فى كتاب «نزوة القَص المُباركة» يحكى «جابرييل جارسيا ماركيز» هذه الحكاية: (فى أحد الأيام، فى مدينة مكسيكو، خرجتُ من المكتب ورأيتُ سيارة تاكسى تتقدم وفيها زبون، ولكنها عندما اقتربت انتبهتُ إلى أنها خالية، وليس هناك أحد إلى جانب السائق، مثلما ظننت فى البدء. أشرت إلى السائق عندئذ بحركة متعجلة، فتوقف وصعدتُ إلى السيارة... راح الرجل المسكين يندب: «أترى، إنهم يخوزقوننى، فالجميع يرون دوما أن هناك أحدا بجانبى. فى السابق كان ذلك يحدث فى الليل فقط، أما الآن فإنه يحدث فى النهار أيضا. لم أعد أعرف ما علىّ عمله». رويتُ الحادثة للويس بونويل فقال لى: إنها بداية عظيمة ومن المؤسف أنها لا تنفع لأكثر من ذلك). هذه الحكاية التى رواها «ماركيز» ظلت تُلح على أنها تصلح لأكثر من ذلك!
******
أوقفَ السائق عربة التاكسى بكبسة فرملة غشيمة، فاندلقتُ للأمام مادًا يدى. عدتُ للوراء بصدمة أخرى، وأوشكتُ على الانفجار فى وجهه، لولا تكرار السؤال المزعج: «هل أنت متأكد يا أستاذ أنك لم تر أحدا بجانبى عندما أشرتَ لى؟»، يا الله! كأن الأمور تنقصها هذه الحكاية العبثية التى أعادها على مسمعى ثلاث مرات فى خمس دقائق، وفى هذا المشوار الذى هيأت نفسى له بعزلة اختيارية دامت أسبوعا. أمسكت أعصابى، وزفرتُ الغبار والسخونة من داخلى: «يا أخى أحلف لك بالله؟ والله ما شفت أحدا، كانت لمعة نور مركزة على الزجاج حين كنت أقف والشمس ورائى. ثم إن هذا بديهى، لأنه لو كان أحد بجانبك ما أشرتُ لك». عند ذلك مشى بالعربة قليلا، ثم انحرف على جانب الطريق. شد فرامل اليد، وفتح بابه ولف ناحيتى. انتزع بابى، فملتُ بجذعى لليسار مُتقيًا. فى لمحة مد يديه وأحاط رأسى. تركت نفسى مستسلما وأمرى لله. طبع على رأسى قبلتين مفرقعتين، وظل مائلا وجهه فى وجهى: «قل لهم يا أستاذ، قل لأولاد الكلب الذين لا يشيرون لى أبدا ويقولون إن واحدا بجانبى. وها أنت ترى وتشهد شهادة حق. لكنهم معذورون، إنه ابن اللئيمة الذى لا يريد أن يتركنى فى حالى. يقعد جنبى ولا أراه. يظهر ويختفى بمزاجه. آه لو شفته. سحب رأسه واعتدل وصك الباب ودار نصف دائرة وركب هادئا هذه المرة».
من أول المشوار وأنا لم أرتح لوجه الجمجمة الذى يخصه، ولا لفتلات الشعر الأبيض اللاصقة بالعظم. حركة جذعه المتقلقلة يمينا وشمالا، ومناوراته الثعبانية بين العربات. طلبتُ منه بخفوت حذر أن يتمهل ويأخذ باله من المطبات التى تهبدنا فى كل مرة. رجّ رأسه ومطّ شفتيه دون أن ينظر إلىّ: نريد أن ننتهى. ننتهى؟ أسفرتْ الكلمة فى عقلى عن معانٍ مختلطة بالنوم والسقوط مثلا من عاشر دور! لكنه عاد موضحا: مشوارك بعيد يا أستاذ. راح دماغى يتذبذب مع أصابع الكف المصلوبة خلف الزجاج. أصابع صفراء مجسمة تعطى انطباعا بيد حقيقية مقطوعة. تحت الكف ينام المصحف الصغير بجلال فوق غطاء قماشى خشن فى لون جلد الفأر. فى داخل التابلوه المجوف، رأيتها هناك باستدارتها البنية اللامعة وجوفها الفضى المصقول. مطواة قرن غزال معتبرة. كانت العربة بالكاد تتسع لى وله، وهذا الصوت الذى تنفثه هو حشرجة واحد تخرج روحه بعذاب عظيم. الخاطر الذى أضحكنى أننى تصورتها «توك توك» دخل ورشة، وبعد عملية سبك وفك وتركيب خرج بهذه الهيئة، لهذا الرجل بالذات!
أنت بالتأكيد لستَ من هنا يا أستاذ. خرج صوته خشنا مضغوطا، بعد نوبة الهدوء. وقبل أن أرد على لهجته الحميمة واصل هو: كل الذين هنا فى هذه المدينة أولاد كلب. وابن اللئيمة إياه يبدو أنه لا يظهر للغرباء الطيبين أمثالك. أى واحد يقعد جنبى يركبه عفريت ويحاسبنى ويطلب النزول قبل أن يصل إلى مشواره. أنا راضى ذمتك، هل فى شىء؟ هل فى العربة شىء؟ مددت شفتى وهززت رأسى: لا أبدا، أنت رجل طيب وعربتك مثل أية عربة. مرة أخرى أجدنى أندلق للأمام بفرملة قدم ساحقة: الله يفتح عليك. اذهب وقل لأولاد الكلب، يا سلام لو ابن اللئيمة يسمعك. سيموت من الغيظ. إنه لا يقدر أن يُرينى نفسه، وأنا عندى ما يأتى بكرشه، ومصارينه تكون مكان رجليك بالضبط يا أستاذ. مصارينى أنا هى اللى اتلوت وزمجرت، فى حين كنت أنظر تحت قدمى وعن يمينى وشمالى. سحبت منديلى الورقى من جيب البنطلون وجففت وجهى وقفاى. أخرجتُ رياح الخماسين من فمى، لكنها ارتدت لوجهى من زجاج متجمد نصف مفتوح بلا رافع أو خافض. شوارع المدينة ومبانيها ليس بها ما يميزها عن غيرها من المدن الملعونة باللافتات والإعلانات. الله وحده يعلم كيف سينتهى مشوارى هذا. كان موعدى مع الشيخ فى الثالثة ظهرا، وها هى أصوات الجوامع تدوى معا بأذان العصر. فات الموعد وأنا أترك نفسى مرتخيا لهذا الرجل يفعل بى ما يشاء. آه هذا الرجل! من المؤكد أننى.. نفضت رأسى بعنف لأطرد خاطرا قبيحا مر بذهنى: حين أكبر فى السن، سأقترب فى الشبه من هذا الرجل. كان قد سكت وقلل من مناوراته ولفتاته وفرملاته. رجع للنبرة الحميمة رافعا حاجبيه، لتبين طبقات مخططة فى جبهته الحجرية: أنت فيك شىء لله. نزل ماء مرطب على جوفى الساخن، وأحسست برذاذ ينتثر على وجهى: لماذا تقول ذلك؟ وبابتسامة جارحة لحُفر الوجه: لأنك الوحيد الذى رأيت لمعة نور بدلا من ابن اللئيمة الذى يدوخنى. كلامه جعل تلك اللمعة تخايلنى.. غبت مع الشمس التى كانت ضاربة بلمعة عدسية متوهجة فى قلب الزجاج، فيما كانت العربة تقترب. لمعة موّارة سحبت من عينى نورا ممطوطا موصولا بها، حزمة أشعة مركزة برقت فى دفقة سريعة خاطفة، صنعت جسرا نورانيا بين عينى وبؤرة التوهج. قطبتُ حاجبى فاتحدت حزمة الأشعة فى شعاعين ثاقبين نحو هذا الرابض هناك فى الوهج خلف الزجاج.. الأبيض المتجسم، الناصع الوبرى. له عينان سوداوان محفورتان، وأُذناه مدلدلتان. ماذا كان هذا الشىء؟ إنه أقرب لدبدوب أبيض ضخم يأخذ كل المساحة التى جنب السائق. هل ضحك بفمه الأسود الممدود؟ لم أتبين لأن الشعاعين انقطعا بمجرد تحركى للركوب. كان المكان ساخنا فتململتُ حتى أخذ الموضع يتهيأ شيئا فشيئا.
الموعد يا ناس. ساعتى، ضمن أشياء عديدة، تتآمر على. أنظر فيها فيختلط العقربان جرّاء تلك اللمعة الساخنة للشمس الضاربة فى الزجاج، والمترصدة للعربة وجها لوجه فى الأفق الغربى. صاحبنا يصنع بيده غطاء فوق عينيه، ويقود بيد واحدة: أف!.. الشمس تخايلنى. إنهم يقولون إن ابن اللئيمة وجهه منور مثل الشمس. على فكرة، عندى إحساس إنك شفته فى لمعة النور ولا تريد أن تقول! آه.. رجع مرة أخرى لحكاية ابن الزفت! لابد أن أستعجل هذا الرجل. لماذا لا أستعجله؟ ولماذا أستنيم هكذا؟ نسيت هذا كله وسألته: هل تعرفه شخصيا؟ بص لى من فوق لتحت: طبعا أعرفه. مَن غير الشيخ قرد؟ ضحكت للقرد الشيخ والشيخ القرد، وتخيلته طويلا مهيبا بجلباب أبيض ومسبحة وابتسامة دائمة يغيظ بها صاحبنا: ولماذا يفعل معك ذلك؟ كانت ذقنه وشفته السفلى دائمتى الذبذبة: لأنى لا أسمع كلامه. عمرى ما سمعت كلامه فى شىء. يقول على اليمين أمشى على الشمال. لكن قل لى يا أستاذ، انت شفته فى لمعة النور، صح؟ أدرت رأسى خارج العربة كى لا أتهور فى الرد. البيوت حديثة البناء والمحال القليلة توازينا وتفر للوراء. مطاعم فول وورش. يبدو أننا سنخرج من المدينة. شربة ماء فى هذا الجو كفيلة بضبط الميزان المختل، وسيجارة قادرة على رفع المزاج عاليا. لا.. لن ينعدل المزاج أبدا. أنا قادم يا شيخى البعيد. لابد أنك انتهيت من صلاتك إماما، واعتدلت مقرفصا لتختم الصلاة. تنظر فى وجوه االجميع، ويدك تجرى على مسبحة أنيقة صغيرة الحبات. ستطالع الوجوه برأس متمايلة ولا تجدنى. يُسلم عليك الجميع بإجلال حتى آخر واحد، فتُقدِر عدم حضورى حسب الموعد الذى حددته أنت. قلت لك فى المكالمة الأخيرة إننى فعلت كل شىء.. أسبوع كامل فى جلال العزلة التى لم أعتدها، بعدها أقابلك وتقول لى ما تراه. ابق يا شيخى إنى قادم. ها أنا أتمثلك بعين لم ترك، مربوع القامة بذقن مهذبة وعينين حنونتين كعينى أم. صوتك قادر على إمالة القلوب قبل الرؤوس. لستَ بالتأكيد تغطى رأسك أو تنتعل شبشبا بإصبع. أنت.. أنت أبيض، أنت.. أنت ناصع.. وبرى. أنت... «صح». أهز رأسى وأكرر: صح. لكن الكلمة تخرم أذنى بعد ترجيعها ثلاث مرات، فأنتبه إلى صوت الرجل الذى ما زال عائشا وراشقا وجه المومياء فى الطريق أمامه. أرد بأريحية هذه المرة: لكنك قلت إنه لا يظهر للغرباء. رد ببساطة: لكن من الممكن أن يلاعبك مثلما فعل معى. أنا أيضا لست من هنا، وأسكن فى هذه المدينة منذ ثلاث سنوات فقط.، لكن الآن فاتت سنة كاملة على ركوبه معى أول مرة. اتسعت عيناى: ركوبه معك؟ طأطأ رأسه مرتين: ركب مثل أى زبون. الوجه المنور والكلام كان عسل نحل، وفى الآخر دعانى لزيارته. أردفتُ مُتلهفا: وذهبت إليه؟ حاسب! قلتها شبه صارخ بعد أن حفت العربة بجنب امرأة تمشى وحيدة بمحاذاة ورشة سيارات. داس على البنزين وفرّ تلاحقه كلمات بذيئة قالتها المرأة. هزّ رأسه طربا ومصمص شفتيه بعمق: شُفت الحلاوة؟ آه.. المهم ذهبت إليه وكلمنى فى حاجات كثيرة لا أذكر منها بعد الحلال والحرام إلا حكاية الربع جنيه المخروم. تخيل يا أستاذ بقيتُ فترة لا آخذ الربع المخروم من أحد. ولما بدأت أنتبه إلى ألاعيبه قلت أغيظه.. جئت بكمية من الأرباع المخرومة وسبتها قدامى على التابلوه. وفى آخر مرة ركب معى، قبل أن يُسلط علىّ عفريته، قال إنه لا فائدة منى، وذكر آية من القرآن معناها أننى لن أستطيع الصبر، وأننى... إلى هذا الحد بدأت كلمات السائق تصلنى هسيسا محشرجا، إذ انزلقتُ إلى منحدر أملس فى آخره قاع دوّار مُدوّخ. زغللة، دوار خفيف موصول بلمعة عدسية مركزة فى الزجاج، ترسلها شمس مُتحدية غاربة فى الطريق المكشوف. دوامة نيران مستعرة تُطحن فيها أخلاط أشياء ووجوه. رصيف مفروش بأعداد هائلة من الأرباع المخرومة، دراهم وعملات من عصور بائدة يمر بها الناس ولا يلتقطونها. سرعان ما يتكور ذلك كله، كما فى قاع نارى لغسّالة، وتتداخل وجوه ودمى فى شكل دودى. بعض الملامح أكاد أشهق وأنطق بمعرفتها، ملامح مندغمة ضبابية، رغم نصوعها الذى أتى لى بالغثيان. تنزاح تلك الضبابية، وتعود عيناى للزجاج المسطح بلا عمق، مع تلاشى اللمعة والقرص النارى بغياب الشمس التى حجبتها مبان عالية.
وصلنا يا أستاذ، هذا هو العنوان. أشار بيده إلى يمينى. لويت رأسى بتثاقل متأملا العمارات الجديدة على الصفين فى هذه المنطقة البعيدة. صعدتُ بعينى لقمة مئذنتين صاروخيتين لمسجد فخم. دلدلتُ رأسى مطرقا، وخطفت نظرة للرجل الذى ينقر بإصبعه على عجلة القيادة. رأيته الآن: أنف كبير على وجه مسحوب، ورقبة رفيعة ممدودة للأمام. رحتُ أرجُ دماغى رجّات متتابعة استدعت استفهام الرجل عمّا بى. أجبتُ مُطَأطَأ الرأس: ارجع بى.. وأشرتُ بيدى بما يعنى لا نقاش. تنهّدَ ضاربا كفا بكف، ولفّ بالعربة
******
أوقفَ السائق عربة التاكسى بكبسة فرملة غشيمة، فاندلقتُ للأمام مادًا يدى. عدتُ للوراء بصدمة أخرى، وأوشكتُ على الانفجار فى وجهه، لولا تكرار السؤال المزعج: «هل أنت متأكد يا أستاذ أنك لم تر أحدا بجانبى عندما أشرتَ لى؟»، يا الله! كأن الأمور تنقصها هذه الحكاية العبثية التى أعادها على مسمعى ثلاث مرات فى خمس دقائق، وفى هذا المشوار الذى هيأت نفسى له بعزلة اختيارية دامت أسبوعا. أمسكت أعصابى، وزفرتُ الغبار والسخونة من داخلى: «يا أخى أحلف لك بالله؟ والله ما شفت أحدا، كانت لمعة نور مركزة على الزجاج حين كنت أقف والشمس ورائى. ثم إن هذا بديهى، لأنه لو كان أحد بجانبك ما أشرتُ لك». عند ذلك مشى بالعربة قليلا، ثم انحرف على جانب الطريق. شد فرامل اليد، وفتح بابه ولف ناحيتى. انتزع بابى، فملتُ بجذعى لليسار مُتقيًا. فى لمحة مد يديه وأحاط رأسى. تركت نفسى مستسلما وأمرى لله. طبع على رأسى قبلتين مفرقعتين، وظل مائلا وجهه فى وجهى: «قل لهم يا أستاذ، قل لأولاد الكلب الذين لا يشيرون لى أبدا ويقولون إن واحدا بجانبى. وها أنت ترى وتشهد شهادة حق. لكنهم معذورون، إنه ابن اللئيمة الذى لا يريد أن يتركنى فى حالى. يقعد جنبى ولا أراه. يظهر ويختفى بمزاجه. آه لو شفته. سحب رأسه واعتدل وصك الباب ودار نصف دائرة وركب هادئا هذه المرة».
