مع كل حركة أو انحناءة تهتز الخصلات المُرطَبة، وينفرج المفرق الطولي. نعبر وراءه الحوش بطوله حتى فصله بالدور الثالث. نسمع طرقاته الخفيفة على الباب، ومن الشباك نرى شعره يتلوى قبل أن يتهيأ للجلوس. نقف في مكاننا: لماذا لم ننزل لفصلنا؟ إحساس شامل بالخيبة، دفعنا إلى غليان: لن يستمع أو يشغل دماغه بمواويل أبيك يا جابر، وصوتنا أصلا لن يخرج بها عن حدود السكة في المرواح. تمايلَ بها أبوك طول عمره وهو يسير خلف جَملِه المُحمَّل بتلال ربطات الأرز أو حطب القطن. لن يسمعها منك أو حتى من أبيك نفسه. لا أمل في موال الأمس الذي أخذ السكة بطولها: (الميَّة بتسقي الشجر، لكن الثمر مش واحد/ والبحر والنهر ميّة، لكن الطعم مش واحد/ والبطن واحدة، لكن الخَلف مش واحد/ ...ودي حكمتك في الكون يا الله يا واحد). موالنا نحن يظهر في عيوننا الملتمعة بالتصميم: اليوم اليوم، بعد الجرس النهائي، لن نمشي من نفس الطريق إلى العزبة. وراء سور المدرسة ننتظر. سنغادر زمن الغناء.
وحده يمشي. ودَّع رفاقه بابتسامة لم تزد عن تلك الممنوحة لنا على السلم. ظهر مربع وذراع تعزف للأمام والخلف قي قوس منتظم. رزمة الكتب تحت كفه نظيفة وجديدة، والقلم الفرنساوي مُمَدد هناك في القلب. أنا وجابر فعلناها مرة، تركنا الحقيبتين وجئنا بالكتب. داوَمنا ليومين بلا ثالث، تغندرنا بما يكفي خلالهما حتى تقصفت حواف الصفحات وعرقت أكفنا على أغلفة الكتب. أين ذهب عرقه الغزيز وقت اللعب؟ تنثني كفه على الكتب ولا تقبض. فاصل خفيف يتبدى. رأسه ثابت قدامه، لا فوق أو تحت. خلف ظهره تلك الالتفاتات المتكررة إليه من بنات البلوزات البيضاء والجيبات الكحلية. ليس معنا بنات في المدرسة. واحد من المدرسين يقول إن شكلنا يقطع الخَلف. رغم ذلك تفوت مجموعات من مدرسة البنات أمام سورنا، ويشغي الشارع بنا وقت الخروج. "منعم" يأخذ طريقه من هنا كل يوم بعيدا عنا. لم يزد الأمر عن خروج "سلام عليكم" مع رفع ذراعه في لمحة، فنسمع من ورائه الرد كاملا من الجالسين. يقف ليُسلم ويتكلم هامسا كعادته. نعبره ونقف قليلا على جنب. بيته بعيد على ما يبدو. مشينا الشارع الكبير في البلدة، وسنرجع مرة أخرى، وفي الخاطر مشوار رجوعنا اليومي للعزبة. أخيرا انتهى همسه وابتسامه بسلام وتبديل الكف الحاضنة للكتب. سحبني جابر بسرعة، ودون أي مقدمات انحنى والتقط القلم الفرنساوي من الأرض. وضعه في جيب بنطلونه وأكملنا سيرنا عائديْن من نفس الطريق. ألتفت وأرى "منعم" قبل أن يدخل الشارع الصغير. لو كنا صبرنا يا جابر! لا يسمعني. لا ينطق. لماذا شملنا السكوت هكذا؟ هل طال الطريق؟ عند الجميزة نقعد مهدودين. يحفر جابر بعصا ويُخطط مربعات في التراب. يُخرج القلم ويدفنه ويُسوي الأرض. غدا، غدا، نكتب له رسالة. في الفسحة ندخل فصلهم ونضعها في كتبه. نخبره أننا وجدنا القلم. لن يعرفنا. قلمه الآن ينام في مكان بعيد لا يعرفه إلا نحن. لو طلبه سنعطيه له، وسيبتسم لنا. هناك أيضا أشياء أخرى. حين ذلك، كان علينا معرفة أن زمن الأشياء قد ابتدأ.
في زمن الأشياء لم نكتب الرسالة، إنما وقفتُ حارسا على باب الفصل. الدور كله خال مع انشغال الجميع بالماتش. الحوش كله دنيا هائجة. جابر في الداخل يجلس مكان "منعم". يُفتش، يفر صفحات الكتب الراقدة في الدُّرج، يُمسك قلما آخر ويتكتك به. قلم حلو. يُشير لي بالقلم. لا أدري. يضعه في مكانه. يُخرج من جيب بنطلونه ما أعطيته له في الصباح: منديل قماش مُطبق. إنه منديلي الرمادي مغسول ومتروك طول الليل تحت المخدة. بين صفحات كتاب يضعه ويُسوي كل شيء كما كان. ننزل متقافزين بقلوب تزلزلها الدقات الضاربة. أعرف أن "منعم" سيعتني بالمنديل. سيظل معه رماديا جميلا. سيتمخط فيه برفق. لن يزعق كما أفعل، ولن يتركه مبقعا راشحا. منديل هابط من السماء جدير بالعناية! وحتى الغد المنتظر، سيعبر المنديل أمام عيني مرات لا حصر لها. مرة في يده وهو يسد به فمه اتقاء برد غير موجود، وأخرى يمر به على جبهته بعد الماتش. لكننا لم نر المنديل في يده لا في وقت الخروج أو صباح اليوم التالي. وكان علينا الانتظار للفسحة. أنا على الباب وجابر هناك. أخرجَ منديلي كما هو ولوّح به. وضعه في مكانه ودسَّ بين الكتب ميدالية مذهبة. جابر لا يذكر هل ترك المنديل في ركن الدرج أم في الكتب؟ اليوم سيرى المنديل والميدالية. ستبرق في يده الحرة العازفة. في عملية اليوم الثالث كنا معا نُقلِّب وطرنا من الفرح. منديلي وميدالية جابر معه الآن. أشرتُ إليه أن يُخرج ما أحضرناه ويُخفيه بسرعة. بالفعل نامت الطاقية الصوف الحمراء فوق الكتب. غامت عيون جابر وغاب، فعرفت أنه رأى "منعم" قادما من قلب الشبورة برأس مؤطر بالأحمر وفي يده تتدلى اللمعة الصفراء. رأيناه ورأيناه ولم نصدق أنه أمامنا! نعم في الباب تماما. تذكرتُ أنني غادرت موقعي لأول مرة. هادئا مبتسما جاء، وجلس على التختة المقابلة. رفع رجله وحط حذاءه البني على طرف المقعد. ضحك وأمالَ رأسه. أخرجَ من جيبه المنديل والميدالية ومدَّهما. أخذهما جابر. ما الذي قيل ساعتها؟ وماذا حدث بالضبط في دقائق الفسحة، وفي خلاء الدور كله؟ تم ضبطنا متلبسين، وفي النهاية نزلنا بالأشياء الثلاثة و"منعم" معنا! قال إنه سينتظرنا بعد الجرس قدام البوابة. يعرف أننا من العزبة. سيمشي معنا. بقيت الكلمتان الأخيرتان في آذاننا طوال الحصص الأخيرة. دقائق نسمع دقاتها في الصدر وسط تثاؤب المدرس والجو الغائم. حصة أخرى تتمدد. ثالثة تشبه ساعة ما قبل المغرب في رمضان. وفي ضربة المدفع نخرج. أمامنا مشوار الفرح وزمن الفرح.
ثلاثة في زمن الفرح يمشون. واحد يغني مواويل بعينين مشعتين، والثاني ينظر للجميزة الجليلة وأخواتها وسائر الموجودات ويعرف أنهم معهم. الثالث هو الضيف يمشي في صمت وبعينيه شجن ليس له مثيل. هل هو سعيد أم حزين؟ كان يعرفنا من اليوم الأول والمنديل. انتظر حتى يعرف حكايتنا. تساءل عن عدم كلامنا معه مباشرة: ليه؟ توقفنا جوار الجميزة ولم نرد. ستبقى كلمته المندهشة وملامحه ساعتها من الأمور التي تستدعي الاسترجاع والتمثيل. أخرجنا جابر من حالة التسمر بخطواته المنسحبة نحو القلم المدفون. نبش خفيفا وعاد به. تأمله "منعم" وأخذ منا المنديل والميدالية والطاقية وعاد هو ينبش. في نفس المكان تقريبا دفن الأشياء كلها ورجع نافضا كفيه. ها قد أصبح شريكنا، أمينا معنا على الأشياء. فات الوقت بسرعة. سلّم علينا واستدار. خطوتان وتوقف: "أشوفكم بُكرا". جاوبنا بتلويحات عفيّة وابتسامات راضية مرضية. لم نتحرك حتى حجبته الصفصافة في انثناءة السكة. واصلنا دون أن نلتفت. فقط انشغلنا باستعادة "ليه؟" من الوجه المندهش. تنافسنا في القدرة على تمثيلها كما خرجت أول مرة. ليه؟ لا لا، الصوت خشن. ليه؟ هذا رقيق أكثر من اللازم. الدهشة أعلى قليلا. فلنقلها بشكل طبيعي. وقلنا.. لا فائدة. وقبل أن يدخل جابر بيتهم جذبته من ذراعه وأنا أقلب عينيّ في دهشة مصنوعة: صحيح ليه؟! انفلت مني ضاحكا ولفّ بإصبعه دائرة كاملة: بُكرا.
رأيناه خفيفا باسما. تقدم نحونا وتكلم وأدخلنا في زمنه. لفّ ثلاثتنا دائر الحوش خمس مرات. عرفنا أنه يعيش مع أمه وأن أباه ميت. أخته الكبيرة متزوجة في بلد أخرى. في زمن "منعم" طُفنا عوالم بعيدة مرسومة في مجلات مصورة. لم نعرف أنه في الفسحة يذهب للمكتبة حين لا تكون لديه رغبة في اللعب. اكتشفنا أننا لم نفتح كتابا في حصص المكتبة من قبل. كنا ننشغل بالكلام والكتب مرصوصة أمامنا وفي الجوار. فتح هو لنا عالم الصورة باتساع. صور تشبهنا لبقر وجواميس وفلاحين بالطواقي. هناك أخرى عن بلاد الجليد والقُبّعات ودنيا البحار والحيتان والقروش. حكى عن الأمير المسحور الذي يتحول في الليل إلى قطة جميلة تنام بين قدمي الأميرة الفاتنة المحبوسة في قصر عليه حراس ضخام. مع أول ضوء تختفي القطة وتحزن الأميرة وتظل تعد الساعات حتى يأتي الليل. في صباح أحد الأيام نسي الأمير أن يعود لهيئته الآدمية، وبقيت القطة نائمة متدفئة في حضن الأميرة. لم يعد في إمكانه أن يعود كما كان مثلنا. اشترطت الساحرة الملعونة عليه أن يتسلل في الصباح ليتمكن من العودة إلى الهيئة الآدمية وإلا سيبقى قطة للأبد. في ذلك اليوم ما رأينا قطة –حتى ولو ضالة قبيحة- إلا وظنناها أميرا متحولا. سيلازمنا ذلك طويلا. لم نقرأ إلا معه، أو الأصح هو الذي يقرأ لنا. يختار ويبدأ ونحن نسمع. لم يعد يلعب كثيرا، وفي المرواح يرافقنا حتى الجميزة. بيديه دفن الكثير من الأشياء التي أحضرها بنفسه: تمثال حجري لرجل يرفع شعلة، مطفأة سجائر عليها رسوم فرعونية.. قال إنها تخص أباه الذي كان يعمل بالسياحة. أشياء أخرى اتسع بها قبر كنوزنا المدفونة. كانت تمسكه حالة عجيبة وهو يحفر. يكون متحمسا مستثارا، وبمجرد الانتهاء وتسوية التراب؛ تخفت روحه قليلا. من الجائز أن يقوم فجأة ويمشي. اعتدنا على تصرفاته المباغتة، اعتذاره عن المكتبة ورفقة المشوار مرة بعد مرة، عودته للعب في الفسحة ووقفته بشارته الحمراء عند السلم، سأمه من اللعبة كلها. بقينا فترة لا نحفر لنرى الأشياء. نفوت عليها وننظر معا في لحظة واحدة ونمضي. "لمّا يكون معانا".. يبدو أننا اتفقنا بلا كلام على ذلك.
ماذا نسمي ذلك الزمن الذي دخلنا فيه؟ من المؤكد أن له اسما لم ينطقه أي واحد منا. زمن رسبَ فيه جابر ذلك العام، بعدما هام مع أبيه وراء الجمل والمواويل. في العام التالي كبر "منعم" أكثر، وتعقَّلَ أكثر. يبقى ذلك الذي يمر وحيدا على أشياء لن ترى النور.. فلا يُمكن أن يتجرأ ويكشف خبيئة لا تَخُصه وحده.
حسام المقدم