ثقافة شعبية أحمد خاني - قصة مم وزين - قصة حب كردية - الجزء (2) - ت: د. محمد سعيد رمضان البوطي

في محراب الأحزان

الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو والسرور، ويمد من حول حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم، ويقدم كؤوسا مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق.
والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما. يقضي كل منهما الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت أي راحم.
والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من حرها، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة من صاحب وشريك فيهما. وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والإنفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون.
كان تاج الدين فيما مضى أليف مم لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما هاج به الشوق. وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين، فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها، وسرورها لا يتم إلا إلى جانبها.
أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما، وانشغل كل منهما بالفرحة بالآخر... وبقي مم لوحدته الموحشة، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجع له، ويتأوه فلا يرى أمامه من يواسيه. كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما بها، فهي دائما مختلية في غرفتها، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشة والإنفراد، تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم.
ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما... وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها، ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها.
أربعون يوما... كانت زين فيخلالها شاردة اللب، قد اتخذت من غرفتها محرابا للبكاء والزفرات، طعامها كله غصه، وشرابها مزيج بالدموع.
أربعون يوما... بدت من ورائها تلك الغادة التي طالما سحر جمالها وأسكر، وقد ذبل منها ذلك الجمال وتهدل، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعد تألقه نحو الرقة والذوبان.
ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهى إليه حالها. فكن يعجبن من أمرها، ويرثين لشأنها. ولم تكن تشك إحداهن في أنها تقاسي هذه الآلام لفراق أختها التي تحبها حبا شديدا.. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة هذه الذكرى لشقيقتها، ولكن دون أي جدوى.
وفي ذات يوم تجمعن كلهن، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها، وجلسن من حولها يواسينها ويقلن لها في رقة وعطف:
’’ كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم؟! وإلى متى تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم؟!
إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها. فبأي سبب تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأجزان؟
حسبك يا مولاتي... حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه. قومي.. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان. جففي لحظيك من هذه الدموع ليعود إليهما سحرهما، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه... اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياقوت الرحيق، فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب. دعي هذه الغرفة التي جعلت منها بزفراتك جحيما، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد طالت عليه فترة الكمود. مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها. دعي هذه الجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء. أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده، وليتدلى على الجانبين من ليل هذا الشعر قرطاه.
هذه الدنيا وزينته ... هذه الطبيعة وبهجتها.. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة.. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك عنها بكؤوس الدمع والأحزان.
الحياة جميلة يا مولاتي، وأنت أجمل منها. والدنيا من حولك مشرقة، وإشراقك أتم منها. فانهضي... وافرحي.. وابتسمي.. ليتم في الحياة الجمال.. ويتكامل للدنيا الإشراق..‘‘
وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن. فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها، واختلطت أصواتهن في صوت بكائها، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموع لم تسكب مثله إلى ذلك اليوم.
ولا بدع، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقادا، وهو سر مستكن في الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح. لا سيما إن كان هذا الناصح لا يدري سر الحزن والألم في من ينصحه، فهو يلقي على سمعه كلاما بعيدا عن دنيا قلبه وآلامه، لا ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربة وإحساسا بالوحشة والآلام.
ووجمت الفتيات في حزن وأسف... وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمة تشير بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب. ولكن عبرات عينيها، ونشيج صدرها، لم يكن شيء من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث.
ثم نهضن جميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه... وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار.
وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن... فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشةوالانفراد، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات، وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم.. وأحست من قرارة قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحدهم أصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم، وخالطوا كل حبة من قلبها ونفسها. فراحت تتأمل من حولها تلك الأشباح، وأخذت تحدثها قائلة:
’’ مرحبا بكم أيها الأصدقاء.. أيها الأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب المكلومة.. أيها الشركاء في سرِّ ما رواء الجوانح المعذبة، وأطياف الوسن لعيون الخواطر الحزينة... يا كوؤس الراح للحلوق المريرة، ومظهر البهجة أمام العيون القريحة...
العشاق جميعهم قد وصلوا إلى محاريب آلامهم، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج أنسهم وسعادتهم. وها هو ذا قلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم، لا يجوب أحد غيركم في أركانه.
لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون، وأن تتجازوا ذلك إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي. عيناي... سأتخذ منكم شعاع رقادهما، شفتاي... سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري... سأجعل إليكم في أيامي السود، وما أشد شوقي إلى الأنس بكم في ليالي الظلماء.‘‘
ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي‘‘ وكأنها جالسة إليها، تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة، فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم، وتمضي إليه لتعانقه قائلة:
’’ أختاه ... يا روح زين ونور بصرها، يا جليسة أفراحي وهمي، وشريكة سر قلبي، يا عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي. لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة، ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين. فليبتسم لك الدهر، فإن في ابتسامته عزاء لهمي. ولتسعدك الحياة، ففي إسعادها تهوين لشقائي.
أما حظي، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوزالقسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن إليها. كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التي تحيط من حولي، والبؤس الذي يقيم في نفسي. ذلك هو المقدر المسطور.. صفو الحياة وأفراحها من أجلك، وحزنها وآلامها لقلبي. لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيه أفراحها ، ولي مم الذي قدمته إليَّ في همومها وشقائها. فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته.‘‘
أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهر مختلية في غرفتها. وكثيرا ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها، تتأمل احتراقها، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها، وسيرها نحو الذوبان والنتهاء . فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذه الشموع، تسير مثلها نحو الاضمحلال والانطفاء. ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعة وتحدثها قائلة:
’’ أيتها الأخت القائمة حيالي، المحترقة بمثل ناري. لك أن تغتبطي وتحمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها. نارك إنما تعلو ظاهرا منك فقط، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني. نارك إنما تمس منك خيط هذا اللسان، ثم لا تتجازه، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي، ويقيم لهيبها حربا في كل جوانحي وجسمي.
هو في أعلاك نور يشع من حولك بهجة وضياء. وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات وقتاما.
هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام كاوية تفقدني النطق والكلام.
ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجر إلى المساء، زفرات كاوية... ولظى مستعر.. وأجيج متقد.. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار، ليس من فم يطفئه، أو نسمة تخمده.‘‘
وتلمح أثناء اطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع، فتنظر إليها بعينين زائغتين بالدمع قائلة:
’’ أيها الطائر الهارب من عش الفراق، والبلبل المولع بأزاهير اللهب، أيها الحجة الصائبة على المدعي الكاذب، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق.
قل لي، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران، ألا تشعر بتعب من هذا السعي المرتعش الدائب حول هذا المطاف؟
ولكن أسفا.. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في ضجر مرتعش.
كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب، وأن ارتعاشك الدائب طيش لا ينبغي، وأن تعجلك للفناء قبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من الصبر وآلامه.
هلا قعدت تصبر مثلي، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا، وتتلاشى المادة في ضرام الروح؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود، ولعادت روحا صافية في كأس شفافة من النور. وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في جنباته من غير اكتواء.‘‘
وهكذا كانت تمر حياة زين... خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام، يطوف كل ذلك بها، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيء واحد... هو اسم مم... هو حظها المنكوب الذي أبعدا عن أليف روحها، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها.

***


آلام مم

أما ’’ مم ‘‘ فقد كان عديم الصبر والقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه، يشركه في ألمه ووجده، فكيف به اليوم، وقد افتقد من جانبه الصديق، وغاب عن قلبه الأمل، ولك يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم القاتل..!!
لقد كانت فترة وجيزة من الأيام... سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع، المعتز بقوته وشخصه، المعجب ببطولته وبأسه وظهر من وراءها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة. ينظر ما حوله بعينين شاردتين، كأن فيه عتها أو جنونا، يهيم على وجهه بياض نهاره وسواد ليله، متنقلا بين الآكام والتلال، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا، ويتسلق أخرى ذرى الجبال صعودا ونزولا. لا يقر له مكان في أي جهة، ولا يكاد يستأنس بأي انسان.
إنه مم بعينه.. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبت الآمال في نفسه، وكادت تزدهر.
وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين.. إنه اليوم يراه فلا يكاد يتبينه، ويجلس إليه، فلا يرفع رأسه عن إطراقته، ولا يكلمه بغير آهاته وزفراته.
وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير.. إنه اليوم يدخل الديوان، ويرى الأمير أمامه، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه.
ولكنه مع ذلك ظل يكتم سر دائه عن كل مخلوق، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك أي وسيلة في محاولة إسعاده.
أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمته إلى خلوات الشطآن ، أو في بعض سفوح الجبال، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته، ويسكب كل ما في عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله، والمياه الجارية من أمامه جلساء يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره...
كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة، جالسا إليه في حديث طويل، يسكبه على صفحته الرقراقة، قائلا:
’’ أيها المتدفق كدمعي، الهائج مثل نار شوقي.
ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهار إلا هائجا زخارا، لا يقر لك قرار، ولا يهدأ منك البال؟!
أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات هذا العشق وجنونه، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار والهدوء فهي الذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة؟
ولكن من يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها؟ ففيم الهياج إذا؟ وهي نائمة بين ذراعيك منازلها مستقرة في قلبك، يمناك ملتفة منها حول الخصر، وشمالك مبسوطة فوق عقد النحر.
كل هذا، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها!... تظل ترغي وتزبد. هياجك يعلو إلى عنان السماء، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد! ألا قل لي، ما الذي تبغيه بعد كل ما أنت فيه؟ وأي أمل ضاع منك، حتى تظل حول نفسك من أجله؟
لقد كان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي، وهياجك في نفسي، ولقد كنت أجدر منك بأن تعلو إلى السماء زفراتي، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي.
فأنا الذي أظل متحاملا بقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله. تراءى لعيني منه، إذ كان بعيدا، بريق ماء عذب، ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم!
هو يا دجلة قلب مجدب، أحرقه وهج اليأس، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في تطوافك حول هذا البساط الأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج؟ فربما كان أخضرّ فيه أيضا غصن، أوهفت بين سمومه نسمة باردة.‘‘
ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله، فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه، ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا:
’’ أيها النسيم الساري في رقة الروح، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع. هل لك أن تلتفت إلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس؟ إن كان كذلك، فامض أيها النسيم في اتجاه هذا المشرق، فسترى فيه شدة الروعة والجمال، ومحراب سعادتي وأنسي. فإذا ما وصلت فقف بالأعتاب أولا لتقبلها. ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال، ولكن في تواضع ولطف، لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم. ثم تراجع خطوات إلى الوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة.. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه، وجسمه المتقد صفحة كتابته .
فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له في أدب ولطف: إنه يا مولاي بائس مسكين.. عاش فترة في حلم قصير من عطفك، ثم سرعان ماتبدد الحلم وضاع العطف، وغدا يتخبط في دياجير البؤس والشقاء. إنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه، اللهم إلا قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه، وهو اليوم هارب منه قد افتقده منذ أمد طويل. ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه، وربما كان قد اقترف إذ ذاك إثما أو جنى ذنبا، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهم النقص والسهو والنسيان. نعم، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده، وأن يتصرف كما يشاء في عقابه. ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه، وأن تدركه الرحمة له في دينه إلى ظل حماه ولطفه..؟
ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّ بغبار من تراب ذلك المكان. عد إليّ ولو بقليل منه، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسم دائي.‘‘
أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسه مطرقا في غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس .
إنه في تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه. قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم يعد يتعرف إليه. إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا:
- ’’ أيها الخائن الغدار... قل لي.. هل تتذكر..؟
هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان، التي كنت يوما ما تسوقها إليّ جملة واحدة لتؤكد بها مبلغ وفائك وإخلاصك؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي في شدة وعزم، بأنك صادق معي في كل أمر، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت.
هل تذكر إذ كنت تفتخر أمامي، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي ومن أجلي؟
هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي. ذلك الغرام الذي يستحيل أن يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف؟
هل تذكر إذ كنت تتصنع الكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي، وتشعرني بامتهانك لكل من على هذه الأرض في سبيلي؟
أسفا.. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك، ونسيته مرة واحدة لأول هوى في نفسك، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك.
ألا قل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا وراءك هذه الروح المعذبة في محبسها من هذا الجسد؟
هذه الروح التي خلقت معها توأمين، وعشتما معا خير قرينين، تمد وجودك دائما بسر من فيضها، وتبث فيك الاشراق من نورها. حسبك طيشا أيها القلب. وكفاك ابتعادا وتوغلا في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها. فإن الطريق، ويحيك، مظلمة. والهدف أمامك بعيد.
إنها ، ويحك، روحك! روحك التي هي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى تسعى ورائها. إن كان مقصدك الجمال، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن كان النور والاشراق، فمن ذا الذي يغذيك بأكثر من نورها وإشراقها.
أيها القلب عد. عد لا تخدعنك مفاتن الغروروالأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات الثغور والشفاه، ولا يأخذنك سحر العيون النجل، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة الشعور الملتوية. فكل هذا الذي يتألق في عيني كنوره إنما هو نرا وجمر، سرعان ما يتوقد عليك لهيبا، وتهلك في لظاه.
وإلا، فإن مثلك ألف بلبل، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام.. ثملا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب. لظى وضنى واكتواء.. ثمهو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك الورود والأغصان .
أيها القلب أنت معرض نفسك لمجال الهوى والملذات، مقصدك الوصول إلى صفوها والاستمتاع بنعيمها. ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن شفاءك إنما هو الاحتماءعن مطارح الشهوات، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة والحرمان. لقد حدثني هذاالطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو وراءه نفسك، والدواء ليس إلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه.
أيها القلب، كيف أكلمك، وعمّ أحدثك وماذا أقول؟ لا أراك إلا مدبرا عني، لاهيا عن حديثي وصوتي، كأنك لم تكن يوما تعرف صاحب هذا الصوت والرجاء.‘‘
وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا على القلب المسكين، ويتصاعد من سويدائه إلى أعلى الرأس فيه كأنما هو الدخان واليحموم، وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب مركوم في يوم ممطر. ثم ما هو إلا أن ينهمر بسيل من الدموع الحارة متدفقة من العينين! هنالك يروح ’’ مم ‘‘ مستسلما لتلك الدموع في نشوة وذهول، ويظل مستروحا بلهيبها، منتعشا بتدفقها، بعد أن كادت تخنقه غصة تلك الكلمات في حلقه، إلى أن تجف من العين، وتنعصر منه الحشاشة والكبد، حيث يعود ثانية إلى الحرب بين روحه وقلبه، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية، ويظل يعاني من غصتها إلى أن ترحمه حشاشته بفيض آخر من الدموع. وهكذا تظل القصة تتكرر وتعود.
بكى مم حتى تقرحت عيناه.. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته. ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى.
أما داره في المدينة فقد تركها حتى قبل أن يطرحه المرض، فقد كان يحاول جاهدا أن لا يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلامن كان من خاصة أصحابه كتاج الدين، خشية أن يبلغ الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرام الحمية، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير

***

رحلة إلى الصيد

كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلة وأبدع وشي، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندس أخضر وتخفق بنسمات فواحة بالعبير، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت في أطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آيات خالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها، والأودية غاصة بأشجار باسقة، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار، وعيون المياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطر افغانية
وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأميرعلى الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم، وأن على كل صاحب قوس أو نبل، أو ساعد وعزيمة أن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها
وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها. وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبوا كل لوازم الصيد وأسبابه، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساءورجال، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير...
وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام، وغابوا متفرقين في شعاف الجبال، كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء. فربما كان نصيب هذا أسداً كاسراً أو نمراً عاتياً، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه. وربما كان نصيب ذاك غزلاناً بديعة، يثبت لهم بها خفته وبراعته. وربما جاء آخر بأشكال نادرة من الطيور والحيوانات. وربما ظهر فيهم من تلقف من كل صنف ونوع، فراح يهز بينهم سنانه وقوسه، ويلوح لهم بساعده القوية، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظ ولم ينل أي نصيب.
ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره، وموليا كلامن المكافأة والقرب ما يستحق .

***

لقاء الحبيبين

ولندع الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم.. ولنعد أدراجنا إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس، ولنأخذ سمتنا إلى القصر.. فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق. ومع دنو خطواتنا من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘. هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها. ها هي اليوم، تقف على هذه النافذة في ذبول وإطراق، وقد اثّاقل بها الهم والكرب، ونال منها الشحوب والضنى، مسندة رأسها إلى قبضة كفها، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة والميادين. إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه، وتتبين فيه نموذجا عن حالة قلبها المقفر، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها، وتبددت الأحلام الجميلة، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان.
ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن الأمير في تشكيلها وإبداعها. جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها. ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي، أو على أي شاطئ من الشطآن. تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع.
لاحت لها تلك الحديقة خالية.. هادئة، لا يجوس خلالها أي إنسان، ولا يرى من بين أغصانها أي مستأنس أو مستمع، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود، وطيورا يسمع صوتها من بين أوراق الأغصان. فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها - بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها، فتخرج من محبسها في هذا القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة والانتعاش.
واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل وإعياء شديدين، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق، وشدت خصرها من فوقه بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من الفضة، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ وقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل .
ودخلت الحديقة، وراحت تمشي بين جنباتها، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة:
’’ أيتها الأطيار السعيدة: كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين، أسود الحظ، منكوب الطالع، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد! أفليس منكم من يدري في أي روض استوطن، وعلى أي غصن أقام عشّه؟... وهل فيكم من يحدثني عنه، أهو حي لايزال يخفق بجناحيه، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه..؟؟‘‘
ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال. فارتمت عندها، واستندت إلى جذعها، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل. ثم ثبتت عيناها على وردة صفراء، وقد تميزت عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة، فأثار ذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها... وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها، قد اصطبغت بتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض من الوحدة والوحشة، ليس من يرحمها، ولا من يرق لها، فراحت تخاطبها في رقة وحنان:
’’ أيتها الوردة الصفراء، إن اصفرار كهذا والله قد أحزنني. حدثيني، أهو لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات؟ أم هي البلابل. قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء، فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين؟
آآآه... إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة.! إن لي أختا من أمثال تلك الورود المزدهرة الحمراء، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به، ولكنه أبى، وأبعدني عنه، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان.‘‘
وكأنما شاءت الأقدار رحمة بهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء... فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ حين على فراش المرض، رغبة ملحة في الحركة.. في السير.. السير إلى أيّ جهة...!
فأخذ يتقلب مم فترة في فراشه، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في نفسه. ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من الفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه.
ثم نهض فارتدى عباءته الرقيقة، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها.. وأخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه، ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية. فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة. ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها، ويتمم سيره إليها، دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون، وفي أي مكان تقع.
