كاهنة عباس - ذلك الغناء

من الذي يغنّي ومن الذي يتابع لحن الأغنية ؟ لا أدري.
أوّد الاستماع إلى ما يغنّي داخلي ، والغناء المقصود ليس ذلك الصوت الذي يرتفع طربا يردد الكلمات على وقع ألحان موسيقيّة ، ولا هو الفعل وما يبعثه من حركة وقوّة، ولا نظم القصائد ووتيرتها الدّاخليّة ، ولا هو السّكون وما يفرزه من حضور إلهيّ، بل الغناء المقصود هو مساحة ، تعمّها البهجة وتتوسّع دون حدود ثمّ تمتدّ إلى ما لا يرى ، إنّه الأنا الأخرى وما يتجاوزها ، هو الرّوح حين ترقص دون اكتراث بتجربتها الدنيويّة .
الغّناء المقصود هو تلك الخيوط اللاّمرئيّة، لكلّ ما يتشكّل في جمال وتألّق يزول ويتجدّد دون ملل ولا كلل .
إنني أغنّي وذاتي تتابع أغنية لا أحد يسمعها، أغنّي الإشراق المستغني عن نورانيّة الشمس والامتداد الصحراويّ حين يخترق السّرمد من غير تعثّر ،شبيها بذلك المسافر المغامر الّذي لا يخشى لا العطش ولا الموت، إني أغنّي السّر الأعظم بانفتاح كلّ كائن على غيره من الكائنات الأخرى، بل على الكون بأسره والمسمّى بالمحبّة .
أغنّي الزّمن ، ذلك الّذي يغيّر ولا يتغيّر ،يفني ولا يفنى ،متواترا بانتظام غير ملتحم بالمكان ، فهو في الآن نفسه الحياة وما يبعثها ، الدنيا بتقلّب أحوالها ، أعمارنا وكيف نعدّها ، مراحل التكوين من تدرّج وتشكّل وبلوغ القّمة ثم الانهيار و ما يفصل بينها ، العدّ الذي به نقيس الأحداث من حولنا .
إنني أغنّي تلك البهجة العفويّة للطيور ، رغم معرفتها التّامة للبرق وزمجرة الرّعد واكفهرار السّماء وتقلّب الفصول وقسوة الشّتاء ومعاناة الهجرة وفسحة الفضاء ، أغنّي زقرقتها عسى أن أظفر بثرائها، شبيهة هي، بأولئك الفقراء الذين غادروا الأرض تطلّعا لدنيا أخرى .
أغنّي أبجديات الفرح الأصليّ الّذي منه انبثق كلّ شيء ، فتجسّد وكان ، فرح العصافير صيفا أم شتاء ، تحت المطر أم في عزّ الحرّ ، تلك المخلوقات الرهيفة رهافة ريشها وجماله وتنوّع أصواتها وما تذيعه من أسرار .
أغنّي تطهّرا ،لا لإتّباع طقوس مقدسّة ، بل للتحرر من ورطة البحث عن المعنى والالتجاء إلى عوالم تفوق اللّغة إمكانا وتواصلا وفنّا ، لإدراك الإحساس المحض الخالي من كلّ الشوائب، وقدرته على الانتشار بين النفوس دون حاجتها إلى الفهم أو التفكير أو التأويل .
أغنّي للاغتسال بالأنغام بكل ما ينثره لؤلؤها ، زهدا في كلّ جمال ما عداها . فيعود بي الزّمان ويخبرني بأنّها سابقة لكلّ خلق حينئذ أتبيّن أنّها حلم الدوام ، الحلم الأبديّ وأنّ أكبر الملحنين، ربما كانوا يتلقون ألحانهم كالوحي في المنام .
كلما تابعت أغنيتي خفتت وحدتي وزالت عنّي آلامي وغربتي والتأمت جراحي كأنّ أغنيتي تلك تجمعني من جديد بالوجود . فإذا بها الشّكل واللّون والصّورة وما يتجاوزها ، الهواء وكلّ لغاته وتموجاته بجلّ نظمها .
إذا رحلت عن هذه الدنيا ، واتّحدت روحي بنغمها ، ثم انصهرت في الريح وغابت إلى الأبد ، فاعلموا أنني لا أوّد البقاء في أيّة ذاكرة ولا أن أترك أيّ أثر ، لا أن يحزن لفراقي من عاشرني أو عرفني أو كان من أهلي ولا أن ينهمر أيّ دمع من أيّ عين. لا أريد أن أشهد صراع البشر الذي لن ينتهي، سيتواصل إلى أجل غير مسمّى وسيستمرّ القهر والظلم وستشنّ بعد هذه الحروب حروب أخرى ، لا أوّد الانتماء لأيّة حلقة أو أن أذكر في أيّة مناسبة أو مرجع لأيّ تاريخ كان، ولا الانضمام لأيّ فريق لا فريق المنتصرين ولا المنهزمين ولا الضعفاء ولا الأقوياء ولا الأثرياء ولا الفقراء، فعجلة الزّمن تدور لتغيّر الأدوار دون الأوضاع ، لا أشتهي أيّ خلود ولا أيّ انتصار على الموت ولا أن أترك فكرة تحمل بذور تغيير العالم .
إنني الآن أغنّي فقط أغنّي حتى أنّ أغنيتي تملّكت كلّ وجداني ،
أو ليس في معاني الغناء ، الاستغناء عن كل متعة أخرى للاكتفاء بها وحدها ؟
فلغتنا ، أفكارنا ، عاداتنا ، أهواؤنا ، مآسينا ، مشاغلنا ، أحلامنا ، ذكرياتنا تعود إلى الأزمنة الماضية جلّها موروثة عمن سبقونا ، ولا حاضر يجمعنا بالفرح، لا حاضر نحياه.
لم يعد يعنيني إذا الغد، لا البعيد ولا القريب ولا أن أخشى الرّحيل.

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى