ليس من عادتي في الفجر أن أغسل نفسي بالأسئلة، ولكنني في فجر هذا اليوم المتدثر بمطر شفَّاف خفيف كوجهِ رُوحي، اصطدمَتْ ذاكرتي ؛ وهي تنزع عنها غطاءَ النوم؛ بسؤالٍ شبَحٍ يرجُّها:
- ماذا تريدين حقا؟!
ذُهِلتُ من السؤال، وقلتُ بارتباك طفلٍ ضُبط متلبساً بمصِّ أُصبعه:
- أُريد نفْسِي التي لم أرَ وجهَها قطُّ.
- بل تريد وجهَ الجشع الذي يتمطَّى زيتاً لزِجاً في داخلك، دون أن تعلم أنه جزء منك، كلما تآلفتَ معه عشقتَه، ورأيتَ خَطوكَ الذي تُبصر به.
نفضتُه كثوبِ وَسْوسةٍ، وقلتُ:
- هذا يكفي.
ودخلتُ في موجةٍ من الكآبة، والإحباط، والتململ، والشك، وجدتُني إثْرَها صوتاً لا نَسْلَ يَربطهُ بصوتي، وكأنه آتٍ على أجنحة المجهول ليَحطَّ في سمعي، ويهمسَ: ما المشكلةُ فيما أنت تريدُ؟ إرادتُك زمنُك، فكُنْ بالكامل حيث أنت الآن، لا حيث كنتَ، واختبرْ ما لديك تَجِدْك مُمسِكاً بنفسك. فنحْن سرعان ما نُهْمِل ما لدينا، ونسعى للبحث عن غيره فنشقى، وتبدو لنا الحياةُ غير مستحقة للعيش.
أصغيتُ له، فجَرَى نهرٌ من العلاج الصافي في نَفْسِي.. علاجِ التململ، والضجر، واليأس، والقلق الصاهل في برِّية الذات. وأدركتُ أن كل ما تُقدمه لنا الحياة برضاها ينبغي أن نَشكرها عليه، وأن نُمارسه بترحيبٍ، لأنه جاءنا دون أن نبذل ماءَ وجوهنا في طلبه. وبهذا نكون قد هدَّأنا فورةَ نارِ النهَم والجشع التي تمور في دواخلنا، والتي تأْبَى الهدوء والرضا بما تقدِّمه لها الحياة، منذ أول فجر فيها.
( الفجرُ، زارعُ الفتنة في هذه البقاع
فجر القتلة والعُشاق
عبر أضوائه الأولى
تزفرُ الجبالُ الهواءَ الثقيلَ
كأنما تلد كوناً بكامله..
كوناً يسرح فيه البشرُ
والحيوانات
والأكاذيب
و يسرح فيه السماسرة
الذين أتوا من كل بلاد العالم
لامتصاص ضرع الأرض
وما خلفته عظام حيوانات بائدة.
يمضي الموكب في هذا الصباح
الذي انفصل عن فجره الأول
وأصبح غريبا وفظّاً
وحارسَ ثكنات.
كل شيء قابلٌ للبيع والشراء
كل شيء قابل للاندثار
بسرعة وجوده
وبسرعة لغط الألسنة الكثيرة
وبكاءِ الأمهات على ضحايا الطرق
التي تصرخ بنهمٍ،
هل من مزيد لهذا النهر من الدماء..؟
هل من مزيد لطبقات الألم
وهذا الوحش الكاسح بمفازاته
وناطحات سمائه؟.)*
اغتسلتُ بماء الفجر ، فتألق عقلي،وتَوقَّف هُنيهاتٍ في منعطفات الكون لاقتطافِ بعضِ زهورِها السريَّة ليتسَنَّى له التفكيرُ بالرغبات الهائلة، وحالاتِ التعطُّش والإكراه التي تزْهر في تُربة حياتي. فما الذي أَعتقد؛ عن وهْمٍ أوصوابٍ؛ أنني لا أستطيع الحياة بدونه؟!وما الثمن المطلوب مني دفعُه مُقابلَه؟! وهل كل رغباتي الملحَّة ستُقدِّم لي إرضاءً خاصّاً مطرَّزاً بالسعادة؟
تمعَّنتُ في هذا بذاكرةٍ كذاكرة الضوء، وبلُطفِ من يشتهي الوجودَ نغمةَ وِئامٍ، لا نغمةَ لهاثٍ خلفَ ما ينقضي كرغوةِ نزوةٍ. وعشتُ معه يوما بعد يوم، فتغيرتْ استجاباتي بين لحظةٍ وأخرى،وعَلمْتُ أن الحياةَ سؤالُ مَعرفةٍ،لا سؤال شهوة، وأن تربيةَ عقلٍ مُمْتنٍّ وشاكرٍ هو أفضلُ ترياقٍ لجُوعِ الجشع الذي لا ينتهي، ولنزعةِ التركيز على تملُّك ما ليس لنا. فأن نَقضيَ الحياةَ كلها عَطاءً ، ولا نتلقى أيَّ شيء، خيرٌ من أن نؤذيَ فيها كائنا مَهْما كان شأنه، ومن أن نتجاهل أو نتجاوز أي شيء. فكل شيء على هذه الأرض هو مِنَّا، وفينا يَدُورُ.
-----------------
* سيف الرحبي: حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة، ط1، كتاب (دبي الثقافية)، الإصدار 30، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي نوفبر 2009م، ص: 87،68.
- ماذا تريدين حقا؟!
ذُهِلتُ من السؤال، وقلتُ بارتباك طفلٍ ضُبط متلبساً بمصِّ أُصبعه:
- أُريد نفْسِي التي لم أرَ وجهَها قطُّ.
- بل تريد وجهَ الجشع الذي يتمطَّى زيتاً لزِجاً في داخلك، دون أن تعلم أنه جزء منك، كلما تآلفتَ معه عشقتَه، ورأيتَ خَطوكَ الذي تُبصر به.
نفضتُه كثوبِ وَسْوسةٍ، وقلتُ:
- هذا يكفي.
ودخلتُ في موجةٍ من الكآبة، والإحباط، والتململ، والشك، وجدتُني إثْرَها صوتاً لا نَسْلَ يَربطهُ بصوتي، وكأنه آتٍ على أجنحة المجهول ليَحطَّ في سمعي، ويهمسَ: ما المشكلةُ فيما أنت تريدُ؟ إرادتُك زمنُك، فكُنْ بالكامل حيث أنت الآن، لا حيث كنتَ، واختبرْ ما لديك تَجِدْك مُمسِكاً بنفسك. فنحْن سرعان ما نُهْمِل ما لدينا، ونسعى للبحث عن غيره فنشقى، وتبدو لنا الحياةُ غير مستحقة للعيش.
أصغيتُ له، فجَرَى نهرٌ من العلاج الصافي في نَفْسِي.. علاجِ التململ، والضجر، واليأس، والقلق الصاهل في برِّية الذات. وأدركتُ أن كل ما تُقدمه لنا الحياة برضاها ينبغي أن نَشكرها عليه، وأن نُمارسه بترحيبٍ، لأنه جاءنا دون أن نبذل ماءَ وجوهنا في طلبه. وبهذا نكون قد هدَّأنا فورةَ نارِ النهَم والجشع التي تمور في دواخلنا، والتي تأْبَى الهدوء والرضا بما تقدِّمه لها الحياة، منذ أول فجر فيها.
( الفجرُ، زارعُ الفتنة في هذه البقاع
فجر القتلة والعُشاق
عبر أضوائه الأولى
تزفرُ الجبالُ الهواءَ الثقيلَ
كأنما تلد كوناً بكامله..
كوناً يسرح فيه البشرُ
والحيوانات
والأكاذيب
و يسرح فيه السماسرة
الذين أتوا من كل بلاد العالم
لامتصاص ضرع الأرض
وما خلفته عظام حيوانات بائدة.
يمضي الموكب في هذا الصباح
الذي انفصل عن فجره الأول
وأصبح غريبا وفظّاً
وحارسَ ثكنات.
كل شيء قابلٌ للبيع والشراء
كل شيء قابل للاندثار
بسرعة وجوده
وبسرعة لغط الألسنة الكثيرة
وبكاءِ الأمهات على ضحايا الطرق
التي تصرخ بنهمٍ،
هل من مزيد لهذا النهر من الدماء..؟
هل من مزيد لطبقات الألم
وهذا الوحش الكاسح بمفازاته
وناطحات سمائه؟.)*
اغتسلتُ بماء الفجر ، فتألق عقلي،وتَوقَّف هُنيهاتٍ في منعطفات الكون لاقتطافِ بعضِ زهورِها السريَّة ليتسَنَّى له التفكيرُ بالرغبات الهائلة، وحالاتِ التعطُّش والإكراه التي تزْهر في تُربة حياتي. فما الذي أَعتقد؛ عن وهْمٍ أوصوابٍ؛ أنني لا أستطيع الحياة بدونه؟!وما الثمن المطلوب مني دفعُه مُقابلَه؟! وهل كل رغباتي الملحَّة ستُقدِّم لي إرضاءً خاصّاً مطرَّزاً بالسعادة؟
تمعَّنتُ في هذا بذاكرةٍ كذاكرة الضوء، وبلُطفِ من يشتهي الوجودَ نغمةَ وِئامٍ، لا نغمةَ لهاثٍ خلفَ ما ينقضي كرغوةِ نزوةٍ. وعشتُ معه يوما بعد يوم، فتغيرتْ استجاباتي بين لحظةٍ وأخرى،وعَلمْتُ أن الحياةَ سؤالُ مَعرفةٍ،لا سؤال شهوة، وأن تربيةَ عقلٍ مُمْتنٍّ وشاكرٍ هو أفضلُ ترياقٍ لجُوعِ الجشع الذي لا ينتهي، ولنزعةِ التركيز على تملُّك ما ليس لنا. فأن نَقضيَ الحياةَ كلها عَطاءً ، ولا نتلقى أيَّ شيء، خيرٌ من أن نؤذيَ فيها كائنا مَهْما كان شأنه، ومن أن نتجاهل أو نتجاوز أي شيء. فكل شيء على هذه الأرض هو مِنَّا، وفينا يَدُورُ.
-----------------
* سيف الرحبي: حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة، ط1، كتاب (دبي الثقافية)، الإصدار 30، منشورات دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، دبي نوفبر 2009م، ص: 87،68.