وبعد قليل كان مم يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين، ينظر من وراء سورها إلى جوها الرائع، ويتأمل هدوءها الكامل، وخلو جنباتها عما سوى الطيور. ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في فيء شجرة من أشجارها. فمضى متجها نحو بابها المؤدي إلى الداخل، وقد كاد يسقط من الإعياء.
ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة - شبح مم على البعد، قادما من بين الأغصان..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها... وكانت الفرحة أكبر من قلبها.. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من خيالات أوهامها، أم معجزة حققها الله لها، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها الدهشة، ووقعت مغمى عليها بين تلك الحشائش والأشجار.
أما مم فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله. وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع. فراح يتأمل فينة وهو يقول:
-’’ فيم كل هذا الهلع أيها الطائرالصغير؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك جمالا، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت.
أيها الطائر، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها إلا وردة واحدة، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال، فليس التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد.
ولكن قل لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها! ثم حرمه الدهر من قربها، وأبعده حتى عن روضها، وتركه وحيدا في قفص الوحشة والأحزان؟ ‘‘.
وهكذا ظلت أفكار مم وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش، ولم يكد ينتبه إليها، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره، وألقته في يم من الغشية والنسيان، وهوى صريعا على مقربة من جثة زين.
وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى مم الذي أبصرته يمشي في الحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها. فعادت إليها الدهشة والذهول. وأخذت تحدق النظر في كل ما حولها.. في جدول الماء الذي ينساب أمامها، في الورود التي إلى جانبها، في مم وهيأته، كأنما تتساءل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة..؟
ثم استعادت كامل رشدها.. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن تسعدها في هذا اليوم.. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلى جانبها، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى عنهما حينا من الدهر. ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق، ومدت ركبتها من تحته، وأسندته إليها، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته. وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه.
فتح عينيه.. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين... ورأى أجمل وجه في الدنيا يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو.
ورفع رأسه.. وأخذ يجيل النظر فيها.. وفي نفسه.. وفي سائر ما حوله.. دون أنيدور لسان أحدهما بكلمة. هذا أسكتته الدهشة.. وتلك عقد لسانها الحياء.. ثم أمعن مم في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا:
’’ ماذا..؟ ألست أنت زين..؟ ألست أنت قلبي.. قلبي الذي فقدته من بين جنبي؟ ولكن.. أتراني في منام رائع.. أم نحن في الحياة الأخرى..؟ في جنان الخلد!! ‘‘
فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها، كيما يؤوب إليه رشده:
’’ بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي. ونحن هنا في الحديقة، حديقة قصرنا ألست تذكر.‘‘
وأخذ انتباه مم يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب، وآمن بالحقيقة.. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق لحظة منها، وعاد ينظر إلى زين من جديد. وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول: ’’ إن هاتين العينين من أجلك...‘‘ وفي ثغرها الرقراق البديع، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف، وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها.
وسكت... ثم قال لها في نشوة حالمة: ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين‘‘.. فأجابته: ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا مم. فها أنت ترى كيف فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك منذ أول ما التقينا...‘‘
فدنا منها قائلا:
’’ لا يا زين. إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل. وها أنا ذا ألمح بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن. عيناك... إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر. فيهما معنى رائع، احتارت في معرفته روحي، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني..؟ ثغرك... إن خمره اليوم لتبدو أشد إسكارا، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا. أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر، ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة، إذ تسترخي على العينين الفاتنتين ..‘‘
وقطع حديثة فجأة.. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه:
’’ ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا، مالي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان، أتطاول بهذا الكلام إلى البدر الذي لست أهلا للصعود إليه؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها، أما هذا الروض فإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به..‘‘
ثم قطعت غصة البكاء حديثه، وراح يجهش في بكاء حار أليم! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف مم تبلله بدموعها قائلة:
’’ أقسم يا مم بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به، وبالخلوات التي لم يكن يتراءى لي فيها سوى رسمك، أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت، وسأكون وقفا من أجلك، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا، وإما في الحياة الآخرة...‘‘
ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان. فقاما، واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها. وهناك جلسا يتواسيان.. ويشرحان الهموم والأحزان.. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله.. وراح بهما ذلك الحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها.

***

الوفاء

انتهت الشمس إلى مغيبها، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك، منتشين بخمر اللقاء، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء.
وعاد الأمير وصحبه من الصيد.. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ماصادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصوات والضجة في كل جهاتها، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما.
وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه في إحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر إلى القاعة.. القاعة التي لا يزال مم وزين يتبادلان في غبش ظلامهما حديث الحب في ذهول عن كل شيء. ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح.. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة...!
هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله.. وأسقط في أيديهما...
وهنالك.. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة مم وتضاءلت خلفه. بينما دخل الأمير القاعة، ومن خلفه جماعته، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام...! فصرخ الأمير فيه قائلا:
’’ من هذا القابع هنا، وسط هذه الظلمة، من غير أي رخصة أو استئذان...؟‘‘
فاستجمع مم جرأته، ثم قال، دون أن يتحرك من مكانه:
’’ أنا مم يامولاي الأمير... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني في الفراش، مما منعني عن اللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد، فغادرت الفراش لأمشي قليلا.. ووجدتني أمام هذه الحديقة.. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق..‘‘
فقال له الأمير، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه:
’’ حسنا. وكيف حالك اليوم...؟ وهلا أسرجت لنفسك...؟؟ ‘‘
فقال: ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية.. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي.. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري..‘‘
وأسرج المكان وجلس القوم.. وأخذ تاج الدين يلحظ مم من مكانه في المجلس، ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها، إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه، وساوره القلق.. وتطلعت نفسه إلى معرفة السر الحقيقي لجلوس مم هنا... في هذا الوقت... بهذا الشكل!! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره.. فلم يكن من مم إلا أن مد يده في هدوء إلى داخل العباءة، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها..
فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر.. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة.. ما من ريب في أنها ستأتي على حياته. وأخذ يحاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة.
ولاحت لذهنه الفكرة... فكرة واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر. وما هو إلا أن ان ثنى خلف باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره..!
ودخل الدار لاهثا، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون. فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة:
’’ ماذا... ماذا حدث هل هناك أي عدو؟! ‘‘
فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل:
’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا. أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر..! ‘‘
ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا:
’’ إن مم وزين واقعان تحت ورطة عظيمة، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما. ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما..‘‘
ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول:
’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار...‘‘
وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا، وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع، في سبيل إنقاذ صديقه.. والوفاء له..!
وانطلق تاج الدين يستنجد.. وراح الخبر يسري في كل مكان.. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك.. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء.. بينما تباطأ مم في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما.. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا:
’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر...‘‘

***

وقفة عابرة

أيها الساقي حسبي... حسبي فإن العقل لا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب، وأخشى أن يداهمني سلطان الأجل كما داهم الأمير مم ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل تاج الدين ينجيني وينقذني..
أيها الساقي، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة.. فأبعدها عن شفتي.. أبعدها، فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب.. أبعدها ويحك قبل أن يطرحني وهج الشمس أمام رقراقه الكاذب، ويتلفني هناك الظمأ والضنى...
ولكن.. ولكن حدثني، أليس بين زجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى..؟ تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس، وتسكرني بروعة الجمال الخالد.. وتنتشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقهاالخداع.
آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا.. ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه، لكي أعلو بها فوق هام هذه المادة، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها، والوفاء الذي أدين به.
ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني، وبريق السرير الذي أمتد عليه، إذا كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدها بنور ذلك القصر والزينة والسرير؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي، إذا كان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه؟.
هذه المادة الفانية، ما أثمنها في القلب، وأبعثها للنشوة في النفس، عندما تكون فداء للمعاني القدسية الخالدة. وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركزالبقاء والخلود...

***

عودة الفتنة

لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة. وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما يحيط به من حجب، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي، وسلطانه القاهر، ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا...
ولقد استطاع مم وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما، وأن يحجبا عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا.. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر، وانتثرت مدامعهما بين أبصار الناس، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل مكان، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلاصابه وعلقمه أقاويل كاذبة. وتسرب الخبر إلى ’’ بكر ‘‘.
تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الحبيث، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات اللازمة له. وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه، وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه...!
فثار جنون الأمير - ويا لجنون الأمراء حين يثور - واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه، وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله، وقام يذرع المكان الذي ليس فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى. فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد مم منفردا فيطير رأسه، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا لاهبة على مم وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما.
ولكنه عاد أخيرا، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان. لا يستأهل إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق. فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة والغضبة عليه وحده قائلا:
’’ يبدو أيها الحقير الوغد، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة..! ولكن إعلم أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي تقول‘‘.
فجمدت ملامح بكر قليلا، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد.. ثم عاد فتمالك رشده قائلا:
’’ يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا مم إلى مبارزة بالشطرنج الذي يفتخر بالمهارة في لعبه. وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل ما يقترحه ويتمناه. فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك..‘‘
فأعجب الأمير بهذا الرأي.. وسرعان ما التفت فدعا خدمه، وأمرهم بإعداد القاعة الكبرى - وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح - وتهيئتها لسمر حافل تلك الليلة، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء مم ليأتوه به، ويبلغوه دعوة الأمير له للحضور إلى سمر في القصر...
وراح الأمير ينتظر.. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب، ودمه يغلي في رأسه. إنه في ظمأ شديد إلى أن يعرف.. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي بعد ذلك غيظه، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء...
وجاء المساء. وهيئ مجلس الأمير كما أراد.. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في وسط المكان، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة. وامتلأت القاعة بالخاصة من حاشية الأمير ورجاله، إلا تاج الدين وشقيقيه، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث وراءهم. وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن لباسهم وكامل أسلحتهم.
ودخل الأمير. وهب المجلس قائما، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له في صدر المجلس. وجلس الأمير.. وسكت الحاضرون.. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء ورهبة إلى أن وقع بصره على مم، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا:
’’ سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا مم. فهل لك أن تعرض أمامنا الليلة مهارتك هذه، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال.‘‘
فأجاب مم في هدوء، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه: ’’ لم يكن لي يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني بما شاء‘‘.
فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشيرإليه، قائلا:
’’ بل قم.. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها...‘‘
وقام مم من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه.. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة. وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير:
’’ إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه‘‘
وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لمم اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه ما بينه وبين عمته زين من الحب.. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه، وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بمم. فتسلل من قصره، وانطلق متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء، بما له من قرب إلى الأمير.
ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس، يترقبون ما سيحدث...
وتغلب مم على الأمير مرتين متواليتين.. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب الأمير بدهائه ومهارته، وبدا على وجه مم وهو منكب على اللعب في استغراق شديد إشراق واضح من الأمل والسرور.
بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة يتعثر بها مم عن التغلب على الأمير في هذه المرة. إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة وفاء الأمير له بالوعد، وذلك يعني زواج مم من زين...
وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى جدار القاعة المقابل لظهر مم، ترقب اللعب باهتمام.. فالتفت إلى الأمير قائلا :
’’ ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في اللعب...‘‘
فنهض كل من المتبارزين، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها.. وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا مم إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله، ليجد زينا واقفة أمامه ترمقه
وهنالك تشتت ذهنه، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير، كانت عيناه لا تنفكان عالقتين بالاعلى، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى، يفدي الجنود مرة بالخيول، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير، وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس مرات متواليات وختم اللعب على ذلك!
وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي مم الخجل والحياء فنظر إليه قائلا:
’’ إيه أنسيت الشرط يا مم؟‘‘
فأجابه مم وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من الإخفاق الذي انتهى إليه:
’’ لا ... فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء.. ‘‘
فقال له الأمير: ’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك ما لا تغنينا به، أو جاها ترفعنا إليه. و إنما يعنينا أن نعرف السرائر... فحدثنا عن قلبك. قل لنا من هي التي تكن لها حبا، وتمني شبابك بها، كي ننظر.. فإن كانت لائقة لك، حاولنا إسعادك بها...‘‘
فأطرق مم قليلا، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه . وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه، فقال:
’’ يا مولاي: يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد كنت رأيتها مرة، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس الأمير...‘‘
فأثار هذا الكلام غضب مم، والهبته حميته وإباؤه، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة والمجد. وأسكرت الطعنة عقله. فنسي الأمير الذي أمامه، والناس الذين من حوله، وانتفض منتشيا يقول لبكر:
كذبت والله أيها الحقير النذل، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك، وكفؤ دنائتك. أما التي عندها قلبي، فرفيعة المجد، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها، رائعة الجمال، لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها... أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن ينازعها فخر ذلك. إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق.
إنها... إنها أميرة هذه الجزيرة...! ‘‘
وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة الغضب قائلا:
’’ ولأجل ذلك، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها، مدنسا بدناءتك قصري هذا...؟‘‘
ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا:
’’ ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا؟ هيا.. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان فقد آن أن يعتبر بع غيره...‘‘
وقبل أن ينقض الحرس على مم، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء، كل منهم هامة، وساعد، وقامة..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب. وراح أوسطهم وهو تاج الدين يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى مم.. قائلا:
’’ مكانكم أيها الاوغاد، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلوا بطشنا! أم أنكم نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا...؟
ربما تستطيعون أن تصلوا إلى مم، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم، وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم..‘‘
ثم دار رأسه نحو الأمير، يرمقه بطرف عينه قائلا:
’’ أما مولانا الامير.. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه.. فإن له في أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه... قد لا يكون من المناسب أن ننكرها..‘‘
وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى مم فقيد يديه، وأمر به إلى السجن..! وسكت تاج الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم. ولكنهم لم يجدوا من الحكمة - وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس - أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا.
ثم فض المجلس، وانصرف الناس في وجوم وحزن. بينما كان مم يتخذ طريقه إلى قاع السجن!

***

صفاء الروح

حكم الفلك أزلي قديم، وإصرارالدهر قضاء لا يتراجع، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ.
فماذا يغني التأوه والضجر، وأي فائدة يجني الألم والتوجع، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان؟!
على أن السجن الذي انتهى القدر بمم إليه لم يكن كأي سجن آخر، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها، اللهم إلا من تلك الكوة العليا، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء.
وأنزل مم إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره. فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصر شيئا سوى أشبح السواد المدلهمة المطبقة من حوله، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس، وراح يخطو في حذر متلمسا بيديه الهواء، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة...
تفكر شبابه الغص وقوته النابضة... عزته وبأسه.. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام. ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا، والسكرة التي غشيتهما في مسائه...
وتذكر الآلام.. والآمال التي ترعرعت في نفسه، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله، وتصدع قلبه.. قلبه الذي لم يرحمه أحد، ولم يعطف عليه إنسان، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به، والدموع التي قرحت عينيه، وروى بها الآكام والسفوح، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة! ثم تلك السويعات الجميلة... التي كانت كل أيام سعادته من دنياه، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده. ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش.. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر: هذا الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها.. افتراآتهم عليه، واستعانتهم بدموعه وآلامه.. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته.. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير.. الأميرالذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيته والاستمتاع به. لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل.
وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا.. حتى رق قلبه عليه، وأدركته الرحمة لنفسه، وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع، وأمله الذي خاب، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام.
ثم التفت حوله، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه، وتراءت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها، يمتد عليها بساط مهلهل.
وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه الرحمة والعطف، ليتعلق به ويبثه كربه، ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء، لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا. فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن فيها، ولم يجد أمامه إلا السماء.. السماء التي هي وحدها بمثابة المكروبين ومآل البائسين والمظلومين. فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا:
’’ رباه ألست تبصرني..؟
ألست تبصرني، وأنا عبدك الضعيف، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها...؟
رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي، وإنما سحقوا جراحي، كما ترى، في التراب، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي. فارحمني أنت يا رب، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك، ولن أتذلل إلا لجلالتك...‘‘
ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب..
وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة، يناجي الله سبحانه قائلا:
’’ إلهي، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها، فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها. فليظلمني الظالمون، وليكد من أجلي الكائدون، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش. فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله.
ما أعذب إلى نفسي الصبر.. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك.
أما اليأس.. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي؟ّ أقسم بالقدّ الذي سبيتني باعتداله، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله، أقسم بالنور الذي أضرمته علي نارا، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا، أقسم بكل ذلك أنهذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني وبينه حجاب الموت! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك.
ولماذا لن يسعد...؟ وهما وحقك يا مولاي، كما تعلم، روحان طاهرتان عفيفتان، لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف، ذي الرحمة الواسعة، والعدل الشامل.
واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم...! إذ نمضي إلى رحابك، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين، وتضمنا بين ذراعي رحمتك، آمنين مقبولين..‘‘
وهكذا أخذ يهبط إلى قلب مم، وهو في قعر تلك الموحشة، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم. وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده. فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى، ويتعبده لياليه وأيامه. يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة...
وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق. وكلما راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة، ازداد غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب.
وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا.. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها...



مموزبن.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى