أشدّ وقعا من تأثير المآسي و أقسى من جراح الحبّ هو ذلك الإحساس المبهم الذي أسرني في سجن بلا قضبان منذ اجتاح المرض جسدي النحيل... و كانت حياتي من قبل سلسة ناعمة تعج بالأوقات المرحة التي نهلت منها أقساطا من الراحة كانت تمكنني من نسيان عقبات تجاوزتها ثمّ وفجأة كشرت الحياة عن أنيابها ، و أصبحت أكثر قسوة و صلابة من قبل و كان زوجي الصبور و ابنتي قد ناضلا خلالها كثيرا وتحدّيا ببسالة براثن الموت المحتم الذي يطاردني...
لم تفارق تلك البسمة المفعمة بالأمل شفتيّ اللتين كساهما الشحوب، صرت عاشقة للحياة أكثر من ذي قبل، تمسكت بأيّة وسيلة ارتأيت فيها سبيلا للنجاة من سقمي الذّي اغتال الآلاف فلم أتوان عن تجرع مختلف العقاقير التي وصفها لي الأطباء، الضّالعون في طبّ الأعشاب و حتى أصدقائي ذوو المعرفة الطبيّة المحدودة... تظاهرت بالشجاعة و الرضا بالابتلاء الذي كتبه اللّه لي لكنّ حربا ضارية كانت تدور في داخلي... برع المحيطون بي من الأطباء والممرضون، وحتى أقرب الناس إلي في التظاهر لإيهامي بضرورة تجاوز تلك الحقيقية المرّة التي تبرهن أنّ أيامي أضحت معدودات...
بقيت أتأمل جدران الغرفة في ضجر، و أستجدي عقارب الساعة الحائطية كي تدور بسرعة ، فقد أنهكني المرض و نال مني الشوق... مرّت الساعات متثاقلة كئيبة، و قد جالت في خاطري هواجس جمّة .. و كنت كلّما أحسست بشبح الموت يقترب مني شيئا فشيئا، أصاب بالهلع و تعتريني قشعريرة تهتز لها جميع أطرافي فيحبطني التفكير في عجزي عن تحقيق أحلام طالما صبوت إليها... و فجأة، تسلل إلى مسامعي وقع أقدام في المررّ و سرعان ما فتح باب غرفتي فدلفت الممرضة ونبأتني بقدوم الطبيب ، و بعد أن فحصني، تمتم معها بكلمات لم أتبيّنها ثمّ انصرفا فيحزم واجم ...
بقيت وقتا أجوب أرجاء الغرفة الصغيرة التي يكسوها بياض مبهم في رتابة مقيتة وأطلّ أحيانا من النافذة على الشارع المكتظ بالمارّة وعندما يصيبني الإعياء أتمدد على السرير مجددا...
عندما حلّ المساء و اقترب موعد الزيارة، حاولت التجمل قليلا لملاقاة زوجي العزيز و ابنتي الغالية، فخبأت شعرا لم تعد فروة رأسي تحوي سوى القليل منه بوشاح جاءني ضمن كثير من الهدايا التي قدمت إليّ في عيد مولدي الذي كان الأكثر حفاوة منذ كينونتي ربما لأننا لا نسعد كثيرا إلاّ إذا اعتقدنا أنه قد يكون الفرح الأخير و لا نولي الأشياء أو الأشخاص فائق حبنا إلا إذا خفنا فقدانهم فقد حرصوا أن تكون تلك الحفلة الأروع على الإطلاق كبرهان ولاء أو مساندة تمكنني من تجاوز مصابي و تمنّ عليّ بقليل من السلوى و البهجة الذاوية... و خبأت فتور وجهي وراء ابتسامة مريرة تدربت عليها مرارا أمام المرآة التي رأيت فيها حطامي...
أرهفت السمع علنّي أسمع أصوات الزائرين حين يدلفون إلى البهو كما تعودت منذ حجزت بهذا المكان الذي يحضرونني فيه لاستقبال الموت مدعيين أنهم يحاولون مساعدتي على الخلاص من دائي اللّعين...
كنت أنصت بإذعان للضجيج التي أحدثه وقع أقدام الوافدين وعيناي معلقتان بالباب انتظر حلولهما بشوق جارف و خوف من فوت وقت الزيارة عليهما دون أن أراهما فعلّها تكون فرصتي الأخيرة...
لم يطل انتظاري كثيرا، فماهي إلاّ أن سمعت صوت خطوات متلاحقة في الممر تدنو من باب غرفتي و إذ بزوجي يظهر من وراءه و امتدت بيننا جسور الشوق و الهيام و أدركت حينها أنّ هاجس فراقه أقسى من عذاب المرض ... لقد بدى متعبا هذه المرّة فعبثا حاولت تلك الابتسامة الحزينة التي كست وجهه إخفاء ألمه الشديد... أخذ يقترب مني ببطء...
و قد سبقته ابنتي التي ارتمت في أحضاني باندفاع مطلقة العنان لمشاعرها المشتتة بين الشوق و الأسى و الخوف من فراق أبدي..
بكينا بحرقة مطولا حتى أنّه لم يثننا عن ذلك بحدّة كعادته ما استسغت منه شعورا شديد المرارة...
ارتمى على الكرسي قبالتي و طفق يتأملني بعمق يلفه صمت رهيب، أمّا هي فقد شرعت تسألني بلهفة عن صحتي و ظروف اقامتي بالمصحّة فطمأنتها و أثنيت على الممرضين و الأطباء ...
أخبرتني أنّ الطبيب قد طمأنهما على حالي و قال لها أنّ العلاج يشهد تطورا ملحوظا، كانت تحدثني بمضض و كأنما تداري سرّا ما فتظاهرت بتصديق كلامها المنمق الذي يبعث الحماس
و الأمل مجددا في قلب أرهقه المرض و أضناه الخوف من المجهول...
و سرعان ما شرعت في توضيب الأغراض الوفيرة التي جلباها، عندها بادر بسؤال قرأ جوابه في عينيّ و لكنّه وجد نفسه مجبرا على طرحه فقال بصوت خافت حزين:
ــ كيف حالك؟ أتشعرين بتحسن؟
ــ نعم ...
قلتها بمرارة فرد بحسرة :
ــ الحمد للّه ...
ثمّ أخذ يجوب ببصره في أرجاء الغرفة و أضاف قائلا:
ــ لابدّ أنّك تشعرين بالوحدة في هذه الغرفة المنفردة، سوف أحضر لك بعض الكتب في المرّة المقبلة...
فأومأت برأسي و ابتسمت له تقديرا لعنائه اللاّمتناهي في الاهتمام بي ، وددت لو أطلب منه أن يحضر لي كتابا يعلمني كيف لا أموت لكن كلماتي تراجعت إلى فمي ذليلة خجولة فطلبت منه أن يجلب لي قلما و مفكّرة أودع فيها ما يختلج في ذاتي، وأودع على صفحاتها ما يعلم الناس الصّبر...
دار بيننا حديث مطوّل دون أن ننبس شفاهنا بكلمة... بقيت أتأملهما بحسرة ،تمنيت أن يقف بي الزّمان و وددت حينها ألاّ أرى غيرهما حتى تأزف تلك الساعة، ساعة الرحيل الأخير، لكنني أحسست أيضا أنني سوف أعيش طويلا و سوف أشارك زوجي احتساء الشاي حذو المدفأة و هو يطالع الجريدة في ضجر وراء نظارته الضخمة و أحفادنا يلهون في الحديقة محدثين صخبا...
لكنّ سرعان ما انتفض من مجلسه و نظر إليّ بحزن، تقدم فودعني برقة، و كذلك فعلت عزيزتي، لأنّ وقت الزيارة كان قد انتهى منذ برهة... ظلّلت أتتبعهما ببصري و هما يبتعدان شيئا فشيئا... و آرقني ذلك السؤال اللعين الذي عذبني طويلا ..." أ لا تزال في العمر بقية لأراهما مجددا؟"... و كنت أعد نفسي أنني سوف أعيش طويلا...
وما إن تواريا عن ناظريّ حتى اقترب مارد الظلام رويدا رويدا... فدسست رأسي بين يديّ والتجأت إلى أحضان البكاء بنشيج تعالى صداه في أركان الغرفة... شعرت بخفّة تسري فوق جليد الوهن، و بوهج يبعث الحياة في عروقي، و رأيتني أتلوى كحيّة أثملتها ألحان عازف مجنون .. اجتاح إيقاع موسيقى حزينة مسامعي الوجع في صدري و كانت الحياة تدبّ في أطرافي مجددا كلّما أمعنت في الرقص أكثر.. فطفقت أدور وأدور بلا كلل و لا تعب في الفضاء الرحب بحركات رشيقة تنساب مني في انسجام و سلاسة كأنّما تخبرني بأني مازلت أجيد الحياة.. و حين اشتد صخب الإيقاع و صار الحزن أكثر ضراوة، شعرت بأجنحة من نور تعلوا بي شيئا فشيئا، حتى أصبحت أرى بقعة الضوء التي كنت أرقص فيها تموت تدريجيا...
لم تفارق تلك البسمة المفعمة بالأمل شفتيّ اللتين كساهما الشحوب، صرت عاشقة للحياة أكثر من ذي قبل، تمسكت بأيّة وسيلة ارتأيت فيها سبيلا للنجاة من سقمي الذّي اغتال الآلاف فلم أتوان عن تجرع مختلف العقاقير التي وصفها لي الأطباء، الضّالعون في طبّ الأعشاب و حتى أصدقائي ذوو المعرفة الطبيّة المحدودة... تظاهرت بالشجاعة و الرضا بالابتلاء الذي كتبه اللّه لي لكنّ حربا ضارية كانت تدور في داخلي... برع المحيطون بي من الأطباء والممرضون، وحتى أقرب الناس إلي في التظاهر لإيهامي بضرورة تجاوز تلك الحقيقية المرّة التي تبرهن أنّ أيامي أضحت معدودات...
بقيت أتأمل جدران الغرفة في ضجر، و أستجدي عقارب الساعة الحائطية كي تدور بسرعة ، فقد أنهكني المرض و نال مني الشوق... مرّت الساعات متثاقلة كئيبة، و قد جالت في خاطري هواجس جمّة .. و كنت كلّما أحسست بشبح الموت يقترب مني شيئا فشيئا، أصاب بالهلع و تعتريني قشعريرة تهتز لها جميع أطرافي فيحبطني التفكير في عجزي عن تحقيق أحلام طالما صبوت إليها... و فجأة، تسلل إلى مسامعي وقع أقدام في المررّ و سرعان ما فتح باب غرفتي فدلفت الممرضة ونبأتني بقدوم الطبيب ، و بعد أن فحصني، تمتم معها بكلمات لم أتبيّنها ثمّ انصرفا فيحزم واجم ...
بقيت وقتا أجوب أرجاء الغرفة الصغيرة التي يكسوها بياض مبهم في رتابة مقيتة وأطلّ أحيانا من النافذة على الشارع المكتظ بالمارّة وعندما يصيبني الإعياء أتمدد على السرير مجددا...
عندما حلّ المساء و اقترب موعد الزيارة، حاولت التجمل قليلا لملاقاة زوجي العزيز و ابنتي الغالية، فخبأت شعرا لم تعد فروة رأسي تحوي سوى القليل منه بوشاح جاءني ضمن كثير من الهدايا التي قدمت إليّ في عيد مولدي الذي كان الأكثر حفاوة منذ كينونتي ربما لأننا لا نسعد كثيرا إلاّ إذا اعتقدنا أنه قد يكون الفرح الأخير و لا نولي الأشياء أو الأشخاص فائق حبنا إلا إذا خفنا فقدانهم فقد حرصوا أن تكون تلك الحفلة الأروع على الإطلاق كبرهان ولاء أو مساندة تمكنني من تجاوز مصابي و تمنّ عليّ بقليل من السلوى و البهجة الذاوية... و خبأت فتور وجهي وراء ابتسامة مريرة تدربت عليها مرارا أمام المرآة التي رأيت فيها حطامي...
أرهفت السمع علنّي أسمع أصوات الزائرين حين يدلفون إلى البهو كما تعودت منذ حجزت بهذا المكان الذي يحضرونني فيه لاستقبال الموت مدعيين أنهم يحاولون مساعدتي على الخلاص من دائي اللّعين...
كنت أنصت بإذعان للضجيج التي أحدثه وقع أقدام الوافدين وعيناي معلقتان بالباب انتظر حلولهما بشوق جارف و خوف من فوت وقت الزيارة عليهما دون أن أراهما فعلّها تكون فرصتي الأخيرة...
لم يطل انتظاري كثيرا، فماهي إلاّ أن سمعت صوت خطوات متلاحقة في الممر تدنو من باب غرفتي و إذ بزوجي يظهر من وراءه و امتدت بيننا جسور الشوق و الهيام و أدركت حينها أنّ هاجس فراقه أقسى من عذاب المرض ... لقد بدى متعبا هذه المرّة فعبثا حاولت تلك الابتسامة الحزينة التي كست وجهه إخفاء ألمه الشديد... أخذ يقترب مني ببطء...
و قد سبقته ابنتي التي ارتمت في أحضاني باندفاع مطلقة العنان لمشاعرها المشتتة بين الشوق و الأسى و الخوف من فراق أبدي..
بكينا بحرقة مطولا حتى أنّه لم يثننا عن ذلك بحدّة كعادته ما استسغت منه شعورا شديد المرارة...
ارتمى على الكرسي قبالتي و طفق يتأملني بعمق يلفه صمت رهيب، أمّا هي فقد شرعت تسألني بلهفة عن صحتي و ظروف اقامتي بالمصحّة فطمأنتها و أثنيت على الممرضين و الأطباء ...
أخبرتني أنّ الطبيب قد طمأنهما على حالي و قال لها أنّ العلاج يشهد تطورا ملحوظا، كانت تحدثني بمضض و كأنما تداري سرّا ما فتظاهرت بتصديق كلامها المنمق الذي يبعث الحماس
و الأمل مجددا في قلب أرهقه المرض و أضناه الخوف من المجهول...
و سرعان ما شرعت في توضيب الأغراض الوفيرة التي جلباها، عندها بادر بسؤال قرأ جوابه في عينيّ و لكنّه وجد نفسه مجبرا على طرحه فقال بصوت خافت حزين:
ــ كيف حالك؟ أتشعرين بتحسن؟
ــ نعم ...
قلتها بمرارة فرد بحسرة :
ــ الحمد للّه ...
ثمّ أخذ يجوب ببصره في أرجاء الغرفة و أضاف قائلا:
ــ لابدّ أنّك تشعرين بالوحدة في هذه الغرفة المنفردة، سوف أحضر لك بعض الكتب في المرّة المقبلة...
فأومأت برأسي و ابتسمت له تقديرا لعنائه اللاّمتناهي في الاهتمام بي ، وددت لو أطلب منه أن يحضر لي كتابا يعلمني كيف لا أموت لكن كلماتي تراجعت إلى فمي ذليلة خجولة فطلبت منه أن يجلب لي قلما و مفكّرة أودع فيها ما يختلج في ذاتي، وأودع على صفحاتها ما يعلم الناس الصّبر...
دار بيننا حديث مطوّل دون أن ننبس شفاهنا بكلمة... بقيت أتأملهما بحسرة ،تمنيت أن يقف بي الزّمان و وددت حينها ألاّ أرى غيرهما حتى تأزف تلك الساعة، ساعة الرحيل الأخير، لكنني أحسست أيضا أنني سوف أعيش طويلا و سوف أشارك زوجي احتساء الشاي حذو المدفأة و هو يطالع الجريدة في ضجر وراء نظارته الضخمة و أحفادنا يلهون في الحديقة محدثين صخبا...
لكنّ سرعان ما انتفض من مجلسه و نظر إليّ بحزن، تقدم فودعني برقة، و كذلك فعلت عزيزتي، لأنّ وقت الزيارة كان قد انتهى منذ برهة... ظلّلت أتتبعهما ببصري و هما يبتعدان شيئا فشيئا... و آرقني ذلك السؤال اللعين الذي عذبني طويلا ..." أ لا تزال في العمر بقية لأراهما مجددا؟"... و كنت أعد نفسي أنني سوف أعيش طويلا...
وما إن تواريا عن ناظريّ حتى اقترب مارد الظلام رويدا رويدا... فدسست رأسي بين يديّ والتجأت إلى أحضان البكاء بنشيج تعالى صداه في أركان الغرفة... شعرت بخفّة تسري فوق جليد الوهن، و بوهج يبعث الحياة في عروقي، و رأيتني أتلوى كحيّة أثملتها ألحان عازف مجنون .. اجتاح إيقاع موسيقى حزينة مسامعي الوجع في صدري و كانت الحياة تدبّ في أطرافي مجددا كلّما أمعنت في الرقص أكثر.. فطفقت أدور وأدور بلا كلل و لا تعب في الفضاء الرحب بحركات رشيقة تنساب مني في انسجام و سلاسة كأنّما تخبرني بأني مازلت أجيد الحياة.. و حين اشتد صخب الإيقاع و صار الحزن أكثر ضراوة، شعرت بأجنحة من نور تعلوا بي شيئا فشيئا، حتى أصبحت أرى بقعة الضوء التي كنت أرقص فيها تموت تدريجيا...