من أول المشوار وأنا لم أرتح لوجه الجمجمة الذى يخصه، ولا لفتلات الشعر الأبيض اللاصقة بالعظم. حركة جذعه المتقلقلة يمينا وشمالا، ومناوراته الثعبانية بين العربات. طلبتُ منه بخفوت حذر أن يتمهل ويأخذ باله من المطبات التى تهبدنا فى كل مرة. رجّ رأسه ومطّ شفتيه دون أن ينظر إلىّ: نريد أن ننتهى. ننتهى؟ أسفرتْ الكلمة فى عقلى عن معانٍ مختلطة بالنوم والسقوط مثلا من عاشر دور! لكنه عاد موضحا: مشوارك بعيد يا أستاذ. راح دماغى يتذبذب مع أصابع الكف المصلوبة خلف الزجاج. أصابع صفراء مجسمة تعطى انطباعا بيد حقيقية مقطوعة. تحت الكف ينام المصحف الصغير بجلال فوق غطاء قماشى خشن فى لون جلد الفأر. فى داخل التابلوه المجوف، رأيتها هناك باستدارتها البنية اللامعة وجوفها الفضى المصقول. مطواة قرن غزال معتبرة. كانت العربة بالكاد تتسع لى وله، وهذا الصوت الذى تنفثه هو حشرجة واحد تخرج روحه بعذاب عظيم. الخاطر الذى أضحكنى أننى تصورتها «توك توك» دخل ورشة، وبعد عملية سبك وفك وتركيب خرج بهذه الهيئة، لهذا الرجل بالذات!
أنت بالتأكيد لستَ من هنا يا أستاذ. خرج صوته خشنا مضغوطا، بعد نوبة الهدوء. وقبل أن أرد على لهجته الحميمة واصل هو: كل الذين هنا فى هذه المدينة أولاد كلب. وابن اللئيمة إياه يبدو أنه لا يظهر للغرباء الطيبين أمثالك. أى واحد يقعد جنبى يركبه عفريت ويحاسبنى ويطلب النزول قبل أن يصل إلى مشواره. أنا راضى ذمتك، هل فى شىء؟ هل فى العربة شىء؟ مددت شفتى وهززت رأسى: لا أبدا، أنت رجل طيب وعربتك مثل أية عربة. مرة أخرى أجدنى أندلق للأمام بفرملة قدم ساحقة: الله يفتح عليك. اذهب وقل لأولاد الكلب، يا سلام لو ابن اللئيمة يسمعك. سيموت من الغيظ. إنه لا يقدر أن يُرينى نفسه، وأنا عندى ما يأتى بكرشه، ومصارينه تكون مكان رجليك بالضبط يا أستاذ. مصارينى أنا هى اللى اتلوت وزمجرت، فى حين كنت أنظر تحت قدمى وعن يمينى وشمالى. سحبت منديلى الورقى من جيب البنطلون وجففت وجهى وقفاى. أخرجتُ رياح الخماسين من فمى، لكنها ارتدت لوجهى من زجاج متجمد نصف مفتوح بلا رافع أو خافض. شوارع المدينة ومبانيها ليس بها ما يميزها عن غيرها من المدن الملعونة باللافتات والإعلانات. الله وحده يعلم كيف سينتهى مشوارى هذا. كان موعدى مع الشيخ فى الثالثة ظهرا، وها هى أصوات الجوامع تدوى معا بأذان العصر. فات الموعد وأنا أترك نفسى مرتخيا لهذا الرجل يفعل بى ما يشاء. آه هذا الرجل! من المؤكد أننى.. نفضت رأسى بعنف لأطرد خاطرا قبيحا مر بذهنى: حين أكبر فى السن، سأقترب فى الشبه من هذا الرجل. كان قد سكت وقلل من مناوراته ولفتاته وفرملاته. رجع للنبرة الحميمة رافعا حاجبيه، لتبين طبقات مخططة فى جبهته الحجرية: أنت فيك شىء لله. نزل ماء مرطب على جوفى الساخن، وأحسست برذاذ ينتثر على وجهى: لماذا تقول ذلك؟ وبابتسامة جارحة لحُفر الوجه: لأنك الوحيد الذى رأيت لمعة نور بدلا من ابن اللئيمة الذى يدوخنى. كلامه جعل تلك اللمعة تخايلنى.. غبت مع الشمس التى كانت ضاربة بلمعة عدسية متوهجة فى قلب الزجاج، فيما كانت العربة تقترب. لمعة موّارة سحبت من عينى نورا ممطوطا موصولا بها، حزمة أشعة مركزة برقت فى دفقة سريعة خاطفة، صنعت جسرا نورانيا بين عينى وبؤرة التوهج. قطبتُ حاجبى فاتحدت حزمة الأشعة فى شعاعين ثاقبين نحو هذا الرابض هناك فى الوهج خلف الزجاج.. الأبيض المتجسم، الناصع الوبرى. له عينان سوداوان محفورتان، وأُذناه مدلدلتان. ماذا كان هذا الشىء؟ إنه أقرب لدبدوب أبيض ضخم يأخذ كل المساحة التى جنب السائق. هل ضحك بفمه الأسود الممدود؟ لم أتبين لأن الشعاعين انقطعا بمجرد تحركى للركوب. كان المكان ساخنا فتململتُ حتى أخذ الموضع يتهيأ شيئا فشيئا.
الموعد يا ناس. ساعتى، ضمن أشياء عديدة، تتآمر على. أنظر فيها فيختلط العقربان جرّاء تلك اللمعة الساخنة للشمس الضاربة فى الزجاج، والمترصدة للعربة وجها لوجه فى الأفق الغربى. صاحبنا يصنع بيده غطاء فوق عينيه، ويقود بيد واحدة: أف!.. الشمس تخايلنى. إنهم يقولون إن ابن اللئيمة وجهه منور مثل الشمس. على فكرة، عندى إحساس إنك شفته فى لمعة النور ولا تريد أن تقول! آه.. رجع مرة أخرى لحكاية ابن الزفت! لابد أن أستعجل هذا الرجل. لماذا لا أستعجله؟ ولماذا أستنيم هكذا؟ نسيت هذا كله وسألته: هل تعرفه شخصيا؟ بص لى من فوق لتحت: طبعا أعرفه. مَن غير الشيخ قرد؟ ضحكت للقرد الشيخ والشيخ القرد، وتخيلته طويلا مهيبا بجلباب أبيض ومسبحة وابتسامة دائمة يغيظ بها صاحبنا: ولماذا يفعل معك ذلك؟ كانت ذقنه وشفته السفلى دائمتى الذبذبة: لأنى لا أسمع كلامه. عمرى ما سمعت كلامه فى شىء. يقول على اليمين أمشى على الشمال. لكن قل لى يا أستاذ، انت شفته فى لمعة النور، صح؟ أدرت رأسى خارج العربة كى لا أتهور فى الرد. البيوت حديثة البناء والمحال القليلة توازينا وتفر للوراء. مطاعم فول وورش. يبدو أننا سنخرج من المدينة. شربة ماء فى هذا الجو كفيلة بضبط الميزان المختل، وسيجارة قادرة على رفع المزاج عاليا. لا.. لن ينعدل المزاج أبدا. أنا قادم يا شيخى البعيد. لابد أنك انتهيت من صلاتك إماما، واعتدلت مقرفصا لتختم الصلاة. تنظر فى وجوه االجميع، ويدك تجرى على مسبحة أنيقة صغيرة الحبات. ستطالع الوجوه برأس متمايلة ولا تجدنى. يُسلم عليك الجميع بإجلال حتى آخر واحد، فتُقدِر عدم حضورى حسب الموعد الذى حددته أنت. قلت لك فى المكالمة الأخيرة إننى فعلت كل شىء.. أسبوع كامل فى جلال العزلة التى لم أعتدها، بعدها أقابلك وتقول لى ما تراه. ابق يا شيخى إنى قادم. ها أنا أتمثلك بعين لم ترك، مربوع القامة بذقن مهذبة وعينين حنونتين كعينى أم. صوتك قادر على إمالة القلوب قبل الرؤوس. لستَ بالتأكيد تغطى رأسك أو تنتعل شبشبا بإصبع. أنت.. أنت أبيض، أنت.. أنت ناصع.. وبرى. أنت... «صح». أهز رأسى وأكرر: صح. لكن الكلمة تخرم أذنى بعد ترجيعها ثلاث مرات، فأنتبه إلى صوت الرجل الذى ما زال عائشا وراشقا وجه المومياء فى الطريق أمامه. أرد بأريحية هذه المرة: لكنك قلت إنه لا يظهر للغرباء. رد ببساطة: لكن من الممكن أن يلاعبك مثلما فعل معى. أنا أيضا لست من هنا، وأسكن فى هذه المدينة منذ ثلاث سنوات فقط.، لكن الآن فاتت سنة كاملة على ركوبه معى أول مرة. اتسعت عيناى: ركوبه معك؟ طأطأ رأسه مرتين: ركب مثل أى زبون. الوجه المنور والكلام كان عسل نحل، وفى الآخر دعانى لزيارته. أردفتُ مُتلهفا: وذهبت إليه؟ حاسب! قلتها شبه صارخ بعد أن حفت العربة بجنب امرأة تمشى وحيدة بمحاذاة ورشة سيارات. داس على البنزين وفرّ تلاحقه كلمات بذيئة قالتها المرأة. هزّ رأسه طربا ومصمص شفتيه بعمق: شُفت الحلاوة؟ آه.. المهم ذهبت إليه وكلمنى فى حاجات كثيرة لا أذكر منها بعد الحلال والحرام إلا حكاية الربع جنيه المخروم. تخيل يا أستاذ بقيتُ فترة لا آخذ الربع المخروم من أحد. ولما بدأت أنتبه إلى ألاعيبه قلت أغيظه.. جئت بكمية من الأرباع المخرومة وسبتها قدامى على التابلوه. وفى آخر مرة ركب معى، قبل أن يُسلط علىّ عفريته، قال إنه لا فائدة منى، وذكر آية من القرآن معناها أننى لن أستطيع الصبر، وأننى... إلى هذا الحد بدأت كلمات السائق تصلنى هسيسا محشرجا، إذ انزلقتُ إلى منحدر أملس فى آخره قاع دوّار مُدوّخ. زغللة، دوار خفيف موصول بلمعة عدسية مركزة فى الزجاج، ترسلها شمس مُتحدية غاربة فى الطريق المكشوف. دوامة نيران مستعرة تُطحن فيها أخلاط أشياء ووجوه. رصيف مفروش بأعداد هائلة من الأرباع المخرومة، دراهم وعملات من عصور بائدة يمر بها الناس ولا يلتقطونها. سرعان ما يتكور ذلك كله، كما فى قاع نارى لغسّالة، وتتداخل وجوه ودمى فى شكل دودى. بعض الملامح أكاد أشهق وأنطق بمعرفتها، ملامح مندغمة ضبابية، رغم نصوعها الذى أتى لى بالغثيان. تنزاح تلك الضبابية، وتعود عيناى للزجاج المسطح بلا عمق، مع تلاشى اللمعة والقرص النارى بغياب الشمس التى حجبتها مبان عالية.
وصلنا يا أستاذ، هذا هو العنوان. أشار بيده إلى يمينى. لويت رأسى بتثاقل متأملا العمارات الجديدة على الصفين فى هذه المنطقة البعيدة. صعدتُ بعينى لقمة مئذنتين صاروخيتين لمسجد فخم. دلدلتُ رأسى مطرقا، وخطفت نظرة للرجل الذى ينقر بإصبعه على عجلة القيادة. رأيته الآن: أنف كبير على وجه مسحوب، ورقبة رفيعة ممدودة للأمام. رحتُ أرجُ دماغى رجّات متتابعة استدعت استفهام الرجل عمّا بى. أجبتُ مُطَأطَأ الرأس: ارجع بى.. وأشرتُ بيدى بما يعنى لا نقاش. تنهّدَ ضاربا كفا بكف، ولفّ بالعربة