محمد الهادي زعبوطي - «حقل النجوم» لمحمد علي الهاني: الكتابة للاطفال... ممارسة للحلم باللغة

صباح الخير يا زينب
أنا في اللعب لا ارغب
أنا طفل فدائي
مع الاطفال لا ألعب
أنا طفل فلسطيني
وقومي من بني يعرب
أنشودة طالما رددناها في طفولتنا ولازلنا نستعذب ترجيع صداها المنبعث من أعماق الذات، كنا نحسب كاتبها شاعرا فلسطينيا عايش كفاح شعبه واكتوى بنار الاحتلال طفلا مما ألهمه هذه الاهزوجة الثائرة في طفوليتها وعفويتها وصدقها، مما جعلها تتردد على ألسنة كل اطفال العروبة من الماء الى الماء... وننسى ان ندقق في هوية هذا الشاعر اطمئنانا الى الوهم الاول... وننسى ان الوطن العربي واحد وأن كل عربي فلسطيني... لذلك نفاجأ حين نعلم ان «محمد علي الهاني» الشاعر التونسي هو مبدعها، ونستفيق على حقيقة أنه من مواليد سنة 1949 بتوزر، فليس غريبا على من عايش في طفولته بطش الاحتلال الفرنسي ان يحس بعمق مرارة الاحتلال الصهيوني، وفلسطين عروس العروبة تستأهل ثورة أطفالنا... وليس غريبا على ارض الجريد ان تنجب شاعرا فذا يجوب شعره الآفاق ويلهج به كل لسان.
* * *
هذا الرجل / الطفل / الثائر / الحالم زار ايام 25 و26 و27 مارس 2004 مدينة قفصة ضيفا على مهرجان ابن منظور الوطني للادباء الشبان في دورته الخامسة التي احتفت به وكرمته ليكتشف ضيوف المهرجان وجمهوره ان «محمد علي الهاني» شاعر طويل الباع في القول الجميل، ثريّ التجربة، اصيل الابداع، متنوع الانتاج، وهو الى ذلك رجل حساس مازال يحتفظ بطفولته البريئة يشع نورها على كل من حوله ومن يتعرّف اليه، فهو اذ يكتب للطفل انما يستعيد طفولته ابداعا وحقيقة، فعن ذاته يصدر واليها يتوجه.
* * *
رغم معاناته اثار ازمة قلبية (ألا ترونه يقترب من أبي القاسم الشابي من عدة جوانب) أبي الا ان يواصل نشيده ويلازم طفولته الحالمة اذ اصدر في نوفمبر 2003 بتوزر ديوانا للاطفال بعنوان «حقل النجوم» في طبعة ثانية (الطبعة الاولى، عمّان 2002)، وهو كتاب يقع في ثمانين صفحة ويضم عشرين قصيدة افتتحها باهداء الى أمه وزوجته و»الاطفال العرب الذين يجمعون الاحلام المبعثرة في برق واحد يحقق المستحيل»، وقدّم له الاستاذ جمال الدين الشابي المندوب الجهوي للثقافة والشباب والترفيه، ويتخلل القصائد تسعة صور اضافة الى صورة الغلاف، ازدان «بصنوف الالوان والاصباغ ليكون انسا لقلوب (الاطفال) ويكون حرصهم اشد للنزهة في تلك الصور» (عبد الله ابن المقفع)، غير أن لم يكتف بالتصوير بالريشة والألوان بل باللغة يرسم وبالكلمات يصوّر، هي صور ملونة بالحروف المتحولة اصواتا وموسيقى تنطلق من حنجرة الطفل عذبة سلسة دونما تعقيد او تعثر او ركاكة، كما يصبغ الشاعر صوره بكثير من الخيال الطفولي فهو يفتتح الديوان بقصيدة «أمنية»: ليتني طائر في السماء أطير لحقول النجوم ألم البدور وأنضدها باقة من عبير لك يا وطني يا ملاذ النسور» (ص12).
ويختتمه بقصيدة «نشيد الابطال»:
«على صهوة المجد ننتقل
وفوق السماوات نحتفل
وننسج بالجمر راياتنا
فتحمل راياتنا الشعل
ونقتحم الشمس في زحفنا
فتخضّر من زحفنا السبل» (ص 76)
ويتخلل هذا الخيال الطفولي كل القصائد بل انه منذ عنوان الديوان يطل علينا طفل يزرع «حقل النجوم»، غير ان الشاعر بهذه الالوان والاصباغ يرسم صورتين مترابطتين هما: صورة للطفولة وصورة للوطن.
* * *
ليست الطفولة في الديوان لهوا وعبثا وإن حق لها ذلك بل هي الحلم والالتزام دون تكلف وفلسفة، فالقيم السامية هي بالاساس احلام طفولية يفسدها الكبار بأقنعة فلسفاتهم ومشاحناتهم. هي طفولة حالمة بتحويل الكون الى جنّة بألوان قوس قزح: «يا قوس قزح / ألوانك تنعشنا / وتضيء مواسمنا / يا قوس قزح / ألوانك كزهر في دمنا / باقات مرح / يا قوس قزح...» (ص 62 63). هي طفولة تعانق الذرى (النجوم الشمس البدر السماء القمم البرق الشهب...) تعانق النور (النجوم الشمس البدر السني الضياء الفجر...) طفولة تطوع عناصر الكون لخيالها الساحر: «الجبال لنا تنحني / وتقول اعبروا / درّبكم اخضر / والمدى صور / والذرى تحت ارجلك خفر». (ص 15) غير أن هذا الخيال وهذا الحلم يعانق القيم النبيلة فتكون طفولة ملتزمة بحلمها الوردي وبجثتها الخضراء وبكونها المضيء، بل هو وعي عميق ورؤية للكون والوجود والحياة والوطن:
«نضيء البرق في دمنا ونعبر
دروب الشمس في الوطن المعطر
ليبقى النور في عينيك اخضر
يناغم بالاماني كل شاد
ويرحل في عبيرك يا بلادي» (ص 33)
والطفل في هذا الديوان يحضر متكلما ومخاطبا. فيتكلم مفردا:
«ليتني زهرة في رياض الربيع» (ص 13)
أشدو في السر وفي العلن
يا وطني الاخضر يا وطني» (ص 46)
«أنا جنة الخلد في بيئتي» (ص 52)
ويتكلم الطفل جمعا:
«نحن اشبال شداد
نتخطى العقبات» (ص 69)
«ونحن البواسل جيش الفدى
لنا المجد صفق ثم انحنى» (ص 58)
«لنا قامة الريح يا وطني
ونحن لغيرك لاننحني» (ص 72)
كما يحضر الطفل مخاطبا جمعا ومفردا: «يا صغار اعبروا / حلمكم يكبر / يا صغار اعبرو / يومكم مشرق / غدكم مزهر» (ص 16)
«بلادك يا نشء بيت القصيد
بلادك جنات عدن وعيد
طريقك معشوشب اخضر
وتحت خطاك جرى الكوثر» (ص 66 67)
بل ان الطفل يخاطب الطفل:
يا رفيقي نحن منها
وهي منا... فلنصنها» (ص 28)
فرغم تلاوين الضمائر يتضّح ان الطفل في الديوان هو المتكلم الوحيد، هو الذات في مختلف تشكلاتها وتمثلاتها، تنساب في نغم يعانق الكون، لذلك يصح القول إن محمد علي الهاني طفل كبير تمكن من استعادة توقع طفولته وتوهج احلامها ورقة احساسها وصدق مشاعرها وعفوية عباراتها. الاطفال عنده هم «الاشبال» و»العمال» و»الابطال» (عناوين قصائد) وهم كذلك «الوطن».
* * *
الوطن حاضر في كل القصائد، إسما يتكرّر ونشيدا يتردد، فهو «وطني» و»وطني الاخضر» و»بلادي» و»بنتي» و»العلم» و»الوطن الكبير» و»وطن العروبة» وصورة الوطن في عيني الطفل محمد علي الهاني جنة:
«وطني جنة عالية
القطوف بها دانية» (ص 49)
«يا فردوس جمع الفضلا
لا أغلى منك ولا أحلى» (ص 45)
«وطن العروبة جنة
غناء تسحر كل لب» (ص 42)
«بيئتي روض جميل
وربيع لا يزول» (ص 26)
وهو الحب والجمال: «وطني وطني / ما اغلاه / وطني وطني / كم اهواه / هو في قلبي / هو في هدبي / نور يسبي / ما احلاه / وطني وعد / وغد يشدو / وطني ورد / أنا ارعاه...» (ص 24 25) «وطني يناغمه الاريج / والاخضرار به يموج / وطني السنابل والسنى وطني الخمائل والمروج» (ص 18).
وهو المجد والفخار: «المجد عطر ارضه / والنصر موعده البهيج» (ص 19) «وقفنا يا بلاد المجد نشدوا» (ص31). «لنا علم للذرى ينتسب / يسير به المجد فوق الشهب» (ص 38).
وهو وطن الفداء والوفاء: «ايها الضامنون للنور... إنا / نقتبس النور من جراح الشهيد» (ص 37). «وطن العروبة في دمي» (ص 41). «ونقتبس منه الوفاء والصمود / ونفديه بالروح عند الطلب» (ص 39). «إن الشهيد بدمه / أحلى القصائد قد كتب» (ص 49).
وهو وطن الحلم: «ونحن الحلم في عينيك يعدو» (ص 31). «الحلم سماؤك ياوطني / والتبر ترابك يا وطني» (ص 44).
* * *
ويتضح اخيرا ان الصورتين (الطفولة / الوطن) وجهان لعملة واحدة فالطفولة هي الوطن والوطن هو الطفولة، عثر الشاعر اخيرا على جنته المفقودة عندما نسي انه رجل وتخفف من اعباء الكبار وقرف اقنعتهم وحسابات الخسارة والربح لديهم. فانعدمت في الديوان لغة الوعظ والارشاد. ولغة الواجب والممنوع وتسريبات المحرّم، وسياسة الترغيب والترهيب... صمت الكهل ليتلكم الطفل حتى ان الكتاب قارب النداء العالمي: «يا صغار اعبروا» دعوة للتحدي على طريقة «يا عمال العالم اتحدوا» وغيرها من الصيحات. فجاءت اللغة سلسة سهلة بسيطة متينة معجما وتركيبا، والدلالة واضحة. هي لغة لا تتخلى عن جودتها وعمقها ونبل قيمها... وهل يوجد انبل من الطفولة!.
حقا لقد اثبت محمد علي الهاني ان الطفل وحده من يستطيع الكتابة للاطفال، فمتى يتخلى الواعظون عن صلفهم ووصايتهم؟ ومتى يتخلى التافهون عن تهريجهم وعبثهم؟ محمد علي الهاني يرسم بعض علامات الطريق وهو يرتفع عن آلامه باحلامه.
«لله ما أحلى الطفولة ... إنها حلم الحياة» (الشابي).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى